العدد 5103 - الجمعة 26 أغسطس 2016م الموافق 23 ذي القعدة 1437هـ

مدن: الحاجة إلى التنوير في المجتمع العربي تضاعفت اليوم

في حديث مفتوح على تجربته وسيرته مع الكتابة...

حسن مدن في حديثه إلى «الوسط»
حسن مدن في حديثه إلى «الوسط»

مدينة عيسى - سوسن دهنيم 

تحديث: 12 مايو 2017

على رغم طول مدة ابتعاده عن أرض بلاده، قبل أن يعود إليها في العام 2001، مازال الكاتب والباحث البحريني حسن مدن يرى ألاَّ شيء يعوّضنا عن الوطن مهما قسا علينا، لكن الحنين إلى الأماكن التي نقيم فيها لابد وأن يسكننا. يؤرّقه ما يحدث في العالم العربي اليوم ويؤكد أننا بتنا بحاجة إلى التنوير كما كنا قبل قرنين؛ فالقوى الظلامية مازالت تحاول السيطرة على العقول في كل المجالات. يكتب ذاته وغيره من خلال سبر أغوار الكتب وسيَر الكتّاب والمثقفين والسياسيين والفنانين. يجد في القراءة والكتابة متنفساً، فألّف كتباً أهدى آخرها إلى الشباب «الجيل الذي ينتمي إليه ولداه: علي ووسن» لثقته بقدرتهم على التغيير الذي يتمناه.

حسن مدن، الاسم الذي لا يمكن إغفاله حين الحديث عن الحركة الثقافية في البحرين، كان لنا معه هذا الحوار:

عن كتابك «ترميم الذاكرة» قلت: إنه يستدرجك لكتابة عمل روائي. يبدو لي أن البدء بالسيرة الذاتية فيه اختبار لأدوات الكاتب في اتجاه عمل روائي، هل توافق على ذلك؟

- بعض النقاد والقراء قالوا في التعليق على «ترميم الذاكرة» بعد صدوره: إنه يحمل نَفَساً روائياً، أو إنه كان بالامكان تحويله إلى رواية، وأنا من الرائين بأن هناك مناطق مشتركة بين السيرة والرواية، فالأخيرة هي، في أحد جوانبها على الأقل، خلاصة تجربة حياتية ومعاينة لسِيَر، سواء كانت سيرة كتّابها أنفسهم، أو سيَر الشخوص التي يجعلون منها شخصيات لرواياتهم. هذا الاستدراج ما زال ماثلاً.

لم تنشغل في «ترميم الذاكرة» بالاتكاء على تفاصيل فيما سردت من أحداث، بقدر انشغالك بما أسَّستْه تلك الأحداث على المستوى النفسي والفكري، إلى أي مدى يمكن للكاتب أن يمارس مثل تلك الحيلة إذا صح التعبير؟

- المسوَّدة الأولى وهي النواة الرئيسة لـ «ترميم الذاكرة «كتبتها خلال أيام قلائل بعد عودتي إلى البحرين في العام 2001 بعد غربة طويلة تجاوزت ربع قرن؛ حيث غادرت البحرين وأنا شاب دون العشرين من عمري، وعدتُ إليها وأنا في الخامسة والأربعين، فرأيت «بحريناً» أخرى غير تلك القابعة في ذاكرتي. تحت تأثير دهشة وصدمة ما رأيت كتبتُ تلك المسوّدة، ثم إني ركنْتها جانباً عدة سنوات، حتى كدتُ أفقد المخطوطة لأني كتبتها بخط يدي في كرّاس.

في نهاية 2008 عدتُ إليها، فأدخلت عليها تأمّلات حول الذاكرة والإحساس بالزمن والعواطف الإنسانية، وهي تأمّلات مُستقاة من تجربتي في الحياة طويلاً بعيداً عن الوطن، ليصدر الكتاب في العام 2009، والناشر هو من اختار أن يصنّف الكتاب كسيرة، وهو محقّ في ذلك، فالسيرة هي أقرب توصيف له، على رغم أن دافعي حين وضعتُ مشاعري أول مرة في ذلك الكرّاس، كان التخفف من عبء ضاغط عليَّ، ووجدت الكتابة وسيلة للتعبير عنه.

كأنَّ الكتاب في مساحات كبيرة منه اشتغال على الفضاء خارج المكان، لكنك من خلال ذلك الفضاء البعيد، استطعت أن تستجلي المكان هنا وكأنك لم تبرحه. هل هي الصور، الرائحة، الوجوه الأولى، هل هو الوعي الأول؟

- تجربة المنفى، او الغربة عموماً، هي امتحان لعلاقتنا مع الوطن، لذلك كان لمشاعر الحنين إليه حيّز كبير في الكتاب. وأشرتُ إلى ذلك في الصفحات الأولى منه، موضحاً أنه حين نكون في المكان الذي نحبّه ونألفه فإننا نكتفي بأن نعيش فيه. إننا لا نتذكّره ولا نكتب عنه إلا عندما نكون بعيدين عنه. سيرة المكان لا تُنجز ولا تُكتب إلا في مكانٍ خارجه. إنك لن تستطيع أن تصف المكان وأنت فيه، لأنك إذ تكون داخله لا تكاد تلحظ تفاصيله ودقائقه التي تتآلف معها وتلمسها كل يوم، إننا لا نصف ما نرى، إنما ما نتذكّر. إن الذاكرة هي من يَصف، بعد أن نصبح على مسافةٍ كافيةٍ من الحدث أو من المكان اللذين نريد وصفهما أو تذكّرهما، وهي نفسها المسافة الضرورية لإشعال الحنين المحفّز على الكتابة.

«الكتابة بحبر أسود»، هو ليس فقط خلاصة سنوات من القراءة، والانفتاح على المعارف والاتجاهات، بقدر ما هو تأمُّل ارتبط بممارستين: الكتابة والقراءة، التجارب في الكتابة ربما تكون كثيرة، لكن الوقوف عند القراءة كفعل خلَّاق لم يلقَ كبير اهتمام، أو لنقل تعميق. هل تتفق مع هذا الرأي؟

- في الأصل، لم يكن هدفي تقديم كتاب تنظيريّ لفعلي القراءة والكتابة حين جمعتُ مادة الكتاب ودفعتُ بها للنشر، وإن لم يخلُ الكتاب من جوانب مما يمكن عَدُّه تنظيراً لهما، لكن تلك لم تكن مهمّة الكتاب، فهناك الكثير من الكتب التي غطّت الأمر بأجمل ما يمكن، وهناك من النقّاد من هم أقدر على إنجاز ذلك. فهو كتاب احتفائي بالكتابة والكتّاب وبالقراءة كفعلٍ واعٍ، وتقديم خلاصة تجربة شخصية طويلة، إلى حدٍ ما، في العلاقة مع نشاطيْ القراءة والكتابة، ولفت الأنظار إلى أعمال تُثري البصيرة وتؤسّس للمعرفة الراسخة. بهذا المعنى أرى أن الكتاب حقق غايته، وحظي بإقبال واسع عليه من القرّاء، وخاصة من الشباب ومن الجنسين، الذين أهديتُ إليهم الكتاب، حتى أن نسخ الطبعة الأولى قد نفدت، وخلال أسابيع قليلة ستكون في متناول القرّاء طبعته الثانية، التي ستشمل مجموعة من المواد الجديدة تشكّل إضافة إلى محتواه.

والحديث عن القراءة في «الكتابة بحبر أسود»، ذلك يدفعني إلى سؤال على تماس به يتعلق بكتابك «تنُّور الكتابة»، وهو مجموعة مقالات، ذهبت إلى مصادر التنوير في الثقافة العربية، ليس لإعادة تقديمها، بقدر إعادتك اكتشافها وسط تحوّلات طرأت على بنية الوعي في المجتمع العربي. هل تلّقصت مساحة التنوير تلك، في ظل ما يحدث؟

- طبيعي أن ينصرف اهتمامي إلى فضاء التنوير في الثقافة العربية انسجاماً مع موقفي الفكري. وأرى أن الموقف من قضية التنوير يجب أن يكون مركّباً إن صحّ التعبير، بمعنى إن الحاجة إلى التنوير في العالم العربي لم تقلَّ عمّا كانت عليه في القرنين التاسع عشر والعشرين، بل إنها تضاعفت، مع ما تعرّضت له المُنجزات التنويرية من هجوم ومصادرة من خصومها الكُثر، أكانوا ممثلين للقوى حاملة البرامج المحافظة التي قويت شكيمتها في المجتمع، أو من قوى الاستبداد الماسكة بزمام السلطة والنفوذ، التي ترفع شعارات تبدو حداثية في المظهر، ولكن ممارساتها معادية للحداثة، ومكرّسة للبنى التقليدية المعيقة لهذه الحداثة. لا أفهم أن يصف الإنسان نفسه بالحداثي والتنويري، وفي الوقت نفسه تراه مزيِّناً للاستبداد وملتحقاً بركابه مهما كانت الذريعة.

كتابك «مزالق عالم يتغيّر»، تناولت فيه ثقافة الصورة، والسطوة التي تملكها بحيث صرنا نذعن لسطوتها، هل الصورة اليوم تعيد تشكيلنا... تشكيل صورتنا كل لحظة، وسط عالم لا ينتظر منا أن نضيف إليه؟ كيف ترى مثل هذه الصورة؟

- «مزالق عالم يتغير» الصادر في العام 2001، كتاب حول العولمة بمقاربة ثقافية، شأن تناولاتي عموماً للظواهر والموضوعات؛ حيث أعتمد المنظور الثقافي مدخلاً لولوجها، واهتممت في الكتاب برصد العلاقة بين ما هو كوني/ عولمي وما هو محلي/ وطني (أو قومي)، لرصد أوجه التفاعل بين الأمرين، وجرى تناول سطوة الصورة فيه من باب كونها اليوم أداة من أدوات تشكيل الوعي وتزييفه أيضاً (أي بالمعنيين الايجابي والسلبي)؛ حيث تقدم الصورة نفسها كمرجعية أولى، وهي بما تنطوي عليه من سحر قادرة على إيهام المتلقي بأنها هي الواقع، ويؤدي التدفق الهائل للصورإلى تعطيل الحواس الأخرى، وتحفيز الغريزة والمتعة، لأن تلقيها لا يتطلّب جهداً أو تركيزاً على خلاف ثقافة الكلمة، القائمة على توالي مفرداتها؛ الأمر الذي يتطلّب تفكيك العلاقات القائمة بينها، بينما الصورة تُعطى دفعة واحدة، بطريقة تعطل حواس التلقي الأخرى.

عمودك «شيء ما» في صحيفة «الخليج» الإماراتية وفَّر لك قاعدة من القرّاء تمتد إلى أنحاء في الشرق العربي، وكذلك في الغرب، ونلت عنه جائزة المرحوم تريم عمران، سؤالي عن الكتابة اليومية، ألا تبدو خطرة على الكاتب، أعني الحفاظ على جدّية وقيمة ما يكتب، أم أن للممارسة دورها، في منحه لياقة تبدو غير متاحة لكثيرين من الكتَّاب؟

- قبل عشرين عاماً من الآن، فاجأتني إدارة صحيفة «الخليج» وكان عميدها المرحوم تريم عمران مازال على قيد الحياة بطلب كتابة زاوية يومية، وكنت قبل ذلك أكتب مقالاً أسبوعياً أو شبه أسبوعي في الصحيفة ذاتها، وأذكر أني أبديت يومها خوفاً وخشية من خوض تلك التجربة، لكني على رغم ذلك بدأتها، وبعيداً عن كون المقال يومياً أو لا، فإني أجده الوعاء المناسب لي شخصياً للتعبير، تماماً كما يجد القاص في القصة، والشاعر في القصيدة وعاء لكل منهما، وأنا من الدَّاعين إلى النظر للمقال الثقافي بصفته جنساً كتابياً، وحتى إبداعياً، لا يقل أهمية عن أجناس الكتابة الأخرى. وفي تاريخنا الثقافي العربي الحديث نماذج مضيئة في هذا المجال، كما أن مفكّرين مهمّين، عرباً وأجانب، يبسطون أفكارهم على شكل مقالات تحديداً.

أوافق على وجه الخطورة المشار إليه في السؤال، فالكتابة تحت ضغط الالتزام، اليومي وحتى الأسبوعي، يمكن أن تنزلق نحو السلق إذا لم يكن الكاتب رقيباً يقظاً على نفسه، وهذا ما أسعى لفعله، لكن ما من ضمانة بأن تكون المقالات على ذات السوية في كل يوم، تماماً كما لا يمكن لكتب الكاتب أن تكون كلها على سوية واحدة من الجودة، مع الفارق بطبيعة الحال.

حرصتُ ألاَّ أنساق، قدر الإمكان بالطبع، إلى اليومي والسريع في الموضوعات، وأن أجنح، قدر الإمكان أيضاً، نحو الوقفات التأملية التي تقدم إشارات ثقافية وسياسية أكثر شمولاً، فلا يموت المقال في نهاية اليوم الذي كتبُ به حين يكتب تحت ضغط حدث ما، سرعان ما تتجاوزه التطورات.

من المؤكِّد أن طول الممارسة في الكتابة اليومية أو الدورية تكسب صاحبها لياقة وخبرة، وهذا ما أشعره مع مرور السنوات، لكن هذا لن يكون كافياً إن لم يغذِ الكاتب نفسه بالمطالعة والمعرفة، لأن الكاتب الجيد هو بالضرورة قارىء جيد.

في مقالك «ممرَّات الكاتب»، بتاريخ 22 يوليو/ تموز 2016، طرحت مسألة العلاقة بين الوعي واللاوعي لحظة الكتابة الإبداعية، والإبداع عموماً، وتساءلت: من أين تنبثق الصور والتعبيرات لدى الكاتب وتتكثف في ذهنه لحظة الكتابة؟ هل الشواهد التي قدّمتها بدءاً بالجاحظ، وصولاً إلى غابرييل غارسيا ماركيز، تقدِّم إجابة حاسمة في هذه المسألة، بمعنى أن ما ورد على ألسنة الشواهد يظل في حدود التجربة الشخصية، وبالتالي هي متعدِّدة ولا صيغة واحدة لها؛ ما يعني تعدُّد واختلاف ذلك الوعي واللاوعي أليس كذلك؟

- لكل تجربة إبداعية فرادتها، حتى لو وجدت أوجه تشابه أو مشتركات بين تجربة وأخرى. حين نقرأ أو نعرض لتجربة كاتب من الكتاب، وخاصة إذا كان من وزن ماركيز، فإنما نرمي إلى تقديم شواهد ملهمة، يستوحى منها، لا أن تقلد أو تستنسخ. الجاحظ قال إن الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، لكن السؤال الذي ينبني على هذه الملاحظة الدقيقة: من يلتقط هذه الأفكار، فضلاً عن قدرته على أن يحوِّلها إلى كتابة، إلى ابداع. هنا المحك.

مقالك «شجن لا شفاء منه» نشر في فبراير/ شباط 2016، قلت في نهايته: «ماذا يبقى من الذكريات في مرابع الذكرى حين نعود إليها بعد غياب طويل؟ ما الذي يخلّفه الزمن من ندوب لا على الأجساد وحدها، وإنما في الأرواح أيضاً»؟ كان ذلك في تناولك موضوع المهاجر والمنفى. ألا تحنُّ إلى المنفى، ولنخفِّفها إلى الهجرة الاختيارية أحياناً؟ الكاتب بطبعه قاس على نفسه حتى في حنينه أليس كذلك؟

- لا أحد يحن إلى المنفى، من حيث هو غربة قسرية، لكن الذكرى نفسها لا تستعاد حتى لو تيسّرت لها كل الظروف التي تيسّرت للحدث ذاته أول مرة قبل أن يصبح ذكرى، لأننا في الحال الثانية، حال الاستعادة، نكون بصدد حدثٍ آخر يؤسس لذاكرةٍ جديدة. يحدث أن يتحقق الحلم برؤية ما ومَن نحنّ إليه من وجوه ومطارح، فنراها رأي العين ونخطو على أشبار الأرض التي كانت حلماً بأقدامنا ذاتها التي وطئتها في طفولة غابرة أو صبا مرّ سريعاً.

هل ما نحسّ به هو إشباع لذلك الحنين، تحقيق له، تمكين له كي يكفّ عن أن يكون حنيناً، ويُحررنا من حرقته، ويجعل علاقتنا بالشيء علاقة عادية، علاقة الإنسان بالأشياء في كل يوم؟!

هكذا يُفترض. لكن ذلك لا يحدث بهذه البساطة، لأن الاقتراب من الأماكن والأشياء التي بعثت على حنين طويل، يفجّر دواخلنا حنيناً آخر إلى صورة تلك الأشياء والوجوه أول مرة، عندما خلّفناها وراءنا ورحلنا عنها، قبل أن تتحول إلى ذكريات، حين نشعر أنه كان لها مذاق آخر. لقد نسينا هذا المذاق، إننا فقط نحاول استعادة طعمه ولكننا لن نفلح أبدا، حيث ينشأ حنين إلى أمرٍ لن يعود، ووجوهٍ لن تعود، وهذا ما يفسّر حال الأسى التي تنتابنا إزاء الأمكنة التي طوّحنا إليها الحنين ونحن نقف على أشبارها. لقد أردنا أن نبرأ من الحنين، كما يبرأ المريض من مرض، فإذا بنا نصاب بلوثة حنين أخرى.

ما نحنُّ إليه ليس هو المنفى، فلا شيء يعوّض عن الوطن، حتى وإن قسى علينا، لكننا قد نحنُّ إلى ألفةً من نوعٍ حميم تنشأ بين الإنسان والأمكنة التي يعرفها، فإذا قدّرت لك الحياة أن تستقر في أماكن مختلفة، فقد تلاحظ عجزك عن إقامة علاقة ود وألفة مع بعض المدن التي تأخذك الحياة إليها، فيما يحدث النقيض من ذلك مع أماكن ومدن أخرى، وحين تحملك الحياة يوماً على مغادرتها فإنك قد تشعر بغصّةٍ، ويستحوذ عليك ما استحوذ على أبي فراس الحمداني وهو يغادر حلب فأنشد: «أسير عنها وقلبي في المقام بها/ كأن مهري لثقل السير محتبس».





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً