العدد 5124 - الجمعة 16 سبتمبر 2016م الموافق 14 ذي الحجة 1437هـ

المهندس والقُناقِنُ والكريز كان: العاملون في حفر القنوات والآبار

ما تبقَّى من آثار نظام القنوات في البحرين (Clarke 1981)
ما تبقَّى من آثار نظام القنوات في البحرين (Clarke 1981)

مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين، انتهت العديد من الحِرف التي ما عادت تُذكر حالياً، بعض هذه الحِرف لم يوثّق أبداً؛ وذلك بسبب قِدَم تلك المهن والتي لم تعد تُمارس، ربما، حتى في مطلع القرن العشرين. من هذه المهن، تلك التي ارتبطت بعمليات إخراج المياه، وبناء قنوات المياه، وعمليات توزيع المياه على الأراضي الزراعية. بلا شك، أن هذه المهن كانت موجودة في البحرين، فهناك العديد من المعطيات الأثرية والتاريخية الدالة على وجودها، إلا أنها مهن لم توثق، ولم تعد موجودة في الذاكرة الشعبية في الوقت الراهن، ربما كانت الأجيال السابقة تتذكّرها.

لقد كانت العرب، ومنذ القِدم، تمتلك العديد من المعارف الخاصة بطرق التعرف على أماكن المياه وطرق حفر الآبار والقنوات، وقد قام العرب بتطوير هذه المعارف وبلورتها في علم خاص، أطلقوا عليه اسم «علم الريافة»، وهو علم استنباط الماء من الأرض. هذا، وقد تطور هذا العلم عند العرب، وخصوصاً الحضر منهم، وبرز منهم اختصاصيون عرفوا بأسماء مختلفة. يذكر، أن الأسماء التي أطلقت على العاملين في مهنة استنباط الماء أو حفر الآبار والقنوات في المناطق الحضرية، في الغالب، كانت أسماء معربة، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، أن العرب لم تطور من تلك المهنة، أو لم تكن لهم بصماتهم الخاصة في هذه المهنة. وللوقوف حول تفاصيل هذا العلم عند العرب قديماً، يمكن الرجوع إلى كتاب «علم الريافة عند العرب» لمحمد صالحية، وكتاب خالد عزب «كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه؟»، وخصوصاً الفصل الثاني الذي خصص لنقاش «علم استنباط المياه عند المسلمين».

أسماء مهنة حافر الآبار والقنوات

ذكرت المعاجم العربية اسمين أساسيين للخبير في حفر القنوات والآبار، وهما، المهندس والقُناقِنُ. جاء في «معجم تاج العروس» (مادة هندس): «المُهَنْدِسُ مُقَدِّرُ مَجَارِي الماءِ والقُنِىِّ واحْتِفارِهَا حَيْثُ تُحْفَر والاسْمُ الهَنْدَسَةُ وهو مُشْتَقٌّ من الهِنْدَازِ فارسِيّة». هذا وقد أشتهر لقب المهندس لمن يقوم بحفر القنوات والآبار، جاء في كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» للشريف الإدريسي: «وماؤها (أي مراكش) الذي تُسقى به البساتين مُستخرج بصنعة هندسية حسنة استخرج ذلك عبيدالله بن يونس المهندس» (مكتبة الثقافة الدينية 2002، م1 ص 233).

كما تسمِّي العرب المهندس باسم القِنْقِنُ والقُناقِنُ، جاء في «معجم لسان العرب» (مادة قنن): «القِنْقِنُ والقُناقِنُ بالضم البصير بالماء تحت الأَرض وهو الدليل الهادي والبَصيرُ بالماء في حَفْرِ القُنِيِّ والجمع القَناقِنُ بالفتح قال ابن الأَعرابي القُناقِنُ البصير بجرّ المياه واستخراجها وجمعها قَناقِنُ ... قال ابن بري القِنْقِنُ والقُناقِنُ المُهَنْدِسُ الذي يعرف الماء تحت الأَرض قال وأَصلها بالفارسية وهو معرّب مشتق من الحَفْر من قولهم بالفارسية كِنْ كِنْ أَي احْفِرْ احْفِرْ».

يذكر، أن لفظة «كن» (بمعنى يحفر)، ارتبطت، أيضاً، بالأسماء المنتشرة في شبه القارة الهندية والتي تخص مهنة حافر القنوات أو الآبار؛ حيث يسمى العامل في هذه المهنة في تلك المناطق، «كريز كن»، و «چاه كن»، وهذه أسماء مشتقة من أسماء القنوات بالفارسية، فكلمة «كن» بمعنى الذي يحفر، وكريز وچاه بمعنى القناة أو البئر (Christensen 1993, p. 120). كذلك، فإن لفظة «كريز» دخلت اللغة العربية في فترة ما بعد الإسلام، وقد تم تعريبها إلى كهاريز (الخطيب 1996، ص 372). هذا، ولازالت التسمية كهاريز منتشرة في بعض البلدان العربية مثل العراق (الهاشمي 1989). كما يرجّح أن لفظة كريز تم تعريبها إلى الاسم خرز، وهو اسم نظام القنوات عند بعض العامة في نجد (الدامغ وآخرون 2009، alsahra.org).

ومن المصادفات أن أسماء هذه المهن، «كريز كن»، و «چاه كن»، تتشابه مع أسماء مناطق في البحرين ينتشر بها نظام القنوات، وهي كرزكان وشهركان، فهل هناك رابط بين هذه الأسماء؟ أو أنها مجرد مصادفات؟، لا يمكن وضع إجابة محددة لهذه التساؤلات، ولكن يمكن وضع تصورات وفرضيات.

الدرامكة وبناء نظام القنوات في البحرين

غالبية الدراسات ترجّح أن نظام القنوات في الخليج العربي بني في حقبة ما قبل الإسلام، أما بعد الإسلام، فقد تم ربط بناء نظام القنوات بجماعات معينة، ومن المرجّح، أن هذه الجماعات هي التي قامت على ترميم وصيانة نظام الأفلاج، بالإضافة إلى حفر قنوات وآبار جديدة. ففي عُمان، تم ربط بناء الأفلاج بقبيلة اختصت بهذا النوع من المعمار ألا وهي قبيلة العوامر، الذين ذاع صيتهم في هذا المجال الذي توارثوه أباً عن جد (المعمري 1998). أما في البحرين فقد تم ربط بناء جزء من نظام القنوات بالدرامكة. والمرجّح، من الروايات الشعبية والتحقيق حول بعض علماء الدرامكة المعروفين، أن الدرامكة هم جماعة استوطنت الجزء الشمالي من الساحل الغربي، وبالتحديد منطقة القرية والجنبية وصولاً إلى اللوزي بالقرب من قرية الدمستان (التاجر 1430 هـ, ج3: ص 363)، (العصفور 1993، ج3: ص 135).

هذا، وقد زعمت بعض العامة في البحرين، أن جماعة من الدرامكة عملت في حفر أجزاء من القنوات تحت أرضية، التابعة إلى نظام الثقب والأفلاج في قرى الساحل الغربي. ومن القصص التي علقت في الذاكرة الشعبية أن اثني عشر رجلاً من «الدرامكة» عملوا في حفر قناة ضخمة غير مغطاة، تعرف باسم الساب، وعندما وصلوا إلى العين الرئيسية التي تكون مصدراً للماء، وأثناء ربط الساب بالعين، اندفع الماء بقوة في الساب، وجُرف الدرامكة بفعل قوة اندفاع الماء. ولم يعثر على أثر لهؤلاء الدرامكة، باستثناء شخص واحد وصل إلى كرزكان، ويقال إنه دفن في مقبرة كرزكان، وقبره معروف فيها (يوسف وآخرون، 2010، ص 69).

الخلاصة، أن مهنة حفر القنوات المائية والآبار كانت معروفة في البحرين منذ القِدم، وقد استمر استخدام نظام القنوات في البحرين، بأقل تقدير، حتى الستينيات من القرن الماضي. كما كانت هناك عمليات حفر آبار في البحرين حتى مطلع القرن العشرين. ولا بد أن يكون هناك اختصاصيون في عمليات ترميم وصيانة القنوات، كما يتوجب وجود اختصاصين في حفر الآبار، إلا أن تلك المهن لم توثّق. كذلك، فإن هناك مهناً أخرى ارتبطت بنظام القنوات وعمليات توزيع الماء على الأراضي، سنتناولها في الحلقات المقبلة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 9:27 ص

      شكرًا للكاتب و الوسط

      مقالة رائعة تدون التقدم في هندسة الري بالبحرين و علوم المياه الجوفية ( الهيدرولوجيا)، بالاضافة الي مهارات تشيد نظام القنوات الأرضية . تلك هي منظومة علمية هندسية شاملة يجهلها الكثير في بحرين القرن الواحد والعشرين ، قرن العلوم والهندسة ، بل المؤسف و المضحك في آن واحد ان احفاد هؤلاء عمالقة العلم و الهندسة هم من قاموا لهدم تراث أجدادهم . شكرًا لك اخي العزيز حسين و جريدة الوسط الغراء بإبراز ذلك الصرح العلمي و الهندسي.

اقرأ ايضاً