العدد 5101 - الأربعاء 24 أغسطس 2016م الموافق 21 ذي القعدة 1437هـ

الضحية الثالثة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هل تتذكرون عباس بن فرناس وابن سينا؟ لقد كتبنا عنهما قبل أسابيع، وكيف أنهما تعرّضا في حياتهما إلى «إرهاب» فكري وجسدي، جعلهما يعيشان غريبين. وكانت مناسبة ذلك هو استحضار أسماء عشرة من علماء المسلمين (من بينهم أولئك المضطهَدين)، ممن أحدثوا ثورات «علمية» و»ثقافية» غيّرت من مستقبل البشرية، كما رأى ذلك تقرير ناطق بالفرنسية، في الوقت الذي كانوا في زمانهم إما محبوسين أو مُهجَّرين أو مقتولين، أو أنهم ماتوا كمداً.

اليوم، سنتناول عالِماً ثالثاً (ذكرهم التقرير الفرنسي) ممن جرى عليهم ذلك الاضطهاد، وهو الفقيه والطبيب والفيلسوف أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم بن رشد المشهور بالحفيد. هذا الرجل، كان «متواضعاً، منخفض الجناح» كما قال الأبَّار، وهي من أهم مداخل العالِم وقبوله. أما منزلته، فقد «عُني بالعلم حتى حُكي عنه أنه لم يَدَع النظر والقراءة مُذْ عقل إلاّ ليلة وفاة أبيه وليلة عُرْسِه. فـ»لم ينشأ بالأندلس مثله كمالاً وعلماً وفضلاً» كما جاء.

وقد حاولتُ تعقب تصنيفاته طبقاً لما ذكره الذهبي نقلاً عن ابن أبي أصَيْبَعَة، فوجدت أنها بالعشرات، لكن أبرزها كتاب «التحصيل» و»نهاية المجتهد» و»الكُليّات» و»شرح أُرجوزة ابن سينا في الطب» و»الحيوان» و»جوامع كُتب أرسطاطاليس في الطبيعيات والإلهيّات» و»تلخيص ما بعد الطّبيعة» و»شرح كتاب السّماء والعالم» لأرسطوطاليس و»تهافت التّهافت» الذي ردّ فيه على الغزالي.

لقد امتاز ابن رشد بالبراعة في قضايا الإيمان والعقل بالسواء. وكما قيل فقد كان «يُفْزعُ إلى فتْياه في الطب كما يُفْزَع إلى فتياه في الفقه». لكن، كل هذا العلم والفضل والسيرة الحسنة عندما تولى القضاء في قُرْطُبة لم يجعله في منآى عن التنكيل به في حياته والتحريض عليه وإهانته من الناس ومن الحكام. صُورٌ تعيد إلينا مآسي ذلك الزمان بحق المجددين.

لقد ذكر الزركلي أن السلطان أبا يوسف يعقوب المنصور ثالث خلفاء الموحدين «قدَّره فأجلّه وقدمه» في بداية الأمر، لكن خصوم ابن رشد اتهموه «بالزندقة والإلحاد، فأوغروا عليه صدر المنصور، فنفاه وأحرق بعض كتبه، ثم رضي عنه وأذن له بالعودة إلى وطنه، فعاجلته الوفاة بمراكش، ونقلت جثته إلى قرطبة». أما الصّفدي صاحب الوافي فقال إنه «مَاتَ في حبس داره لما شنع عليه من سوء المقالة».

أذكر نصاً لشيخ الشيوخ تاج الدين بن أبي الفتح الخراساني الدمشقي الشافعي يتحدث فيه عن ابن رشد، وهو نصّ أورده الذهبي. يقول: لما دخلتُ إلى البلاد سألتُ عنه (أي عن ابن رشد)، فقيل إنه مهجورٌ في داره من جهة الخليفة، ولا يدخل أحدٌ عليه، ولا يخرج هو إلى أحد. فقيل: لِمَ؟ قالوا: رُفعت عنه أقوالٌ رديَّة، ونُسِب إليه كثرة الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل».

وفي نقلٍ آخر ما حدّث به أبو مروان الباجي عن أن ابن رشد «لما كان المنصور بقُرطُبة وقت غزْو الفُنْش، استدعى أبا الوليد واحترمه وقرَّبه حتى تَعَدَّى به المجلس الذي كان يجلس فيه الشيخ عبد الواحد بن أبي حَفْص الهنتاني، ثم بعد ذلك نَقَمَ عليه لأجل الحكمة، يعني الفلسفة». وهو ما يعطينا صورةً للمشهد الثقافي والديني في تلك الفترة والموقف من العلوم الفلسفية.

وفي مصدر تاريخي آخر ما جاء في الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للناصري «فرُفِعَ إليه (أي للخليفة) في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه ومعتقده وكان أحد فلاسفة الإسلام وربما ألفى بعضها بخط يده فحبس ثم أطلق وأشخص إلى مراكش وبها كانت وفاته».

لقد تعرض ابن رشد إلى حملة شعواء خلال حياته وبعدها. فقد سار الكثير على ما كان يُسمَع عنه من فساد العقيدة والحملة التي كانت تُشَن على الفلاسفة. وقد وجدت في تفسير أبي حيان الأندلسي الأشعري أنه قال: «ما زال في كل عصر منافقون يتسترون بالإسلام، ويحضرون الصلوات كالمتفلسفين الموجودين في عصرنا هذا، وقد أشار بعض علمائنا إليهم في شعر قاله وضمن فيه بعض الآية، فقال في أبي الوليد بن رشد الحفيد وأمثاله من متفلسفة الإسلام:

لأشياع الفلاسفةِ اعتقاد ... يَرَوْنَ به عن الشرع انحلالاً

أَباحوا كلَّ محظورٍ حرامٍ ... وردُّوهُ لأَنفسِهِمْ حلالاً

وما انتسبوا إِلَى الإسلام إِلاّ ... لِصَوْنِ دمائِهِم أَنْ لا تُسالا

فيأْتُون المناكرَ في نشاطٍ ... ويأتُون الصلاةَ وهم كُسالى

هذه نماذج من الصورة التي أحِيطَت بابن رشد وما تعرّض له من اضطهاد جسدي ونفسي وتاريخي، واليوم وبعد أزيد من ثمانمئة عام على وفاته، يتم الاحتفاء به واستحضار ذكراه بوجهها الإيجابي، وبجهود غربية هذه المرة، وكأنه تكفيرٌ عن ذنب مضت عليه قرون.

أختم بمقولة كتبها الشاعر المصري مصطفى المنفلوطي في كتابه النظرات: «الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة أو جهلة أو زنادقة أو ملحدين أو ضالين أو كافرين؛ لأن ذلك ما لا بد أن يكون. الدعاة الصادقون يعلمون أن الغزالي عاش متهماً بالكفر والإلحاد ومات حجة الإسلام، وأن ابن رشد عاش ذليلاً مهاناً حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه ومات فيلسوف الشرق».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5101 - الأربعاء 24 أغسطس 2016م الموافق 21 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 4:19 ص

      يذكرني العنوان بالفيلم الفرنسي الشهير " الضحية السابعة " (الهدف السابع) لولا اختلاف ظروف الضحية (أنصح بمشاهدته)

    • زائر 3 | 2:25 ص

      وما يزال المجددون يتعرضون للتكنيل وكأن التاريخ يعيد نفسه

اقرأ ايضاً