العدد 2499 - الخميس 09 يوليو 2009م الموافق 16 رجب 1430هـ

رسالة إلى الجار

كم كنا مزعجين جدا عندما كنا صغارا أبرياء لا يهمنا إلا أن نمرح ونلعب على طريقتنا الخاصة، أنا ونايف صديق الطفولة والحي والعمل، ذلك الشاب المرح الذي لم أعد أراه بعد أن التحق بعمل جديد وحصل على وظيفة رائعة في أحدى الوزارات، وعلى راتب مغر آنذاك، أما أنا فرُفض طلبي ولا أعرف السبب، ترك الشركة والحي، وتركني أصارع الحياة، وكما تروني أمامكم ضغط الدم سلبني عقلي والسكري سلبني بدني والديون أقعدتني، عملت في الشركة وأنا شاب بلحمي ودمي وتركتني عجوزا بعظمي وجلدي!

أخرج في الصباح الباكر على صوت الأذان، وأهل الحي يغطون في نوم عميق، ما خلاء زقزقة البلابل والعصافير وصياح الديكة التي تكبر الله وتهلله، كنا معا زملاء حي وعمل وأصدقاء ضمير، قبل أن يغادر الشركة، لم تفرقنا يوما العنصرية الحمقاء، لكن فرقتنا الغ ربان التي ملأت أحيائنا دمارا وفسادا وعكرت صفو حياتنا جحيما، لتسألنا من الذي جمعكما؟ ولو سألتموني أنتم أيها القراء الأعزاء لشخصه هو الذي جمعنا كل يوم أليس كذلك ؟ ولن أنسى رغيف الخبز الذي نتقاسمه في العمل، عندما نلهو لا نراعي حرمة أحد، ولا نراع شعور أحد، أصواتنا تعلو وترتفع بين الجيرة، نتراشق بماء الصنبور في وقت الظهيرة، أو نتقاذف به في أكياس صغيرة، دون أن نعي أهمية هذه القطرات التي تتقاتل عليها دول وتتخاصم عليها حكومات عريقة، وتتصارع من أجلها رؤساء ذوو نفوذ دخيلة، وقد يستبدل بسببها مناصب، وتتكسر من أجلها كراسي ومقاعد قديمه، دون أن نعرف أن الماء ثروة وأن الماء ذهب، أو أن هذه القطرات تزاحمت عليها مناقصات، ومرت من أجلها تحت الطاولة رشاوى وهبات، هكذا إذن فالحكومات غارقة في مستنقع من الفساد، ونحن غائصون معها في برك من الديون.

هكذا كنا نفعل وهكذا اليوم يا أحبائي أنتم تفعلون، إذ ندفع فاتورة لهوكم ولعبكم وتقليدكم لأعمالنا يا حبايبي يا كبار، وقبل أن يكمل أبو فريد ذكرياته ونصائحه لأبنائه حتى طُرق الباب وإذا برسالة مغلقة مذيلة من أهالي القرية، كأنها سبقته حيث فتحها على الفور وراح يقرؤها على نفسه حيث ساد الغرفة صمت رهيب، لا يقطعه إلا حركات لسانه أو حروفه الصوتية، وهي تشير بالذات إلى أفعال أبنائه السيئة بجيرانه، وأهالي قريته، وختمها بدمعة ندم وحسرة ألم على سلوكياتهم التي لم يستطع أن يصححها، ولم يهتدِ إلى تربيتهم يوما، ولم يستطع أن يكملها لهم بسبب مرضه، إذ رمته الرسالة على أريكته المتهالكة، ما بقي له من هذه الدنيا الأليمة، دون أن يعقب أو ينبس بكلمه، وراح ابنه الكبير فريد، سمين البدن والعقل المتخم بالسيئات، يسرد رسالة الجيران على أخوته، وكأنه موظف متقاعد في شركة يقرأ رسالة التكريم على المتقاعدين يقدم الخبر ويؤخر المبتدأ، أما أخوته الذين تركوا المدرسة عرفوا شيئا وغابت عنهم أشياء، غير مبالين بها!

على رغم تحذيرات الرسول الأكرم لأصحابه أشد التحذير من إيذاء الجار «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: مَن لا يأمن جاره بوائقه». ولما قيل له: يا رسول الله، إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها. قال: «لا خير فيها، هي في النار». «لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه. وقال أيضا مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سَيُورِّثه! ولكن لا حياة لمن تنادي!

فما أن فرغ فريد من قراءة الرسالة على أخوته، حتى أدار ببصره ناحية أبيه القابع على مقعده الذي لم يتحرك منذ أن أجلسه، كالخشبة اليابسة، ناداه فلم يجبه حركه لم يتحرك، صرخ صرخة أذابت جميع ذنوبه وتبعوه أخوته كذلك قائلين لقد مات أبونا! قتله أهالي القرية «لا بل قل قتلناه نحن بتصرفاتنا اللامسئولة، وسلوكياتنا المنحرفة»... أخيرا نطق الضمير العربي نطق أحدهم كأنه من أخوة يوسف على ما فعلوه بأبيهم، قائلا: كم مرة نصحونا، هكذا قضى أبو فريد أجله مقعدا على أريكته المفضلة لديه واستراح. ومن هم الفواتير ومن هم الجيران ومن هم الأولاد، الذين ورثوا أفعاله البريئة من حيث لا يشعرون، يتناقلونها جيل بعد جيل، والعياذ بالله والآخرين يحصدون الوظائف والمناصب، وبعثات الدراسة لأبنائهم؟!

مهدي خليل

العدد 2499 - الخميس 09 يوليو 2009م الموافق 16 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً