العدد 4831 - السبت 28 نوفمبر 2015م الموافق 15 صفر 1437هـ

كل كتابة من دون روح لا تتجاوز كونها ثرثرة بالنص

«الكتابة بحبْر أسوَد» لحسن مدن...

حسن مدن في مناسبة توقيع كتابه
حسن مدن في مناسبة توقيع كتابه

طوال سنوات من عموده «شيء ما» الذي عرفه القرَّاء في صحيفة «الخليج» التي تصدر في إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، يواصل الباحث والكاتب حسن مدن كتابته بـ «كيمياء خاصة»؛ أو تلك التي أسماها «روح الكتابة»، في «الرؤية» الأولى «كيف تكتب الجملة الأولى»، من كتابه «الكتابة بحبْر أسوَد»، الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع، العام 2015، في 270 صفحة من الحجم المتوسط.

مؤدَّى كل كتابة أن تكون بمعزل وخارج نطاق الثرثرة. متى ما خلَتْ كتابة من الروح، المتعة، اللذة، وبالضرورة «الرؤية»، فلا تتجاوز كونها ثرثرة بالنص.

ويمكننا هنا أن نفهم «الكيمياء الخاصة» أو «روح الكتابة»، باعتبارها الجسر الموصل لا إلى المعنى وحده، بل إلى المتعة في الطريق إلى ذلك المعنى. يمكن لأي منا أن يقذف بالمعنى الذي يريد وتنتهي الحكاية، لكن ثمة متعة (روح) تتخلل الطريق إلى ذلك المعنى هي التي تجعل الكتابة ذات سحْر وجذْب خاص، يجد القارئ فيها «معناه» الخاص هذه المرة، وقدرته على اكتشاف ما ظنَّ أنه خفي عنه.

في الحكْم على كتابة ذات روح، وأخرى من دون روح. في الحكم على كتابة تكتنز بالمتعة، وأخرى مليئة بالوحشة والضجر، ذلك الخيط الرفيع، وتلك الوصْفة التي لا يختلقها، ولا يتصنَّعها الكاتب، بل هي تأتي هكذا، في مسار ذهابه إلى الكتابة بمتعة أيضاً، وبروح غامرة من دون شك.

الكتابة «بقعة ضوء» أيضاً، ضمن بُقَع عديدة، تظل الكتابة الأقدر والأكفأ على تعميمها، وإحداث أثر بتضمينها لتلك الروح التي أشار إليها مدن، أو المتعة/ اللذة في النص تلك التي أشار إليها رولان بارت.

تلك البقعة هي القادرة على إحداث الفارق، وصنع الأثر وفعل التغيير، ولا يهم بعد ذلك شكل التغيير المُراد فعله، بتلك «الرجرجة» والهدوء في أجمل حالاته.

كيف نكتب الجُملة الأولى

يثير الفصل الذي يحمل العنوان أعلاه، إشكالية الإقحام والتصنُّع والتكلُّف في كثير من الكتابات اليوم؛ وخصوصاً الصحافية منها، تلك التي لا يتحمَّل القارئ إسفافها في الاستعراض. استعراض إمكانات أصحابها، وكأنهم في منافسة على ما يُعتِّم على القارئ، ويُخضعه لامتحان القواميس والمفردات، وخليط الأفكار التي يبدو ألاَّ رابط بينها في أحيان كثيرة.

وبالوقوف على «الروح» التي يجعلها مدن مفتاحاً، وكلمة السر، لأي كتابة تملك القدرة على الجذب، وتستميل القارئ إليها يضعنا أمام حقيقة تلك «الروح» «هي روح الكاتب في اعترافاته وتدفقاته التي تنساب أمامنا ونحن نُطالع نصَّه». جانب من تلك الاعترافات... جانب من تلك التدفقات تحضر أحياناً وكأنها تقول اعترافات كثيرين... تقول تدفقهم، ذلك المركون في زوايا النفس والروح، والعتمة أيضاً، فينتشله كاتب بتلك القدرة، وتلك الحيوية، مقتسماً إياه الذين لم يُقدَّر لهم أن يمتلكوا أدوات تتيح لهم الذهاب بـ «روح» أيضاً إلى تلك الاعترافات.

لتلك الروح بعض شروط لا تدَّعي أنها في غنى عنها، من بينها توظيف الاستشهادات ضمن السياق الذي لا يخلُّ بتلك الروح، ولا يجعلها دخيلة عليها... غريبة تشيع غربتها في الكتابة تلك، فتنال من عناصر قوتها، فيما هي تتطلع إلى القوة باستحضارها. لا يفعل ذلك مدن إلا عن وعي عميق و «روح» لا يتورط في نسيانها.

في استحضار مقولة لفريدريك نيتشه «عندما نقرأ لكاتب يتَّسم أسلوبه بالاقتضاب الخاطف وبالهدوء والنضج أن نتوقف أمامه مليِّاً، أن نقيم عيداً طويلاً وسط الصحراء، ذلك أن حُبوراً مماثلاً لهذا الذي يبعثه هذا الكاتب في نفوسنا لن يقع لفترة طويلة». وذلك معنى آخر للقبض على «الرؤية» في استوائها ونضجها، وقدرتها على إحداث الأثر والفعل الخلَّاق.

في التوظيف البارع

وليس بعيداً عن نيتشه نفسه، وبالضرورة، ليس بعيداً عمَّا يرمي إليه في البعد الرؤيوي للكتابة، لا تنعزل مقولته الأشهر، وضمن سياق أعمق وأشمل يرتبط بإشكال المعنى: «جئنا إلى هذا العالم لكي نمنحه معنى»، والكاتب بالضرورة هنا هو الطرْف الأوْلى والأهم في استحضار ذلك المعنى وتعميقه، من دون تخلٍّ في الوقت نفسه عن «الاقتضاب الخاطف وبالهدوء والنضج»؛ إذ كل «مجيء»... كتابة في معزل عن المعنى المُراد منه/ا، وبالأسلوب الذي هو بمثابة جسْر موصل إليها، لا تعدو كونها ثرثرة وفائض حضور لن يفتقد أحد غيابه/ غيابها.

جانب من الروح في الكتابة التي يعنيها مدن، ذلك التوظيف البارع والذكي للاستشهادات، بحيث لا تنفصل عمَّا أسماه نيتشه «الهدوء والنضج». وفي استحضار مايكل أنجلو هذه المرة، يدفع مدن بالكتابة التي يشتغل عليها دون خريطة ووصفة جاهزة، إلى مزيد من السلاسة والعمق والقدرة على الإدهاش، وتولُّد المعنى، وتفرُّع تلك الروح أيضاً، حين تكون مبثوثة في ثنايا العمل/ الكتابة.

في الاستشهاد بأنجلو توظيف لا يخرج عن مسار الكتابة التي يعنيها مدن، بل هي في اللب والصميم منها، ومعزِّزة للفارق والمختلف فيها.

يكتب مدن في الفصل نفسه «سُئِل النَّحات مايكل أنجلو يوماً عمَّا يفعله لكي يبدع أعمالاً عظيمة بهذا الشكل، فأجاب: الأمر بسيط جداً. عندما أنظر إلى كتلة الرخام أرى التمثال الذي بداخلها. لا يبقى أمامي سوى إخراجه من هناك بإزالة الزوائد عنه».

وفي المقاربة هنا يضعنا الكاتب والباحث مدن أمام مأزق الجملة الأولى في الكتابة، وارتباط ذلك بالتخيُّل. يضعنا أيضاً أمام الفارق بين تخيُّل شكل الكتابة، وليس بالضرورة الذهاب إليها كما تم تخيُّلها. يحدث كثيراً أن يتم الخروج على التصوُّر الأول للكتابة وشكلها، تحوُّلاً، وربما تطويراً لفكرتها، والمداخل إليها.

في الانقطاع عن الكتابة رياضة أيضاً

في التدريب على الكتابة. في المِران اليومي الذي تحتاجه الممارسة، يأخذنا مدن. الانقطاع... العزلة التي لا تُنتج كتابة، تُدخل صاحبها في مأزق حقيقي. يظل الإشكال هنا: أن تكتب أي شيء، كي تكون معتاداً على تلك الممارسة. في نصيحة مثل تلك إشكال أراه حقيقياً. سنكون هنا أمام تناقض وصَّفه مدن في الفصل الأول من الكتابة. ماذا بعد كتابة يومية «ولو لصفحة واحدة» استناداً إلى نصيحة إيزابيل الليندي، بتوافر كمٍّ نضربه في عدد أيام السنة، كي يخرج أحدنا بكتاب في العام. نصيحة مثل تلك تنسف «البصيرة» نفسها التي تناولها الفصل الثاني من الكتاب. تعمل على تسطيح المعنى، وتفقد «كيمياء وروح الكتابة» تحولها وتفاعلها ونضارتها.

يحدث أن تنقطع عن الكتابة كممارسة ولا ضيْر في ذلك؛ فقد تكون بمثابة رياضة أيضاً، من حيث الفُرص التي تتيحها لك القراءة هذه المرة. من حيث الفرصة التي تعيد في الانقطاع، النظر في الشكل والمضمون الذي كانت عليه الكتابة تلك، وفرصة لتجدُّدها، والقبض على أفكار نضرة ومتوقدة ومدهشة.

لا علاقة باحتراف الكتابة تَلاَزم ممارستها بشكل يومي. يحدث كثيراً في مثل ذلك الاعتياد، إعادة إنتاج وتدوير الأفكار بصيغ مختلفة؛ لكن تلك الممارسة والإجراء لن يخفيا على القارئ النابه.

أجمل انقطاع عن الكتابة ذلك الذي يتصل ويتواصل مع قراءة نوعية تمنح إضافة، وتحقق قفزة، وتفتح أفقاً، وتمنح أفكاراً متجددة يمكن العمل عليها وتناولها بروح مختلفة، ومعالجة مغايرة.

في استحضار الشاهد «استدراج» جميل للقارئ كي يكون على ارتباط بعالم يأوي إليه، ولن يشعر بدفء ما يأوي إليه إلا من طريق الحب. الاستحضار ذاك فيه تعميق للفكرة والمضمون، واستلهام خبرات وتجارب حققت من الممارسة الكثير؛ لكن يظل الذكاء في التوظيف نفسه؛ بما يشكّل رافعة للفكرة وجلاء وتقريباً لها، وهو ما يعمد إليه مدن في «شيء ما» ومساحاته الأخرى التي يطل من خلالها على قارئه، وكذلك الحال وبتركيز أكثر في كتابه موضوع الاستعراض والتناول.

الألم... العزْلة... الكتابة

في الفصل الثالث من الكتاب «كتابة الشفاء»، ثمة مساحة شعرية يمكن الوقوف عليها، بمعالجة مدن موضوع الكتابة وهي «البيت الحقيقي والجميل للعزلة». لا ملاذ له/ لنا سواها في اضطراب أحوال، وفي ألم هو من مُنبِّهنا العتيد في هذه الحياة/ العالم. تغدو الكتابة احتيالاً أيضاً - بجمالياتها - على الواقع والتفاصيل القبيحة من حولنا.

وفي العزلة يكتب مدن بشفافية يحبِّبك إليها «لا تأتي العزلة وحدها؛ نحن الذين نذهب إليها، نختارها، ويحدث أن تقذف بنا العزلة إلى الكتابة». ولا يكفُّ عن استحضار الشاهد/ الخبرات/ الممارسة. هذه المرة تحضر مارغريت دوراس «من أجل الشروع في شيء يتساءل المرء عن هذا الصمت المحيط به».

ثمرتها... محصلات العزلة تلك... ما يبدو صمتاً محيطاً بها، فيه دعوة للاستنطاق: الكتابة كفيلة به. وللألم رابطته بها كما يقول مدن «للألم، كما للعزلة، صلة بالكتابة».

«كتابة الشفاء»، ومن خلال نماذج شاخصة في تاريخ الإبداع العالمي، تلك التي يأخذنا مدن إليها، تجسِّد أوجهاً للسحر الذي تفعله الكتابة، نفهمه في النهاية انتصاراً ما من خلالها، انعتاقاً من حال الارتهان إلى جسد محاصر بالعلل... الكآبة... تخليقاً لعالم آخر يجد فيه الكاتب بيته... مكانه الضروري والملائم.

الشفاء الذي يبرز بقدرة تلك الكتابة على الإيحاء بالانتصار على ما يحدُّ من حركتك... على المكان الذي يحاصرك، أو تختار أنت حصارك فيه: سمِّها العزلة إذا شئت.

وفي المساحة الشعرية بكل حساسيتها الملفتة، التي أشرت إليها سابقاً، لا يكفُّ مدن عن الأخذ بنا إلى مداها، بعيداً عن صرامة التقعيد والتنظير في موضوعة الكتابة «تغدو مساحة البيت الضيِّقة فضاء حرية، نعيماً في مواجهة جحيم الخارج الذي يفضح خواء النفوس وهشاشتها، في البيت يكون الإنسان وحيداً حين يرغب. وفي مثل هذه الحال يقيم صداقة دافئة مع تفاصيل وأشياء تبدو - على رغم حيادها الظاهر - عزيزة وأليفة ومُسلية، كأنه يعود إلى فطرته، يُعيد تنظيم المسافة بين ذاته وبين البشر والأشياء».

خريطة الكتاب

تناول الكتاب موضوعات حوتها العناوين الآتية في القسم الأول: عن الكتابة: الخربشات والمسوَّدات: أفكار مقموعة، اليوميات، ينابيع الكتابة، الكلام عابر... الكتابة باقية، الحكي، الكتابة، الصورة، شيطان الكتابة، الكتابة الحنون... الكتابة الغليظة، ترهُّل الكتابة، مزاج الكتابة، كتابة على حافة الحلم، الكتابة وفوضى النفس، الكتابة بحبر أسود (عنوان الكتاب)، الكتابة بيدين حرَّتين، النساء حين يكتبن، كل فن حقيقي سياسي، محظورات السيرة الذاتية، ذكاء الرواية، الرواية تقول ما أغفله المؤرِّخون، آية النص العظيم، براءة الشعر من قائله، مقال خبَري... خبر مقالي، الترجمة - تلك المهنة الشاقة، الكتابة بين الفصحى واللهجات، وللنص أكثر من حياة.

وفي القسم الثاني: عن الكاتب: من هو الكاتب، الكاتب حافياً، براءة الكاتب، الكاتب وشخصياته المستقلة، حين يُساء فهم الكاتب، لمن يكتب الكاتب، فكرة الكاتب وشهرته، متى يتوقف الكاتب عن الكتابة؟ كاتب حزين وآخر رصين، روائيون وشعراء، كيف كان نيتشه يكتب؟ دفتر إيكو القديم، والروائي ومدينته.

وفي القسم الثالث: عن الكتب: كم من الكتب علينا أن نقرأ؟ الحياة أم الكتب؟ الكتب التي حرَّرتْنا، كيف تُروِّج كتاباً؟ الكتب الساندويتش، إضرام النار في الكتب، كتب للنساء... كتب للرجال، كتب لليل وأخرى للنهار، كتب تعيش وأخرى تموت، من سينخِّل الكتب؟ بين دفتيّ كتاب، كتب نيسين وبحار حكمت، ماذا يبقى من الكتب؟ كتب خالية من الأوكسجين.

وفي القسم الرابع: عن القراءة: كيف نقرأ... ماذا نقرأ؟ مراحل للقراءة، السفر والقراءة، القراءة بالنظارات، الفنون والعاطفة، نوبل المقيمة في الغرب إلا ما ندر، رامبو العدَنيُّ الماشي على نعال من ريح، الطريق إلى تشيخوف، غابرييل ماركيز المقاوم للنسيان، فرانز فانون نازع القناع الأبيض، «بروفايلات» لعبدالرحمن منيف، وناظم حكمت وبابلو نيرودا: قدرة القلوب الكبيرة.

لا يدَّعي «الكتابة بحبر أسوَد»، أنه يُقدِّم تشخيصاً، ووصفات للكتابة، بقدَر ما يقدِّم تجربة وخبرات هي محصِّلة سنوات من ممارسة الكتابة، بأسلوب سلس، لا يتورَّط في ما تعجُّ به المناهج من تنظير.

في «كتابة بالحبر الأسود» تقف على وصفات ليست جاهزة. إنها صوت الممارسة والخبرات والإيمان بقدرة الكتابة على تكريس «المعنى» العميق ذلك الذي أشار إليه نيتشه ذات كتابة هي بالضرورة نتاج عزلة ما!

إيزابيل الليندي
إيزابيل الليندي




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً