العدد 5103 - الجمعة 26 أغسطس 2016م الموافق 23 ذي القعدة 1437هـ

رواية من أربع حركات تختصر الماضي والحاضر الفلسطيني... وأمنيات للمستقبل

«مصائر» لربعي المدهون...

غلاف الرواية
غلاف الرواية

المنامة - محمد عبدالله عبدالرسول 

تحديث: 12 مايو 2017

يستعير ربعي المدهون قالب الكونشرتو الموسيقي ليقدم روايته «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة» في أربع حركات، فكما تتصدر آلة أو اثنتان الدور الرئيسي في الكونشرتو وتبقى الآلات الأخرى في الخلفية، ليتم تبادل الأدوار في الحركات اللاحقة، فكذلك تبرز بعض شخصيات المدهون كشخصيات رئيسية في حركة ما، لتعود كشخصيات ثانوية في الحركة التالية.

تتنقل الرواية بين الماضي والحاضر، وتأخذ القارئ في جولات جغرافية - سياحية - تاريخية لتتناول من جهات مختلفة ثلاث قضايا جعلها الكاتب محور الرواية، وهي «النكبة»، «الهولوكوست»، و»العودة».

من عكا تبدأ الحركة الأولى مع وليد دهمان وزوجته جولي اللذين قررا زيارة فلسطين بناءً على وصية والدة جولي. منذ البداية تظهر براعة الكاتب في خلق الأحداث والمكان أو ما أسماه «الفضاء المتخيّل» الذي تشبه تفاصيله الحقيقة، وهي تفاصيل حرص الكاتب على إظهارها بصورة رائعة. وكما في الحركات التالية فإن الرواية تتنقل بين الماضي والحاضر لتبرز قضايا وأحداثاً أراد الكاتب أن تكون حيّة، فجعلها جزءًا من حياة شخصياته يعيشها القارئ بعيونهم. في الحاضر يرى كل من وليد وجولي حال عكا التي أصبح أهلها غرباء في وطنهم، أما في الماضي، في زمن ما قبل النكبة، فتعيش إيفانا أردكيان، والدة جولي قصة حب مع جندي بريطاني، وتشهد آخر أيام الانتداب البريطاني في فلسطين بما فيها التفجير الإرهابي لفندق «الملك داوود» على أيدي منظمة «إرجون» الصهيونية وما يتبعه من تهجير وأحداث أخرى.

هناك نسق مشترك بين شخصيات الرواية، حيث إن الأزواج يأتون من خلفيات ثقافية مختلفة متجاوزين الاختلافات الدينية والعرقية، فوليد مثلًا مسلم فلسطيني يحمل الجواز البريطاني، وزوجته جوليا مسيحية نصف فلسطينية أرمنية ونصف بريطانية. أضحكتني لهجة جولي عند حديثها العربية بلكنة بريطانية، انقلبت معها حيفا إلى «هيفا»، فجولي عاشت معظم حياتها في بريطانيا على رغم ولادتها في فلسطين. لقد تخيّلتها تتحدث بنفس الصوت والطريقة التي استخدمتها سارة من حلقة «صراع الحضارات» في الموسم الثاني من مسلسل «سيلفي».

هناك أيضًا لودميلا - أو لودا اختصارًا - والتي تتحدث العربية بلكنة روسية حوّلت حيفا إلى «خيفا»، وسواءً نطقتاها حيفا أو «هيفا» أو «خيفا»، فقد جمعهما مع زوجاهما حب هذه المدينة الساحلية التي ستكون إحدى محطات الحركة الرابعة. لعل وليد هو أكثر شخصية تشبه الكاتب، ففضلًا عن لعبه الدور الأكبر في الرواية، فهو كما الكاتب، ولد في المجدل عسقلان، وبعد ذلك هُجّر إلى مخيم للاجئين وبعد ذلك هاجر إلى روسيا قبل أن يستقر في بريطانيا.

الحركة الثانية... يافا

في الحركة الثانية ننتقل إلى مدينة يافا مع الكاتبة جنين وزوجها باسم، اللذين يجسدان بحياتهما المشاكل التي يواجهها فلسطينيو الداخل، وكذلك معاناة الفلسطينيين المهجَّرين الذي قرروا العودة إلى الوطن بشكل فردي.

جنين تكتب رواية باسم «فلسطيني تيس» تتشابه شخوصها وأحداثها مع حياة جنين ووالدها وزوجها، فهي «رواية داخل رواية» تحكي قصة «النكبة» وما بعدها من معاناة فلسطينيي الداخل الذين تم منحهم جنسية إسرائيلية لكنهم عمليًّا مواطنون من الدرجة الثانية. أما باسم، فهو فلسطيني حامل للجنسية الأميركية، وبسبب عدم امتلاكه جنسية إسرائيلية فإنه يواجه الكثير من التضييق على عمله وإقامته، ويبرز الكاتب من خلاله قضايا اجتماعية تتعلق بالعنف ضد المرأة و»جرائم الشرف». تدور حوارات كثيرة بين باسم وجنين حول قضية «العودة» في ظل كل هذه المضايقات الإسرائيلية التي جعلت الحياة صعبة على كل شخص يقرر العودة، في سياسة متعمدة لتثبيط الفلسطينيين المهجَّرين عن العودة بشكل فردي. في نهاية هذه الحركة تبدأ معالم الرواية في الوضوح، حيث تظهر العلاقة بين جنين ووليد الذي تعود شخصيته للبروز في الحركة الثالثة لكن هذه المرة تنافسه شخصية «باقي هناك» من رواية جنين.

في هذه الحركة، يمر الكاتب على عدة قضايا، من ضمنها موضوع الهولوكوست واستغلال ذكرى هذه الجريمة العظيمة في غايات سياسية واقتصادية لا تكترث بالضحايا، وهو ما يُذكّر بكتاب «صناعة الهولوكوست» (The Holocaust Industry) للكاتب الأميركي اليهودي نورمان فينكلشتاين الذي وثّق استغلال المنظمات الصهيونية لذكرى هذه الجريمة. هناك أيضًا بعض السخرية والنكات السوداء عن وقاحة المستوطنين وعن آمال العرب في الوحدة. وكالحركات السابقة تبرز أحداث وقضايا تاريخية واجتماعية. أضحكني وضع الكاتب لنفسه (باسمه الحقيقي) كشخصية ثانوية في هذه الحركة وقيامه بالدعاية غير المباشرة لاثنين من كتبه!

القدس... حيفا... يافا

وفي الحركة الرابعة والأخيرة يقسم الكاتب الأحداث إلى قسمين، قسم للقدس وقسم لحيفا ويافا يتنقل بينهما عدة مرات. هنا تبدأ الروايات في الحركات السابقة في التشابك معًا، فنعرف المزيد من تاريخ الشخصيات والعلاقة بينها.

وصف الكاتب يشبه الجولة السياحية - التاريخية في هذه المدن وكأنه اغراء للفلسطينيين المغتربين بأهمية العودة إلى الوطن، فهو لا يقصّر في وصف الطبيعة وأنواع الأشجار والأطباق الفلسطينية المختلفة، والروائح الطيبة والأحياء والأسواق. ينتقد الكاتب على لسان شخصياته تهويد القدس، ويخص بانتقاده اليهود المتدينين الذين يُظهرهم كمتطرفين، بينما هناك شخصيات يهودية غير متدينة أظهرها بصورة إيجابية، بل إن إحداها - لودا - من الشخصيات الرئيسية، وحتى بقية الشخصيات الرئيسية باختلاف عقائدها غير متدينة وإن كانت غير معادية للتديّن، فوليد مثلًا لا يصلي إلا نادرًا ولا مشكلة لديه في شرب النبيذ.

يتطرق الكاتب في القدس إلى عدد من القضايا، إلا أنه يركز على مجزرة دير ياسين ويربط بينها وبين «الهولوكوست» الذي يزور متحفًا لضحاياه ويقارن ما جرى لهم بما يجري للفلسطينيين اليوم. يترك الكاتب خيال وليد يأخذه لمستقبل وردي يتم فيه توحيد الشعبين في دولة واحدة يعيشان فيها بتسامح وإخاء. ينتهي فيه زمن الصراع ويبدأ زمن التصالح. يتم بناء متحف آخر فوق موقع قرية دير ياسين يخلد ذكرى هذه المجزرة. يستيقظ وليد من حلمه هذا ليصحو على الواقع المر وينطق بعبارة أصابت كبد الحقيقة: «تتساوى حقوق الضحايا من الأموات حين تتساوى حقوق الأحياء». يختم الكاتب الرواية بنهاية مفتوحة، فجولي التي أعجبت بفلسطين تريد الانتقال إلى السكن فيها، لكن وليد يظل مترددًا حتى يوم الرحيل، وفي اللحظة الأخيرة يقول لها إنه حسم رأيه، فهل اختار «العودة» إلى فلسطين أو البقاء في بريطانيا؟

الرواية رائعة، وخصوصًا في قدرتها على تقديم عدد كبير من القضايا امتدت على مدى أكثر من نصف قرن في صورةٍ حية من خلال شخصيات واقعية. دفعتني الرواية إلى القراءة عن عدد من هذه القضايا، وكذلك للاستماع لبعض الأغاني المذكورة مثل «زهرة المدائن» لفيروز و»ايماجن» لجون لينون. تمنيت لو توسّع الكاتب أكثر بالنسبة إلى قضية الهولوكوست، فلو سرد لنا تاريخ شخصية عاشت أيام ألمانيا النازية وفقدت أهلها هناك ويوضّح من خلالها كيفية استغلال المنظمات الصهيونية لذكرى هذه الجريمة دون اهتمام حقيقي بالضحايا، كما يوثّق فينكلشتاين في «صناعة الهولوكوست». كذلك من الممكن استعراض وجهة نظر الجانب الإسرائيلي لتاريخ النكبة من خلال هذه الشخصية، وخصوصًا في ظل صعود تيار «المؤرخون الجدد» على الساحة من أمثال إيلان بابي والذين كشفوا عن تاريخ المجازر الإسرائيلية وترحيلها الفسطينيين من خلال الإرشيف الإسرائيلي ذاته.

ربعي المدهون
ربعي المدهون




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً