العدد 4744 - الأربعاء 02 سبتمبر 2015م الموافق 19 ذي القعدة 1436هـ

الخسارة الأكبر

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أربعة ملايين ومئة ألف لاجئ سوري في دول الجوار. ثلاثمئة ألف سوري آخرين هاجروا إلى أوربا. ألفان وخمسمئة سوري تُوفُّوا خلال رحلتهم للمهجر نحو أوربا، بينما المصادر الرسمية السورية تقول بأن الرقم هو عشرة آلاف! هذا يعني أن 20.1 في المئة من الشعب السوري أصبح خارج أرضه. ومثل ذلك الرقم هو مُهجَّر في الداخل، ما يعني أن 40.2 في المئة من الشعب السوري هم لاجئون.

يقولون في معاهد الدراسات الاقتصادية بأن سورية تحتاج إلى 200 مليار دولار كي تعمر من جديد بعد انتهاء الحرب الأهلية، لكن الحقيقة تشير إلى أن الخسارة الأكبر هي ليست في الحجر والمدر، بل في البشر الذين لا يُعوّضون. إنها خسارة جسيمة جداً. إذا ما قلنا أن سورية أنفقت 71 ألف دولار على كل طالب سوري من الصف الأول وحتى الثانوية العامة، فهذا يعني أن كلفة التعليم لـ 5 ملايين و500 ألف طالب/ طالبة سوري طيلة تسعة أعوام هي 391 مليار دولار، هذا أمر مهول!

في الجانب الآخر، حيث الحديث عن القيمة الفعلية للمهنة، فإن المجتمع السوري الذي هو في حقيقته مجتمع مهني بامتياز، ويجيد الصناعات اليدوية والعمل في الصناعات التحويلية، والسلع الاستهلاكية والوسيطة، فإن الحرب أظهرت أن 60 في المئة من السوريين المَهَرَة الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و45 عاماً قد أصبحوا مُلكاً لغير سورية، أو أنهم قُتلوا جراء الحرب. ما يعني أن اقتصاداً بقيمة 107 مليارات دولار لم يعد له فائدة. هذه كارثة لا يمكن تخيلها مطلقاً.

أصِبتُ بالأسى، عندما أعلنت ألمانيا بأنها قد تستفيد من اللاجئين السوريين للمساهمة في تغطية 350 ألف من الوظائف المهنية في المؤسسات والمصانع نتيجة عجز المجتمع الألماني في أن يكون فتياً بما يكفي. فالسوريون لديهم حِرف نوعية، وإن لم يكن لدى البعض منهم ذلك، استُخدِموا في الوظائف ذات الأجر المنخفض، والتي سيقبلون بها مهما كانت الظروف. إنها وجبة جاهزة من العمالة القادرة على زيادة الإنتاجية دون أن يكون لدى ألمانيا أية تكاليف من لحمها الحي.

هي لم تُعلِّمهم، ولم تنفق 639 ألف دولار على كل فرد منهم طيلة تعليمه. كما أنها لم تنفق 3200 دولار كتجهيزات العوائل السورية لأبنائها الطلبة، وبالتالي فهي قد حصلت على كنز ثمين. هذا الأمر لا ينطبق على ألمانيا فقط، بل على عديد من الدول الأوربية الأخرى. ولكل مَنْ تعلَّم في سورية أو اطلع على مجريات التعليم فيها، أدرك قدرة النظام التعليمي هناك (باستثناء مادة التربية القومية) على إنتاج مُخرجات تعليمية متماسكة وقوية في تحصيلها.

لذلك، لم أستغرب عندما قرأت عن ذلك الطفل السوري، الذي تحدثت عنه صحيفة ليبراسيون الفرنسية، كيف أنه تفوق على أقرانه الفرنسيين وهو مختص بمجال هندسة العلوم. هذا نموذج لعشرات الآلاف مثله، ممن قد يجدون ذات الأمر في الدول التي سيحطون الرحال فيها، بينما ستصفر الريح في وطنهم سورية، حين لن تجد ما يكفي من الطلاب كي يكونوا جهداً عقلياً وعضلياً فيها. من هنا، تتحقق القراءة التي سقناها في بداية المقال، من أن خسارة سورية من الحجر والمدَر، هي أقل بكثير من خسارتها في البشر، سواء مادياً أم معنوياً وعلى المدى الطويل.

نعم، هناك جانب مأساوي في القضية، كتلك الأنباء المبكية التي نسمعها في وسائل الإعلام، والتي تصف لنا موت الآلاف من السوريين وهم في طريق البحر نحو الغرب، لكن الجانب المتروك والأكثر ألماً هو الذي أشرنا إليه. فسورية، مطالبة في السنوات العشرين القادمة، أن تعيد ترميم ما أنفقت عليه وجهّزته طيلة خمسين عاماً، وإلاَّ فإنها ستكون دولة فاشلة حتى بعد 100 عام.

عندما وجدت أوربا نفسها تعوم على خمسة ملايين لاجئ خلال الحرب الكونية الأولى كان أول ملف يُعالَج هو هذا الملف، قبل النظر في ثمانية ملايين ونصف المليون قتيل، وملايين الجرحى، والأراضي المتنازع عليها بين الدول، والتعويضات، لأنهم أدركوا بأن هذا الأمر (أمر البشر وتأهيلهم) متعلق بالنهوض والتنمية، وهم في النهاية أبقى من الراحلين عن الدنيا.

قبل أسبوعين قرأت تصريحاً للمحامي العام بدمشق زياد الحليبي نشرته الصحف السورية عندما تحدث عن عصابات تعمل على استغلال السوريين في الهجرة غير المشروعة، ثم حديثه عن محاكمة العديد من «الشخصيات الأجنبية والعربية التي دخلت إلى سورية بطرق غير شرعية بهدف القتل وارتكاب أعمال إرهابية» كما سماها، وتوصيفه لقضايا الهجرة، لكنني لم أسمع كلمة واحدة ذكر فيها إجراءات حماية السوريين من الهجرة والاستغلال والرق كما سماه.

أعان الله الشعب السوري، على ما ينتظره من مستقبل ليس فيه موارد ولا بشر، ولا وفاق أهلي. لذلك، ليس عجباً إن قلنا بأن كل الأحياء التي أصبحت رماداً في حمص وحلب ودير الزور وريف دمشق يمكن إصلاحها وتعميرها في خمسة أعوام، لكن ما لا يعلمه أحد هو كيف ستُصلح سورية (أو ستُعوّض) ما فقدته من شعبها بفعل الموت أو الهجرة كي تستطيع النهوض.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4744 - الأربعاء 02 سبتمبر 2015م الموافق 19 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 7:42 ص

      آه عليك يا وطن

      العراق ثم سوريا واليمن و و و
      آه على الوطن العربي

    • زائر 8 | 4:49 ص

      سوريا اقوى مما وصفت.

      اولاً سوريا ليست في حرب أهلية كما ذكرت إنما هي حرب كونية واضحة المعالم والأطراف المشاركة والأهداف المنشودة لها.
      ثانيا القدرات والمهنية والتعليم الذي يتصف به الشعب السوري لن يضيع وسيبقى بالتأكيد والمهجرين لن يمنعهم حاجز بإذن الله في العودة الى وطنهم الام بعد انتهاء هذه الحرب الغاشمة وستبقى مادة التربية القومية بالتأكيد فلولاها ما صمد هذا الشعب والجيش والقيادة فيه أسبوع كما انتظره من نفق وتعفن .
      تسميتك للحرب على أوربا بالكونية وعلى سوريا بالأهلية نابع عن انحياز وهذا قليل مما سبق يا أستاذ .

    • زائر 6 | 2:03 ص

      وين بياعة البشوت وشرايتها عن الشعب السوري=بعد ان خربوها قعدوا على تلتها

      يعني اللي قلبهم على الشعب السوري فجأة توقف قلبهم واصبحوا بلا مشاعر وبلا عواطف وبلا ضمائر.
      لكي تدمر سوريا وتخرّب بيعت البشوت باسعار خيالية واصبحت الطرارة مهنة للبعض لجلب السلاح والارهابيين لسوريا.
      الآن خربوها وقعدوا على تلتها

    • زائر 5 | 1:16 ص

      حذارِ !

      حوى العنوان خطأ ، لا نكتب الخسارة الأكبر بل الخسارة الكبرى ، و هذا أمر من قواعد بديهي في لغة الضاد .

    • زائر 4 | 12:43 ص

      سيأتي اليوم

      سيأتي اليوم الذي ينتصر فيه الشعب العربي السوري على هذا النظام المجرم الطائفي الذي يتسلط على رقاب الأغلبية الساحقة من السوريين

    • زائر 2 | 11:54 م

      ابكيتنا يا استاذ..

      اين الفرار من ذلك اليوم الموعود...بلد مسلم قتل اهله ودمرت بنيته...بأيدي المسلمين...

    • زائر 1 | 10:22 م

      احسنت استاذ

      هنا يأتي دور الايمان بالله والتوكل عليه بعد تنعدم كل المعطيات والحلول المادية

اقرأ ايضاً