العدد 5184 - الثلثاء 15 نوفمبر 2016م الموافق 15 صفر 1438هـ

 العطايا المدهشة

أمين صالح  - روائي ومترجم بحريني
أمين صالح - روائي ومترجم بحريني

بين فترة وأخرى، ضمن فضائه التشكيلي الفسيح، الغني والمتحوّل، الزاخر بالإنجازات الملفتة، يُكرِّس الفنان عباس يوسف جهده ووقته لتوجيه تحيةٍ فنيةٍ إلى مبدعٍ ينتقيه من حقل فني أو أدبي، عبر لوحات تمثِّل مرحلة جديدة أو مختلفة في المسار الإبداعي للفنان نفسه.

هذه التحايا، أو الاهداءات، تشفُّ عن تواصل عميق - تتميّز به تجربة عباس يوسف الفنية والأدبية - مع تجارب إبداعية، محلية وعربية، يجد فيها رؤى وآفاقاً مشتركة تتواشج مع رؤيته الخاصة وأفقه اللامحدود الذي يذهب إليه مطمئناً وقلقاً في آن.

بألوانه وتكويناته وأشكاله المجرّدة، يعبّر عباس يوسف عن حبِّه وتقديره وامتنانه لمن يرى فيهم حالة إبداعية خاصة تفاعل معها على نحو إيجابي، وتحاور معها حواراً خلاقاً... ولمن يرى فيهم حالة إنسانية خاصة تتصل بالصداقة والرفقة والمحبة.

على أرضية، محكومة بالإبداع وحده، يؤسِّس الفنان الرابط القوي والعميق، المتجذِّر في حلم مشترك لا يُضاهى.

أن توجِّه تحيةً إلى قاسم حداد يعني أن توجِّه تحيةً إلى الشعر في أبهى تجلياته وأزهى صوره، إلى الكينونة الإنسانية في أسطع حضورها، إلى النبالة والسخاء في التعامل مع المحيط، إلى المخيَّلة النافرة التي لا سائس لها وتستعصي على الترويض، إلى المعاني المتناثرة في فضاء النص كالشهب ولا تقدر عليها فخاخ التأويل، إلى الكلمات المجنَّحة كالغرابة، إلى العطايا المدهشة، إلى الشيء ونقيضه، إلى العذوبة والدماثة، إلى صداقة الخبز والطريق التي لا تذبل، إلى الحب ولا شيء غير الحب.

هكذا.. بهباته الكريمة، بهداياه الثمينة، يعانق عباس يوسف كل هذا البذخ، ويسهر السهرة العامرة بما هو عجيب في دروب قاسم حداد المُضاءة بالمنارات.

هكذا يعرض عباس يوسف، بسخاء وشفافية، لوحاته الجديدة، لعلها تدلّنا إلى أعماقه ودواخله المتشابكة، فنعرف عن الكائن ما لم نكن نعرفه من قبل. ليس الكائن وحده، بل أيضاً محيطه الذي يسعى إلى إعادة اكتشافه في كل مرّة، بلا كلل.

مثلما فهمت أخيراً أن كل كتبي عن المبدعين السينمائيين كان باعثها الأساسي تلك الغيرة العميقة، السريّة، المتوارية، غير المعلنة، التي أشعرها تجاه هؤلاء الفنانين بسبب إخفاقي في أن أكون واحداً منهم، كذلك يحلو لي أن أعتقد بأن قاسم حداد يشعر بغيرة عميقة، سريّة، متوارية، غير معلنة، تجاه الفنانين التشكيليين، وما أعماله المشتركة مع التشكيليين، وكتابته عن فان غوخ وآخرين، وولعه باقتناء اللوحات، ومحاولاته لإضفاء بُعد تشكيلي على طرائقه في الكتابة، إلا نتاجاً لتلك الغيرة.

الشاعر المحسود يحسد أيضاً. لكن هناك فرقاً بين حسدٍ وحسد. ثمة حاسد يشعر بالضغينة والحقد تجاه من يحسده، وحاسد يؤجِّج طاقة الغيرة والتحدي ليضرم الإبداع في حقله الخاص.

إن تحايا عباس يوسف، وإهداءاته السخية، تعبيرٌ عن الامتنان والاحترام والتقدير الذي يكنّه الفنان تجاه رفاقه المبدعين، وهي حالة نادرة نشهدها في الوسط الثقافي حيث بروز ظاهرة الغرور والأنانية وتضخُّم الذات والغيرة الشريرة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً