العدد 4856 - الأربعاء 23 ديسمبر 2015م الموافق 12 ربيع الاول 1437هـ

بين تشرُّد روغول ومحمد شُكري... الفُرص هناك

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

العنوان من وحي قصة متشرِّد فرنسي، لا بيت له سوى الشوارع، في ظل طقس متقلِّب، ووجبات تتوافر يوماً، وتسدُّ ما يُلقى في النفايات جوع أيام أُخَر، وحصته من نظرات الاحتقار أو الشفقة، وأحياناً التجاهل، تحوَّل بفعل ظروف توافرت، إلى كاتب مشهور، وقبل الظروف التي توافرت، كانت لدى الرجل رغبة حقيقية في الانقلاب على واقعه المزري والتعيس، وإرادة حاضرة، حين انكبَّ ولمدة عامين على كتابة مذكراته منذ طفولته إلى أن بلغ السابعة والأربعين. للذاكرة فعلها السحري؛ ليس على مستوى ما يُكتب، بل على مستوى التحوُّل والتغيير الذي يمكن أن تُحْدثه في حياة الإنسان.

جين ماري روغول، مواطن فرنسي من بين آلاف من المتشرِّدين، كاتب المذكرات التي صدرت بعنوان «حياتي كمتشرَّد: حياة في الشوارع»، والذي أصبح من أكثر الكتب مبيعاً بتحقيقه 50 ألف نسخة في فترة قياسية خلال موسم العطلات، سرد في لقاءات صحافية وتلفزيونية ومواقع إخبارية، وغيرها من وسائل الإعلام بفرنسا ودول أخرى، قصة الكتاب وكيف ظهر إلى النور، دون أن ينسى الذي كان له فضل في أن يحقق كتابه تلك النسبة العالية من المبيعات، وهو صديقه القديم الذي أصبح فيما بعد وزيراً، وهو جان لوي دوبريه؛ بحسب ما ذكر موقع «أوديتي سنترال»؛ إذ بدأ روغول كتابة مذكراته قبل عامين وهو جالس على مقعد في حديقة عامة «وكان يدوِّن الملاحظات على دفتر مدرسي»، إلى أن تهيأت له مساعدة من صديقه القديم الذي اعتنى بالأسلوب والتنقيح.

روغول تعرَّف إلى دوبريه عندما عرض عليه الاعتناء بدرَّاجته عندما كان يتسوَّق في شارع الشانزلزيه. يروي في كتابه قصة تخلِّي والدته عنه وهو طفل صغير، وظل تحت رحمة والده المدمن على الكحول، حيث تولَّى رعايته، مروراً بتحوِّله إلى متشرِّد وهو في بدايات العشرينات من عمره، ووقتها فقد وظيفته كنادل في أحد المطاعم.

موقع «أوديتي سنترال» ذَكَر أن روغول مستمر بالظهور في عدد من البرامج التلفزيونية والصحف في عدد من دول العالم، مع تفاصيل تحوُّلات بسيطة طرأت على حياته باقتنائه هاتفاً محمولاً للتواصل مع معجبيه على مواقع التواصل الاجتماعي، مع فارق أنه لايزال مُتشرّداً في انتظار أن تصله حصة من أرباح توزيع كتابه.

عربياً، علينا ألَّا ننسى التجربة الأكثر تجسيداً للإرادة وخيار الإنسان في أن يضع حداً للظروف القاسية التي تفترسه، وتشل قدراته، وتغيّب مواطن القوة فيه. إنه نموذج الروائي المغربي الكبير الراحل محمد شكري، صاحب الرواية الأشهر التي تتكئ على ذاكرة الطفولة البائسة والتعيسة «الخبز الحافي» ابتداء من ظروف الحياة في قريته في جبال الريف، وصولاً إلى طنجة بعد نزوح أهله إليها، بكل التفاصيل الصادمة، وحياة التشرُّد التي عرفها وكأنها من وحي التخيل والتوهُّم. الرواية تُرجمت إلى عدد من اللغات العالمية.

لم يتعلم شكري القراءة والكتابة إلا حين بلغ العشرين من عمره، وهي السن نفسها التي بدأ منها روغول محنة التشرد لكنه كان يقرأ ويكتب، وفي مجتمع لا يبخس المواهب حقها؛ فيما ظل شكري على هامش الحياة في وطنه حتى بعد أن أصبح كاتباً له حضوره العالمي. توحُّش والده وقسوته معه ومع أمه وإخوته، حيث شهد مقتل أحد إخوته، وكان عليلاً على يدي والده، دفعته إلى أن يعزف عن الزواج رغم تحسن أوضاعه واستقراره وانفصاله عن العالم السفلي الذي ترعرع فيه، وكانت له حجَّة في ذلك بقوله: «لكي أصبح أباً لابن عليّ أن أتزوج. لقد عزفت عن الزواج لأني أخشي أن أمارس على من ألِد نفس التسلط والقهر اللذين مورسا عليّ. لهذا أنا أخشى أن يكون لي مولود... فأنا لا أثق في نفسي». كلام ليس في معزل عن عدالة الفُرص في المجتمع الذي يكتب ويعيش فيه شكري. قيمة الإنسان الضائعة والمُغيَّبة أساساً.

من تلك الآلام والخيبات والقسوة والتفكّك الأُسَري والضياع وخسران مصدر الدخْل الذي تنتظم به الحياة؛ قلَّ أو كُثُر ذلك الدخْل، يمكن للإنسان إذا ما آمن بقدرته على تغيير واقعه والظروف من حوله، أن يحقق قفزات في التغيير الذي يطول أكبر وأصغر تفاصيل حياته، ويصبح في المركز بعد أن ارتضى أو تم فرض الهامش عليه.

كم من روغول وشكري في العالم ربما يلتقون مع محنهما وبؤس حياتهما، صنعوا الفارق والمذهل لكنهم بعيد من الضوء وخصوصاً في الأوطان التي أعرفها وتعرفونها جميعاً؟

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4856 - الأربعاء 23 ديسمبر 2015م الموافق 12 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً