العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ

تكوُّن اللهجة البحرانية الأولية(2)

ناقشنا في الحلقة السابقة عددا من الآليات التي أدت إلى تكون اللهجة البحرانية الأولية وهي مجاورة جماعات لا تنطق بالعربية والديانة المسيحية. نستكمل في هذه الحلقة نقاش الآلية الثالثة والأخيرة وهي الاندماج والتزاوج بين الجماعات المختلفة

3 - الاندماج والتزاوج بين الجماعات المختلفة

عند مجيء القبائل العربية لم يعيشوا منعزلين عن باقي الشعوب التي كانت تستوطن البحرين وشرق الجزيرة العربية من المتحدثين بالفارسية والآرامية بل اندمجوا معهم. وهذه حقيقة لا ينكرها أحد من المتقدمين والمتأخرين من الكتاب. وقد وردت عدة إشارات تدل على أن القبائل العربية عابت على بعض القبائل كقبيلة عبد قيس أنها اندمجت مع الشعوب الأخرى وتقبلت العمل في الزراعة وغيرها من المهن التي كانت تترفع عنها القبائل العربية وانعكس ذلك في العديد من الأشعار.

وكان هذا الامتزاج حتميا، فقد سبق وتحدثنا عن التغير البيئي الكبير الذي حدث للقبائل التي استوطنت البحرين حيث انتقلت من بيئة تشجع على حياة البادية لمنطقة تشجع على حياة الاستقرار، أضف لذلك أن جزيرة البحرين في هذه الفترة لم تكن محبذة للقبائل العربية فهي مليئة بالأمراض الناتجة عن الطفيليات التي تعيش في المياه الراكدة وأهمها مرض الملاريا. وقد عرفت منطقة البحرين الكبيرة بصورة عامة أنها منطقة موبوءة، وقد اشتهر في العديد من المؤلفات القديمة وجود مرض يؤدي لتضخم الطحال، حتى أصبح تضخم الطحال ظاهرة مرتبطة بالبحرين فكان يقال: حمّى خيبر، وطواعين الشام، ودماميل الجزيرة، وطحال البحرين، حتى قال الشاعر:

ومن يسكن البحرين يعظم طحاله

ويغبط على ما في بطنه وهو جائع

وبدون شك أن المقصود بتضخم الطحال هنا هو إشارة لمرض الملاريا الذي يتميز بثلاث صفات أساسية ظاهرة وهي تضخم الطحال وفقر الدم والحمى. وقد زعم البعض أنه مرض فقر الدم المنجلي وهذا زعم لا أساس له من الصحة. والدليل أنه حتى المسوحات التي حدثت في منتصف القرن العشرين توضح انتشار مرض الملاريا في جزيرة البحرين وشرق الجزيرة السعودية بصورة كبيرة، ففي الأربعينيات من القرن المنصرم أوضحت دراسة انتشار الملاريا في طلبة المدارس في شرق الجزيرة أن جميع الطلبة تقريبا مصابون بالملاريا وأن تضخم الطحال موجود في 93% من الطلبة. وفي جزيرة البحرين في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم كانت تسجل سنويا حالات جديدة من المصابين بمرض الملاريا وقد وصلت في سنة 1959م لأكثر من ثلاثمئة حالة جديدة في تلك السنة. ومن هنا يمكننا أن نستنتج مدى انتشار الملاريا في العصور القديمة وكيف أصبح ظاهرة مرتبطة بهذه المنطقة. فالقبائل التي استوطنت البحرين في تلك الحقبة لم تجد لنفسها بديلا سوى الاندماج مع الشعوب الأقدم منهم والذين تكيفت أجسادهم مع هذا المرض، بل ويمتلكون جينات تمكنهم من مقاومة هذا المرض. حدثت أيضا في هذه الفترة غربلة للسكان، أدت تلك الغربلة لمزيد من الاندماج والانصهار بين القبائل العربية والجماعات الأقدم منها وبذلك تقلصت الفروقات اللغوية. وقد أصبحت الهوية العربية هي السائدة، إلا أن ذلك الاندماج أدى لتغير في لغتهم الأصلية وخلق لهجة جديدة متأثرة بالجماعات المجاورة لها. وأدى الامتزاج إلى تداخل بعض الألفاظ الفارسية وكذلك المصطلحات وخاصة مصطلحات الحضارة الفارسية التي كانت تجلب لتلك المناطق عبر التجارة، وعليه لا يستغرب وجود تداخل في الألفاظ الفارسية للغة سكان هذه المناطق.

الآليات التي أدت لتطور اللهجة البحرانية الأولية:

وهي مجموعة آليات مترابطة أدت لتطور لهجة البحارنة الأولية وانقسامها للهجات فرعية، وهذه الآليات مرتبة هنا زمنيا حسب حدوثها.

1 - ثراء الأرض وانعزال الجماعات

تتدخل طبيعة الأرض في العوامل المؤثرة على اللغة، فالأرض التي تشح فيها مقومات الحياة يضطر سكانها إلى الترحال فينشأ عن ذلك تمازج واختلاط مستمر بين سكان المنطقة مما يؤدي إلى ثبات اللغة وعدم انقسامها إلى لهجات كثيرة، فلو حدث انحراف في لغة جماعة ما فسرعان ما تصحح عند انتقال هذه الجماعة واحتكاكها بالجماعات الأخرى، ومشافهتها لها، والعكس صحيح، فلو حدث أن كل بقعة سخية بالمقومات الأساسية للحياة انعزل فيها الناس عن بعضهم البعض لأدى ذلك إلى انحراف اللهجة.

وهذا ما حدث في البحرين، فبعد الإسلام وتبلور اللهجة البحرانية الأولية انعزلت جزر البحرين (وكذلك المنطقة الشرقية) على نفسها، وكان انعزالا عقائديا واقتصاديا وسياسيا وكذلك طبيعيا، وبسبب الأرض الغنية طبيعيا بمواردها في هذه المنطقة انقسمت المنطقة لعدة مناطق صغيرة وتلا ذلك انقسام في لهجتهم الأم وتكونت لهجات فرعية عديدة.

2 - تأثير المؤسس

أوضحنا في حلقات سابقة أثر المؤسس على الجينات وكيف يؤدي انقسام الجماعة المؤسسة لتضخيم بعض الصفات الوراثية، كذلك الحال بالنسبة للهجة، فاللهجة البحرانية الأولية التي تكونت كانت لها مميزات عامة، ولكن تميزت بوجود ظواهر نادرة، وبانقسام الجماعة الأولية لجماعات فرعية تتضخم بعض تلك الظواهر النادرة في إحدى المجموعات وتصبح صفة ظاهرة ومميزة لهذه الجماعة الفرعية وبذلك تنتج لهجة فرعية، ويمكننا ملاحظة ذلك في لهجة قرية الدراز مثلا التي تتشابه مع اللهجة البحرانية في الصفات العامة لكنها تتميز عنها بنطق حرف الجيم الذي ينطق في لهجة الدراز «ياء»، وكذلك في لهجة جزيرة سترة وما جاورها، وسنوضح هذا بالتفصيل في الحلقة القادمة.

3 - استيطان جماعات جديدة

بعد استيطان القبائل العربية التي اندمجت مع الشعوب القديمة مكونة كتلة واحدة، وبعد أن انقسمت تلك الكتلة على نفسها، بدأت مجموعات جديدة من السكان تستوطن جزيرة البحرين وتندمج مع الجماعات الفرعية. وقد أدت الموجات الجديدة من الاستيطان لإدخال صفات جديدة وظواهر لغوية جديدة ساهمت في تطور اللهجات الفرعية. ويمكننا أن نوضح الطبقات التي تشكلت من السكان على النحو التالي:

الطبقات التي شكلها دخول القبائل العربية إلى البحرين:

الطبقة الأولى:

وهي الأساس الذي تكون في فترة دخول القبائل العربية واستقرارها في بلاد البحرين حيث امتزجت لغتهم العربية ولهجاتهم مع اللغات الأجنبية الموجودة قبلهم في البحرين، وكذلك امتزجت جيناتهم وبالتالي كونوا شعبا له لهجته الخاصة وجيناته الخاصة. ونتيجة لظروف جغرافية واجتماعية وسياسية ودينية عاشت المجموعة الأولى تحت ظروف أشبه بالانعزال لفترة طويلة.

انقسام الطبقة الأولى إلى مجموعات:

نتيجة لاتساع الرقعة الجغرافية وثرائها انقسمت المجموعة الأساسية إلى مجموعات فرعية في نفس المنطقة الأساسية الأم، وهذا أدى لتباين اللهجة الأساسية الأم «البحرانية» إلى لهجات فرعية.

المجموعات الثانوية

ويمكننا تمييز ثلاثة أقسام من هذه المجموعات، القسم الأول هو تلك المجموعات التي هاجرت لجزر البحرين وتزاوجت مع سكانها من المجموعات الأولى. والتزاوج هنا خاضع لشروط منها تقبل العادات والتقاليد والديانة وغيرها. وبذلك لا يمكن تمييز هذه المجموعة عن المجموعة الأساسية، فهي متشابهة في اللهجة والدين وكذلك في الجينات، وهي تعتبر كامتداد للطبقة الأولى.

أما القسم الثاني فهي مجموعات من السكان هاجروا لنفس البقعة وتجاوروا ولكن لم يتزاوجوا، فاكتسبوا اللغة وربما العقيدة ولكن لم يتشاركوا في الجينات. وهذه المجموعة بما أنها تقبلت ثقافة المجموعة الأولى وبالأخص إن اشتركت معها في العقيدة فإن الاندماج بينها وبين المجموعة الأولى سيكون حتميا مع مرور الزمن، ربما لا تنصهر المجموعة بأكملها ولكن لابد وأن جزءا منها سينصهر بالمجموعة الأساسية الأولى.

أما القسم الأخير فهي مجموعة من السكان هاجرت لجزر البحر في فترات لاحقة لكنها حافظت على هويتها، فلها عقيدتها وثقافتها ولهجتها الخاصة. هذه المجموعة ربما تقبلت بعض أجزاء من ثقافة السكان من المجموعة الأولى لكنها بالتأكيد لم تنصهر معها، فالهوية الدينية أصبحت حاجزا بينهم.

وعلى هذا الأساس تكون العديد من المجموعات التي منها من تتحدث بلهجة واحدة، ولكن ليس بالضرورة تكون أصولها واحدة، أو أن أجدادهم عاشوا جنبا إلى جنب. فالدراسات الجينية وحدها تبين مدى تقارب الأصول من بعضها. وكل ذلك أدى إلى تنوع لهجوي وثقافي في المجتمع البحريني.

العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً