العدد 4971 - السبت 16 أبريل 2016م الموافق 09 رجب 1437هـ

الجدران العازلة... تراجع الدولة؟

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

يصدمك في فلسطين مشهد الجدار الذي شيده الاحتلال على الأرض الفلسطينية ليفصل بينه وبين الفلسطينيين، لكن في الوقت نفسه، وعلى رغم الفوارق بين الجدار الإسرائيلي وجدران العالم، ستصدمك مشاهد الجدران التي تبرز الآن وفي هذا الزمن بين دول كثيرة في العالم العربي، كما الغربي والآسيوي: جدار في جنوب إفريقيا وآخر بين الهند وكشمير، والولايات المتحدة مع المكسيك، وجدار بين مصر وغزة، والسعودية مع اليمن، وإمكانية تعميم ذلك على الحدود مع العراق وهكذا.

الجدران صناعة جديدة تقع ضمن المجتمعات والمدن كما يقع في بغداد بين طوائف وجماعات، ويتبادر إلى ذهنك عندما ترى جداراً السؤال الآتي: هل الجدران علامة قوة وسيادة، أم ضعف وتراجع للسيادة؟

وبمجرد ما أسأل نفسي سؤال القوة والضعف أجد بعض الإجابة التي تؤكد أن الدولة السيادية القوية المنيعة المسيطرة على حدودها بدأت تفقد مناعتها: تنظر إلى الجدار، وتكتشف أنه سيمتلئ بالثقوب من قبل الرافضين للفكرة والمتأثرين بسلبياتها على جانبي الحدود، الجدران في الحالات كلها تبدأ بسبب فقدان سيطرة، وبسبب تراجع نفوذ وضعف في التأثير على المحيط، بل يرافق ذلك حالة كراهية وتعصب تجاه الآخر أكان هذا الآخر في الداخل (جماعة قومية أو طبقة أو طائفة أو قبيلة) أم في الخارج وعلى جانبي الحدود في الوقت نفسه.

وتبنى الجدران بهدف تأمين منع هجرات وتسلل أفراد وعمال وعائلات ولاجئين، ومرور أسلحة ومخدرات، لكنها تفشل في تحقيق ذلك فشلا ذريعا، وتنتهي بالاستسلام إلى البيئة التي أنتجت الخوف. فالجدران لا تنهي التداخل بين طرفي الحدود، ولا تقلل من الخوف والعنصرية، ولا توقف التهريب وانتشار اللاجئين، ولا تحل أزمة الهوية في ظل التكنولوجيا الجديدة والتطلعات المصاحبة لها، فالذي يسقط اليوم هو الحدود. ونكتشف أنه في قلب الجدران سياسات تاريخية خاطئة، وقضايا عدالة حول الحدود بين الدول وضمن الدول. وقد يصح القول: الدول لا ترى خارج حدودها إلا الدول، لكنها تصدم في هذا الزمن عندما تكتشف أنَّ الدول لم تعد اللاعب الوحيد، بل عليها التعامل مع الناس العاديين والمجتمعات والسكان والفقراء والباحثين عن مأوى، هذا عالم مختلف لم تعد الدولة جوهر بنيته.

وتكشف لنا الجدران أن الأقوى والأغنى والأكثر رفاهية قرر أن يترك الأضعف والأفقر بل والأقل حظًّا وحيدًا في شتاء بارد. قرارات «الجدرنة» نتاج تشاؤم من المستقبل واعتقاد بأن الفقر سيزداد والفوارق ضمن المجتمعات وبين الجيران سترتفع والعنصرية ستزداد تأثيراً. وبمجرد ما أن نشيد الجدران مع الخارج، سنبدأ بجدران مع الداخل بين فئات وجماعات ومناطق وأحياء منفصلة. لكن هذه الجدران لا ترتفع بوجه جيوش: بل بوجه شعوب وقبائل وجماعات وأفراد تريد المرور والعبور، ومن هنا استحالة صمود الجدران أمام الشعوب وإشكاليات الفقر والجوع. هذه الجدران الجديدة ربما تكون آخر ما تبقى للحماية الأمنية قبل الدخول بتحديات جديدة جوهرها مكانة الدولة الحديثة وعلاقتها بمجتمعها الوطني والمجتمعات المحيطة.

الجدران مكلفة للغاية، فتكلفة الميل الواحد تكاد تصل إلى 60 مليون دولار متوقفاً ذلك على سعر الأراضي وطبيعة الأرض، لكن الأهم أن الصيانة السنوية تكلفتها بالمليارات، وذلك لأن الجدران تتحول إلى هدف واضح للرافضين لها والمتأثرين بسلبياتها.

ان احد أسوأ حالات الفصل هو ذلك الذي يحيط بفلسطين في الضفة الغربية أما الذي يحيط بغزة من الجانبين الإسرائيلي والمصري فالجدران الجديدة ستتطلب جيوشا أكثر كلفة لحمايتها في ظل مجتمعات في الداخل وحول الحدود تبحث عن العدالة وتقليل الفوارق.

الجدار هروب إلى الوراء وعودة إلى القرون السابقة على الحداثة، إنها بناء جديد من خارج الزمان وتعبير عن السقوط التاريخي؛ لكن التدريجي للدولة وخوفها من التغيرات القادمة. لقد بدأت الدولة تهرب من قضايا العصر كاللاجئين والحقوق والانتهاك والأقليات والأغلبيات والفقر والعمالة والانتقال نحو مبادئ العزلة والانزواء.

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 4971 - السبت 16 أبريل 2016م الموافق 09 رجب 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً