العدد 4924 - الإثنين 29 فبراير 2016م الموافق 21 جمادى الأولى 1437هـ

قصة قصيرة... الغُروبُ الأخير

يتسرّبُ الضّوءُ من ملامحِها ، بقايا شعرِها المنسدلِ على كتفَيها أشبه بنايٍ عتيقٍ ألقاهُ الزّمنُ على رصيفٍ مهجور ، تتشابكُ خطوطُ الدّهرِ في وجهِها وتزدحمُ تعرّجاته في كفّيها حيث العروقُ بارزةٌ تخيط حكايةً قديمةً لامرأةٍ سرقت منها الحَياةُ عمرَا ، تصحو كلّ يومٍ على صدى صوتٍ غارقٍ في ذهنِها ، تقرعُ أوتارُه أجراسَ قلبِها فترتدي ملاءتها السّوداء وتتّكئ على عكّازها ، ثمّ تخطو ببطءٍ وتسير على آثار ارتعاشةٍ منبثّة من جسدها النّحيل.

على مشارِف القريةِ تقعدُ بصمتٍ يشوبه انكسارٌ هادئ متسلّلٌ من عينِها الّتي ترخي الملاءة على نصفِها فيتّخذ النّصف الآخر من الطّريق الطّويل الّذي ينتهي للقرية الأخرى مزارًا. هكذا حتّى تميلُ الشّمس نحو الغروبِ ويبدأ اللّيل المعتم بإلقاء ظلاله على الطّرقات ، فتقوم على عكّازها قافلةً للدّار ، لكنّ شابًّا فتيًّا من حيّها استوقفها هذه المرّة فسألها " أي خالة.. ما لجلوسكِ هنا وانتظاركِ الطّويل هذا ؟! ألا ينتهي عبَثًا إذ تكرّرينه منذ سنين!؟

التفتت المرأةُالعجوز وقد رفعت رأسها نحو الشابّ فانكشف شيءٌ من جسدِها النّحيل ، ثمّ رمقَت الطّريقَ خلفها وقالَت وهي تنظرُ وكأنّها ترى شيئًا : " سيعود ... "

تكثّفت الحيرةُ على وجه الشابّ فأمسك يدَها وقال متعجّبًا: " ومن ذا الّذي سيعود ؟ "

تنهّدت العجوزُ واتّكأت بيدها على الجدارِ وبدأت كلامها بنظرةٍ ألقتها تساقطت منها ثمارُ وجعٍ كانت تزرعه منذ سنينٍ وحزنٌ طويلٌ تبعثرَ منها لا يُروى ولا يُحكى ، ثمّقالت بصوتٍ مضنى: " ولَدي الوحيد ، قمَري الّذي يتوسّد السّماء الحالكة ليلًا ، وشمسي الّتي تدلي بأشعّتها الدّافئة نهارًا ، ذهبَ منذ سنين خلَت تاركًا قلبي جمرةً مشتعلةً ترتقبه كي تُطفأ ،.ذهب محاربًا في صفوف الجيش محاميًا عن وطنه ، وكان وعدَني أنّه سيعود يومًا ساعة الغروب في يومٍ قريب ، وها أنا أنتظره كلّ يومٍ حتّى يعود.. “

ثمّ سكتت ، فأطرق الشّاب وقد قفزت في عينيه دموعٌ وغصّت الكلمات في حلقه ، ثمّ قال لها بصوتٍ مرتعش: " إنّه الشّمس ، ابنُك يأتي زائرًا لكِ في كلّ يوم ، هاهي روحه تأتي لتزوركِ مع الغروب ، ابنُك شهيدٌ يا خالة ، وشمسُه تأتيك وقت الغروب فتكون قريبةً منكِ ، دافئة ، حزينة كأنتِ . "

لملم الشابّ كلامه ومضى تاركًا امرأةً تحاول أن تستجمع ماتبقى لها من أملٍ تعثّر مع كلام الشاب الأخير.

ومع غروب الشمسّمس في اليوم التّالي ، كانت العجوزُ قد كتبت الغروب الأخير في حياتها لحوقًا بالشّمس الّتي لن تغيب.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 7:54 ص

      رااااائعة

    • زائر 9 | 3:31 ص

      سلمت الانامل .

    • زائر 8 | 11:05 م

      ما شاء الله
      جميلة ورائعة .. أبدعتِ

    • زائر 6 | 11:10 م

      الأسلوب جدا رائع

    • زائر 5 | 1:58 م

      أدب مسكر

      أعادتنا للأدب الجميل

    • زائر 4 | 9:40 ص

      الأسلوب رائع جدا

    • زائر 2 | 3:21 ص

      ...

      حقا الفقد صعب.. ولولا الصبر والاحتساب لجنت عقول الناس

    • زائر 3 زائر 2 | 3:50 ص

      زائر

      بعض الأدباء(لهم سحر لا يمتلك المرء عندها عقله وقلبه ودمعه) لهم تأثير كبير على الحواس: كأبي فراس قوله: لعلي بن موسى(ع):قيل لي أنت أحسن الناس طرا• بالمعاني وبالكلام البديهي • لك من جوهر البيان نظام • يثمر الدر في يدي مجتنبه• فلماذا تركت مدح إبن موسى• والخصال التي تجمعن فيه• قلت لاأهتدي مدح إمام • كان جبريل خادما لأبيه

    • زائر 1 | 2:59 ص

      ابدعتي

      اُسلوب سلس ممتع

اقرأ ايضاً