العدد 5137 - الخميس 29 سبتمبر 2016م الموافق 27 ذي الحجة 1437هـ

محنة حرية الفكر والاعتقاد

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

كنتُ عازماً على كتابة مقال عن موضوع آخر لولا أنَّ فاجعة اغتيال الكاتب الأردني ناهض حتر من قبل معتوه أحمق جديدٍ من بين مئات الألوف المعتوهين الحمْقى في بلاد العرب وبلاد المسلمين تحتّم الانضمام إلى صفوف المناهضين لظاهرتي التطرف المجنون، والفهم البليد لدين الإسلام، اللتين ترمز إليهما حادثة الاغتيال تلك.

وإذا كانت هذه حادثة أودت بحياة فرد، فإنَّ «القاعدة»، وما فرَّخت من أبناء وبنات وأحفاد، قد مارست مثلها، وأبشع منها، بحقِّ الألوف من البشر الأبرياء، بنفس الجنون والفهم اللاعقلاني للإسلام.

مأساة ناهض حتر تطرح مرة أخرى موضوع حرية الفكر والاعتقاد التي أقرَّها القرآن الكريم، ولكن يرجف بفهمها المُرجفون.

حرية الفكر والاعتقاد هي من الأسس التي قامت عليها رسالة الإسلام. فآية «لا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبيَّنَ الرُّشدُ من الغَيِّ» (البقرة: 256)، وآية «فَمنْ شاء فَليؤْمنْ ومَنْ شاء فليكفُرْ» (الكهف: 29) واضحتان ولا تحتاجان إلى أيِّ تفسير، وهما تحكمهما الآية «تِلكً آياتُ اللهِ نَتْلوها عليك بالحقِّ فبأيِّ حديثٍ بَعدَ الله وآياته يؤمنون» (الجاثية: 6). وبمعنى آخر فانَّ أيَّ حديث، من أيٍّ كان وتحت أيِّ مسمَّى، يتناقض معهما ويبطلهما هو حديث غير مقبول عقلاً وغير إسلاميٍ انتماءً.

إذن، ليست المشكلة في القرآن، وإنما في مكان آخر، كتبت بشأن نقاط الضَّعف في بنائه وفي محتوياته المجلَّداتُ، ومن قبل أشخاص لا يُشكُّ في إيمانهم وتديُّنهم وعلمِهم وغِيرتهم على طهارة دينهم.

هذا المكان الآخر تمثّل أولاً في ما سمي بعلوم الحديث: تلك الأحاديث النبوية التي زاد عددها من نحو خمسمئة أيَّام الخلافة الراشدة إلى نحو مليون في عصر المأمون، تلك التي وضع الكثير منها لدعم مشروعية هذا الحكم أو ذاك، أو لدعم هذا المذهب أو ذاك، أو لتشويه الدين الجديد عن طريق الإسرائيليات، وتلك التي اختُلف بشأن معياري تصنيفها وترجيحها وصحتها، معيار السَّند ومعيار المتن، والتي بسبب ذلك امتلأت بالخرافات وبالاعتداءات على طهارة نبي الإسلام، وبجرأة محاولة نسخ بعض آيات القرآن، وبالادعاء بمعرفة تفاصيل عالم الغيب، وبالحط من مكانة المرأة، وبمخالفة الآيات القرآنية بشأن حرية الإنسان في فكره وعقيدته وتصرُّفاته.

ولقد دُوّن كل ذلك في كتب مذهبية اكتسبت القداسة عند البعض والصدقية التامة عند البعض الآخر. ومع أنَّ كثيراً من الكتاب الإسلاميين طالبوا حديثاً بمراجعة تلك الكتب وتنقيحها مما علُق بها من نقاط ضعف كثيرة، إلا أنها لاتزال راسخة في الحياة الدينية والثقافية والسياسية، تمدُّ من يريد من المعتوهين والمجانين بزاد لا ينضب لارتكاب إراقة الدماء والمجازر، ولوضع العرب والمسلمين والإسلام في مواجهة مع العالم كله، ولممارسة بشاعات سبي النساء والاعتداء عليهن جنسيّاً وغيرها كثير.

ومع الأسف، فانَّ بعضاً من الأنظمة السياسية العربية والإسلامية، وكثيراً من المؤسسات الدينية والفقهية والمذهبية، ومجموعات من مُدعي العلم المرتزقين الدجَّالين ضالعون في ترويج ذلك الفهم وذلك التقديس، وبالتالي في رفض المراجعة والتنقيح لكتب ذلك التراث المشوه المستغل.

وكنتيجة طبيعيَّة لكل ذلك التخبُّط في عالم علوم الحديث، المعتدى عليه زوراً وبهتاناً، الذي يستعمل اليوم من قبل المعتوهين كمصدر لزرع الفتن والصِّراعات وارتكاب الموبقات، أدخل بعض الفقهاء علوم الفقه الإسلامي في متاهات كثيرة باسم الاجتهاد أحياناً وباسم منع الفتن والبدع أحياناً أخرى. هذا الفقه الذي بناه بشر واجتهدوا فيه بحسب علوم وظروف ونمط حياة أزمنتهم انضاف إلى محنة علوم الحديث ليكون الركن الثاني في ذلك المكان الآخر. وهو الآخر، وبصورة مؤكدة، يحتاج إلى نفس المراجعة والتنقيح والتجديد والإخراج من عالم المذهبية الضيِّق، بل وبنائه من جديد كفقه جديد يأخذ في الاعتبار علوم هذا العصر وظروفه وبشره.

إذ بدون هكذا مراجعة وتجديد سيبقى هذا الفقه أيضاً أحد المصادر، التي تستعمل ما فيه من حلول وُضعت لظروف تاريخية مختلفة عن حاضرنا، لاستعماله هو الآخر في تدمير مبدأ حرية الفكر والاعتقاد القرآني وبالتالي في إراقة الدماء، وترسيخ حياة التخلُّف والتزمُّت، والظلم والطأفنة البغيضة البدائية.

إنَّ ما يحزُّ في النفس هو تقديس ذلك الفقه، وتناسي ما قاله على سبيل المثال أبو حنيفة «هذا رأيي، فمن جاء برأي أفضل قبلناه»، أو مالك «أنا بشر أخطئ وأصيب»، أو الشافعي «إذا صح الحديث بخلاف قولي فأضربوا بقولي عرض الحائط» أو ابن حنبل «ما ضيق علم الرجال تقليد الرجال. فلا تقلدوا الرجال فإنهم لا يسلمون من الخطأ» وبصورة مؤكدة ينطبق الأمر على مؤسِّسي كل المذاهب الفقهية الأخرى.

نستطيع في بلاد العرب وبلدان الإسلام أن نتحدَّث إلى ما شاء الله عن فلسفات الحريَّات وأفكار الحداثة ومتطلبات الديمقراطية، وأهمية التسامح وتحكيم القضاء العادل في كل خلافاتنا، لكن ذلك لن يفيد.

إنَّ المعتوهين والمجانين لن يقرأوا ذلك، فهم مشغولون بقراءة ما يعجب نفوسهم المريضة في ثنايا ذلك التراث المبتلى بالعلل. من هنا ستظل الدماء تُسفك دون وجه حق، والأزواج يفرّق بينهم دون وجه حق، والمرأة تعاني وتئن، وأجهزة الأمن تستغلُّ رسماً كارتونيّاً، أو جملة عابرة لتصفية حساباتها مع خصومها السياسيين، والحياة العربية ترزح تحت مآسي القرون وبلاداتها، وأمثال ناهض حتر يسقطون على وجوههم في برك دمائهم.

نحن هنا نتحدث عن حادثة الاغتيال الهمجي، وليس عما إذا كان الكاتب قد أخطأ التقدير والتعبير، فهذا موضوع آخر. هذا الاغتيال الغادر يضيف الحزن والأسى إلى مأساة حرية الفكر والاعتقاد في أرض العرب التي تُمارِس كل ما يُغضب الذات الالهيَّة ثم تدَّعي حمايتها.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5137 - الخميس 29 سبتمبر 2016م الموافق 27 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 25 | 3:13 م

      زائر 10 ! ليش تكتب تعليقك صوب موضوعي؟ أنا موضوعي عن عدم عصمة العلماء! ليش هذا الحسد على أئمة آل البيت عليهم السلام؟ ليش تخلط الحق والباطل وأتغوي الناس وأتدس كلامك وسط كلامي؟ أنا صاحب مواضيع زائر 2 وزائر 3 وزائر 4 ! يا زائر رقم 10! ما ليك حق تخلط كلامك أبكلامي حول تحقيقي مع المحققين حول تلك الرواية حتى تنشر أكاذيبك على الناس لتستنقص من مقامات الأئمة عليهم السلام

    • زائر 22 | 10:19 ص

      نعم أصبت آلاف المعتوهين والحمقى وهم في ازدياد ما دام الدين أصبح مثل التجاره والفتوى لإرضاء أهواء رجال الدين الذين يدعون التزمت وهم أبعد ما يكونون عن الدين

    • زائر 23 زائر 22 | 12:04 م

      بل لإرضاء رجال السياسة ألم تسمع بمقالة أحدهم عندما أراد منه الحاكم تبرير خروج الجيش للحرب على سيد شباب أهل الجنة فقال مقالته المشهورة؛' أن الحسين خرج عن حده فليقتل بسيف جده.'

    • زائر 17 | 4:59 ص

      جميع الاّراء و الحلول التي تطرح هي ترقيعية و لا تبحث في أصل المشكلة و زوالها او ازالتها. هناك خلل كبير في اصولنا الاجتماعية و التربوية إن كانت في البيت و بين الأهل و المجتمع أو المدرسة. طالما نتمسك بعاداتنا و تقاليدنا و نعيش في معايير مزدوجة بحمل القديم في عقولنا و الحديث في جسمنا و بيئتنا لا أمل في التغيير او التطوير. أروبا لم تتقدم علي الشرق الا بعد ان وضعت الماضي و القديم في المتاحف. نحن لا نزال نعبد الماضي و نتمسك به و ننكر استعبادنا بالمستحدث الذي يدخل إلينا كل لحظة من الغرب الكافر.

    • زائر 15 | 4:03 ص

      زائر 13 الي يقصف الابرياء فى حلب هم الدواعش والمعارضة وليس بشار بس انتم لاتورن اله الباطل لاتريدون الحق عمرك شفت معارضة تحمل سلاح وتقتل الابرياء جاوبنى ايها الفصيح

    • زائر 14 | 3:49 ص

      زائر 10 تثقف واقرا عدل النبيى محمد واهل البيت الائمة عليهم افضل الصلاة هم معصومين وفى القران مذكور هاده الشى
      اقرا هادى الاية انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا \\نزلت هادى الايه على النبي واهل البيت عليهم السلام والتاريخ يشهد وعطنى اى معصيه او خطا ارتكبهو الرسول واهل بيته الاطهار عليهم السلام

    • زائر 13 | 3:48 ص

      و الله إني لأخجل منكم يا أمة العرب! حلب تباد بكل أنواع القنابل الروسية و أنتم لا شأن لكم إلا ناهض حتر منذ 4 أيام؟ و الله لو لم يمدح ايران و بشار الأسد لم تأتوا على ذكره.

    • زائر 24 زائر 13 | 1:33 م

      ويش دليلك ان حلب تدمر من الروس؟

    • زائر 12 | 3:41 ص

      اذا تكلمت بالحريه والحق فانت خائن لبلدك ومصيرك السجن وسحب الجنسيه الواقع المرير فى البحرين المشتكى لله
      وشكرا استادى علي فخرو

    • زائر 11 | 3:20 ص

      الاستاذ الكبير د.علي .. عبادة الدينار وعبادة الاولياء وكافة العبادات المظلة للمسلمين بلغ الموضوع اشده .. هناك من يؤمن بقتل الابرياء بزعم الشهادة ومن يؤمن بعبادة الاولياء والتضحية بحياتة لمجرد المساس او الاقتراب منهم .. في آخر السطر .. نريد حرية الرأي ونطالب بحق التعبير .. ولكن .. عند كتابة ط ط طط .. يغضب منها أهل الديره من مختلف الاديان والمذاهب .. ولكن رفض الولاية في دولة الخلافة التي انطلقت من ايران وتم تصديرها الى العراق العربي والشام ارض المحشر لتكرار التجربة دولة الخلافة "داعش" ثعلوب

    • زائر 9 | 3:04 ص

      دكتور علي 3
      هل كل ما يقال هو من حرية الفكر؟ إذاً ما هي الفوضى؟
      قال رئيس دولة عن رئيس دولة أخرى أنه ابن () ، و قال عن سفيره أن شاذ. إذا قيل له هذا لا يليق فقال : أنا أعلم ذلك ؛ لكنه حرية التعبير و الفكر. هل هذا مقبول؟ هل ستقف مع الرئيس لو رفع دعوى ؛ أم مع من قذفه لأنه حرية تعبير؟
      يا دكتور علي ؛ إما أن تفتح حرية الفكر و التعبير على أوسع نطاق ؛ أو تحدد مدى و حدود حرية الفكر و التعبير.

    • زائر 8 | 3:03 ص

      دكتور علي 2
      و أقول بلسان المواطن العادي: مع مطالبتي بحرية التعبير و الاعتقاد ؛ إذا في ناس يقدسون البقر ، و يغيضهم سب و إهانة البقر. فجاء من يسخر من البقر علانية. هل يناله شيئ من الجرم أم لا؟
      هل من الحكمة أن يصب مفكر هجومه على البقرو عبادة البقر؟
      أليس من الحكمة و الكياسة أن يوجه هؤلاء البسطاء بفكره و تنوره إلى أن هذه مخلوقات و ليست آلهة؟

    • زائر 7 | 3:03 ص

      دكتور علي 1
      أنا لست عالم دين لأصحح أو أخطأ ما ذكرت عن الأحاديث النبوية ؛ فأدع ذلك لعالم مختص. لكن دعني أمارس معك حرية الفكر و التعبير في هذه الجزئية. الرجوع إلى 500 حديث هو من حرية الفكر و التعبير. فإن قال متعصب لا بل هم مليوني رواية ، و سندافع عنهما و ليس فيهما صحيح و لا ضعيف ، كلها صحيحة ، و الاعتراض على هذا العدد كفر و زندقة. أليس هذا من حرية الفكر و التعبير؟ و لأنه دجال مخرف ؛ هل ستدافع عنه لو أسكته أحد بالقوة؟

    • زائر 6 | 1:44 ص

      ويلاه من امّة تنحدر بصورة دراماتيكية لتصل الى الهاوية

    • زائر 2 | 12:51 ص

      هام وعاجل..نرجوا القرائة والفهم...الحديث المشهور عند العامة ولايوجد في كتب الشيعة الأربعة
      (ولا ينطبق ان تنزلنا وقلنا بوروده الا على أهل البيت (ص) والا فنبي الله موسى وعيسى من أولوا العزم .... ياجماعة الخير ... )(علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل ) لم نعثر له على أثر في كتب الإمامية , إلا ما نقله بعضهم عن وجوده في كتاب (مفتاح الفلاح) للشيخ البهائي , ولم نجده في النسخة المطبوعة منه .
      وهناك لفظ حديث قريب منه وهو (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل), وهو أيضا لم يرد في الجوامع الحديثية عندنا,يتبع

    • زائر 3 زائر 2 | 12:54 ص

      يتبع.. نعم رويَ مرسلا في (تحرير الأحكام/ للعلاّمة الحلي (1 :38 ) , و(عوالي اللاّلي/ للأحسائي 4 : 77 ).
      ولكنه ورد عند أهل السنة, وقال فيه محققوهم أنه لا أصل له كالزركشي ( تذكرة الموضوعات 5 : 20 ) , والحافظ العراقي (فيض الغدير 4 : 504 ) , والسيوطي وابن حجر والديمري (كشف الخفاء 2 : 640 ) .
      ولذلك ذكر علمائنا المحدثون كالحر العاملي في (الفوائد الطوسية) والنوري في (دار السلام) ونعمة الله الجزائري بأنهم لم يعثروا على هذا الخبر في كتب الأخبار حتى رجح الحر العاملي كونه من موضوعات العامة أو الصوفية.

    • زائر 4 زائر 3 | 12:57 ص

      وعلى كل حال فلو اغضينا النظر عن السند , فإن أقرب وأظهر معنى للحديث هو أن المقصود فيه الأئمة المعصومين (عليهم السلام ). وللأسف هناك في العراق كثيرين من المتحزبين وراء المرجعيات يستشهدون بهذة الرواية التي لا أساس لها من الصحة والتي يرجح بأنها موضوعة في كتب الأحاديث عبر الجماعات الصوفية وغيرهم ليقوموا بالترويج لطاعة رجال الدين خاصتهم!

اقرأ ايضاً