العدد 5135 - الثلثاء 27 سبتمبر 2016م الموافق 25 ذي الحجة 1437هـ

الكراهية والاغتيال السياسي

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

لم يكن اغتيال الكاتب الأردني المعروف ناهض حتر، حدثاً عادياً يمكن تمريره بالأسف والترحم على روحه وكفى، إنما هو حدث يمثل جوهر المعضلة والإشكالية المعقدة التي يعيشها عالمنا العربي بامتياز. إنه يسقط ورقة التوت التي تتستر بها مجتمعاتنا، وما آلت إليه أحوالها وأوضاع البشر فيها بفعل خطابات الحقد والكراهية التي تتغذى من بيئة سياسية متخثرة، ونتائجها من تأثير التغذية الراجعة للهويات الفرعية التي تتشابك وتتفاعل وتتداخل، مع نتائج الفشل التنموي الذريع لمشروعها النهضوي.

أنت تختلف مع الرجل في بعض المنطلقات والأفكار، تبتعد عنه أميالاً في طريقة مناقشته وأسلوبه الاستفزازي أحياناً، تتباين معه حدّ التناقض في نبرة التطرف والتحيز الإطلاقي التي كان يعتمدها كمعيار في بعض تحليلاته، وأحكامه التي تبلغ بعض الأوقات حد القسوة، لكنك وعند منعطف تحكيم العقل والمنطق تتفق معه بعيداً وبعيداً بشأن ثوابت الأمة التي باتت في هذا العصر تهماً تأخذ أصحابها إلى الجحيم؛ تحرر الشعوب، الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، حقانية مقاومة الشعوب ضد الاستبداد والتوحش، ضد الإرهاب والتخلف..إلخ، القائمة تطول، ثوابت لا تقبل القسمة على اثنين على رغم سوداوية الواقع.

تختلف مع حتر في سيولة التنظير والإسراف والإيغال في الاصطفافات، وفي مقابل طرف الناصية تعلن رفضك صريحاً واضحاً لا لبس فيه ولا رجفة، رفضك بالمطلق اغتياله السياسي، ورفضك التوحش وإلغاء الآخر وتجريده من حقه في الحياة وحقه في التعبير عن أفكاره، وحقه في حرية الاعتقاد، طالما لم يصل لمرحلة إلغاء نقيضه ومن يختلف معه. ترفض وتستنكر لغة الشماتة ومظاهرها البدائية المقزّزة، ترفض التبجح والتعصب الأعمى، وتحارب منطق الشتائم، ترفضها كلها جملة وتفصيلاً، لأن الأمل لايزال يراودك بأن يعيش الإنسان في حقيقة إنسانية الغالب فيها التسامح والمحبة والسلام. إلغاء الآخر يقود أوطاننا للهلاك والدمار، ومحو الإنسانية ومبادئها، ويقودنا إلى مجتمع الغاب والغوغاء وإلغاء المدنية وحزمة القوانين الوضعية والدساتير في صناديق القمامة.

العنف وباء

قيل الكثير عن تنامي العنف، وإلغاء الآخر الذي ابتليت به مجتمعاتنا، قيل إنه ظاهرة مركبة معقدة متعددة الأبعاد والاتجاهات، والعناصر التي ساهمت بوجود العنف، وهيأت له الظروف كي ينطلق بتوحشه؛ هي عناصر ذاتية وموضوعية من الخارج، وهي ذاتها البيئة السياسية الرخوة والأوضاع المتخلخلة التي أفسحت المجال واسعاً أمامه ليمضي.

هي حالة الفوضي واللااستقرار السياسي، وغياب العدالة الاجتماعية التي تنامى معها النهب والفساد، حتى صارت له مؤسسات ترعاه. تفشت الواسطة والمحسوبية والرشوة واستسهال نهب المال العام، فثمة ضمور للديمقراطية والحريات، وثمة غياب للممارسة السياسية الحقيقية في أطرها الدستورية، من برلمانات ومجالس قائمة على الانتخاب الحر؛ بل إن من انقلب على نفسه يوماً ما، وأرسى تجربة إصلاح سياسي منهم تصدرتها الانتخابات، لم يعد يلتزم بقواعد العمل الدستوري فقام بتزوير الانتخابات التي أفقدت الشعوب العربية الثقة بالعملية الانتخابية، وبمؤسساتها النيابية، وشاع بينهم التبرم والاحتجاج والمقاطعة.

أخفق النظام العربي في تحقيق أهداف برامج الإصلاح السياسي التي وضعها، وفشل في تطوير مؤسساته الديمقراطية، ضاق صدره من تمكين قوى المجتمع واستيعابها كي تتشارك معه في تداول السلطة، والحصول على نصيبها الذي تستحقه من الثروة والنفوذ. إنه فشل مشاريع التنمية وإشباع حاجات الشعوب الأساسية، غابت الأحزاب أو كبلت بالقيود، وتم تصحير مؤسسات المجتمع المدني وإفراغها من محتواها، فأصبحت هياكل عظمية لا حول لها ولا قوة، أما المعارضة فتم تنحيتها عن ممارسة الفعل السياسي الفاعل بشيطنة نشاطها، والحجر على مؤسساتها واعتقال قادتها.

زادت حدة التسلط والقهر والإفراط في استخدام القوة والبطش لأي مظهر احتجاجي، من الاعتقالات والتعرض لشتى صنوف الانتهاكات من تعذيب في السجون، وإصدار أحكام الإعدام القاسية، وسحب الهويات على خلفيات سياسية. قيل إن مؤسسة الدولة التي نظر إليها فلاسفة التاريخ لتمثل شعوبها تمارس عنفاً مقيتاً عبر أجهزتها القهرية والقوانين الاستثنائية التي تغلف ممارساتها العنيفة بأطر قانونية ودستورية لإضفاء المشروعية عليها. المحصلة، كل هذه وتلك من بيئة موبوءة لهذا العنف، والعنف المضاد ترفع وتزيد حتماً من حدة دورة العنف، وتبرّر حالة الفوضى، لاسيما مع غياب القضاء المنصف حيث تعرض مبدأ سيادة القانون إلى الانتقائية.

خطاب الكراهية والنبذ

وما زاد الوضع سوءًا، أن سخرت منظومة الإعلام طاقتها ومساهمتها في الانحراف نحو الهويات الفرعية، وتغذية الكراهية وتوتير العلاقات بين أبناء الوطن بشكل مباشر أو خفي، وبما يعزّز توجهات العنف والعنف المضاد، فتصدر خطاب تلقين الولاء والانتماء البليد للهويات الفرعية، عوضاً عن المواطنة الحقيقية، وعلا خطاب اللغو والهويات المتعددة المحركة لنوازع الخصومات، من خلال الشتائم والتمايز وتعظيم الذات، وتبخيس الآخر لإذكاء الفرقة والفتنة على الفضائيات بين جماعات المجتمع، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. إنها حالة التشظّي البائسة التي تثيرها النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية القاتلة في عالمنا، وتساهم بمزيد من التفتيت وإقصاء الآخر حسب الانتماءات والولاءات.

في إطار هذا المشهد الكارثي الكئيب، وحيث تمارس جماعات التشدّد والتطرف عنفاً إلغائياً تدميرياً، ليس ضد الدولة وكيانها الذي لا تعترف بحدودها أو قوانينها الوضعية فحسب - مهما قيل بشأن فشلها وبطشها-، إنما تمارسه ضد الآخر خارج الحدود أو داخل الحدود من قوى المجتمع أو جماعاته التي ليست على مللها وأهوائها، وتختلف معها آيدلوجياً ومذهبياً وطائفياً وإثنياً، فتشيع الرعب، وتحكم بالسيف، وسكين الذبح وحبل المشانق، وتنشر الفوضى والتخريب بالتفخيخ.

قوى التشدد وجماعات التطرف لا تقدّم مشروعاً تنموياً حضارياً بديلاً؛ ذلك لأنها عاجزة وفاشلة ومخترقه ومتشرذمة؛ لكن العنف والإرهاب أيضاً يتمدّد بتمدّد وتضخم معدلات الفقر وبطالة الشباب، الذين اتجهت مرجعيتهم وبما يشكلونه من غالبية حرجة في عالمنا، كونهم يعانون انسداد المستقبل وشح فرص العمل. شبابنا هؤلاء اتجهوا نحو الهويات الفرعية التي يجدونها في المؤسسات الدينية، والقبلية والطائفية والمذهبية المتشددة، فهي مخلص وملاذ آمن، ووجودهم بهذا الحال لغم أسود وقنبلة موقوتة.

ختاماً، يبقى اغتيال الكاتب ناهض حتر ومن سبقه، عنواناً لكل المعضلات السابقة التي تتمدد بفعل الإقصاء الاجتماعي والسياسي، وانتشار التهميش والعوز والفساد. إنها تعبير فاقع عن الاختلالات والتناقضات التي تغلي على مراجل، مخلفةً التوترات والاضطرابات بما تحمله معها كل يوم من قدرٍ خطيرٍ من العنف. لقد صار ملحاً سن القوانين التي تجرّم الاضطهاد والتمييز والتعصب، وثقافة النبذ وإثارة الكراهية ضد الآخر، لمجرد الاختلاف معه في اللون والعرق والدين أو المذهب، وعوضاً عنها ترسيخ مبدأ المواطنة وتجسيده فعلاً، يسبق الهويات الفرعية التي من أسفٍ، غذّت الاحتراب المجتمعي، ومعه تنقية الخطاب الإعلامي المنفلت من عقاله، وبما تتطلبه الجدية وتحمل المسئولية في إرساء خطاب منضبط ومسئول يحمل على عاتقة قيم التسامح وثقافة الحوار واحترام الآخر، غير ذلك سيتكاثر القتل ذبحاً واغتيالاً بحق الأبرياء.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 5135 - الثلثاء 27 سبتمبر 2016م الموافق 25 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 9:58 ص

      باخنصار استاده منى في اعتقادنا سبب الاغتيال الغاشم لان الاستاذ المرحوم مع محور الممانعة والمقاومة ومع فلسطين

    • زائر 6 | 5:44 ص

      شيء عجيب غريب في عالمنا العربي، الطائفية وصلت حتى إلى إهانة المقدسات الإسلامية ... لا بأس أن تشتم الذات الإلهية طالما أنت تمدح بشار الأسد و إيران ... في عام 1988 ثارت ثائرة إيران لأن كاتب بريطاني مغمور لم يسمع به إلا أقاربه و أصدقائه ألف رواية تسخر من النبي محمد صلى الله عليه و سلم (و تسخر من الخميني بالمناسبة هذا الشيء يجهله كثيرون!!) ... اليوم الإعلام الإيراني و توابعه يتكلم عن قضية ناهض حتر كما لو كانت قوانينهم المتعلقة بحرية التعبير لا تختلف عن تلك الموجودة في السويد و الدنمارك!

    • زائر 5 | 5:40 ص

      لم أسمع بشخص اسمه ناهض حتر حتى سمعت بنبأ اغتياله في الأخبار ... شيء غريب لم أستطع فهمه في الوهلة الأولى، إعلام محور الممانعة يطنطن على قصة هذا الرسام أو الصحفي ليل نهار، خبرونا ما هي القصة؟ هل تريدون أن تقنعوني أن حزب الله الذي اغتال مهدي عامل و حسين مروة لأنهم كانوا شيوعيين و يساريين فجأة صار أحرص الناس على من يسب و يشتم الذات الإلهية؟ تريدون أن تقنعوني أن ايران التي افتى قادتها بإهدار دم سلمان رشدي و رصدوا مكافأة مليون دولار لمن يقتله فجأة صاروا لا يمانعون ممن يسخر من معتقدات المسلمين؟

    • زائر 10 زائر 5 | 7:09 ص

      القصة يا صديقي أن ناهض حتر محسوب على محور الممانعة و هو مسيحي الأصل ... يا صديقي محور الممانعة لا يمانعون أن تسخر من مقدسات المسلمين، أهم شيء ايران و توابعها لا تأتي على ذكرهم بسوء و امدحهم إذا أمكن ... هل نسيت نفاق ايران في 2005 أيام أزمة الكاريكتورات الدنماركية؟ عملوا فيها غيورين على الإسلام لأن رسام كاريكتير في الدنمارك لم يسمع به 99.99999% من المسلمين سخر الرسول صلى الله عليه و سلم... لماذا؟ لأنهم في ذلك الوقت كانوا عاملين فيها متصدين للغرب، اليوم علاقاتهم مع الغرب ممتازة بعد الإتفاق النووي.

    • زائر 13 زائر 5 | 7:56 ص

      انت لست مركز الكون
      اذا انت لم تسمع باسم كاتب قومي معروف فهذا مستواك. ولا تعمم على الناس.

    • زائر 2 | 12:59 ص

      المسلمون يتبجحون بسلفهم الصالح وصدر الاسلام والذي كان يقف الفرد رجل كان او إمرأة تقف للخليفة وتنتقده ويتقبل منها ، وهؤلاء يوعزون لعامّة الناس ان يقتلوا كل من خالفهم الرأي

    • زائر 1 | 10:47 م

      اي اختلاف رأي تتكلمين عنه؟ استهزاء بالذات الالهية وبالرسول الاعظم وتقولين اختلاف رأي؟؟؟

    • زائر 4 زائر 1 | 4:18 ص

      بغض النظر عن صحة وخطأ ما قالة لكن هل يصح تصفيته لو القوانين تاخذ مجراها

      اين تمت تصفيته امام المحكمة يعني هو له محاكمة يجب ان تثبت المحكمة الصح والخطا ، وليس كل فرد او مواطن في المجتمع هو القاضي والحكم لاصبحت الدنيا غابة وفوضى ؟؟
      هل يوجد شرع او قانون او انسانية او اخلاقية في الدنيا تجوز للفرد التصفية للاخر مجرد قول رأي واختلف او اخطأ بحق انسان آخر ؟
      مجرد سؤال انساني وعقلي هل هذا يجوز سوى القوانين الالهية او الوضعية ان فرد هو القاضي والحكم ؟؟،،، لو هناك قوانيين وسنن تسير العالم سوى في دول الكفر او الاسلام ؟؟

اقرأ ايضاً