العدد 5221 - الخميس 22 ديسمبر 2016م الموافق 22 ربيع الاول 1438هـ

مناقشة هادئة لخطاب مثير

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

لدينا، نحن العرب، صعوبة في فهم الطريقة التي يتعامل بها بعض ساسة ومحلًلي الغرب مع التاريخ العربي الحديث، وخصوصاً مع بعض التعابير المستعملة في وصف حوادث ذلك التاريخ. ويشعر الإنسان أحياناً بأن الأهداف والممارسات السياسية الآنية المكيافيلية تلعب دوراً في تشويه قراءتهم ذلك التاريخ.

دعنا نعطي مثالاً لما نعنيه من خلال الحدث التالي: في كلمة لدبلوماسي بريطاني، في مؤتمر سياسي دولي، وعلى أرض الخليج العربي، وعلى مسمع من شعوبه، أعلن عن اعتقاده بأن خروج بريطانيا في مطلع السبعينات من القرن الماضي، عسكراً وهيمنة، من الخليج العربي، كان خطأ فادحاً ارتكبته حكومة بلاده في حينها. دعنا بهدوء تام نبين له ما نعتقد أنه وجهة نظر مخالفة لما قاله. ذلك أن غالبية شعوب ومسئولي ومجتمعات الخليج العربي يقرأون ذلك الحدث بصورة أخرى.

أولا: هناك تمويه لا نفهمه بشأن طبيعة التواجد البريطاني في أرض الخليج العربي، الذي امتد لما يزيد عن 150 سنة. أفلم يكن تواجداً استعمارياً في شكل تواجد عسكري هنا أو هناك، وهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية من قبل المقيمين البريطانيين؟ ألم يكن غياباً لأي سيادة وطنية ولأي متطلبات للاستقلال الوطني؟ ألم يكن ممثلو الحكومة البريطانية المقيمون هم الآمرون والناهون في كل كبيرة وصغيرة؟

نحن بالطبع على علم بأن القوانين البريطانية، بل وحتى العلاقات الدولية، كانت في حينها تعرُف الدولة الحامية بأنها دولة تقوم بتهيئة الدولة المحمية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لتصبح مهيُأة لإعلان استقلالها الوطني. لكننا نحيل الدبلوماسي البريطاني إلى قاموس الفكر السياسي الذي ألًّفه البريطاني روجر سكروتون في الثمانينات من القرن الماضي والذي بعد تعريفه لكلمة الحماية وأهداف الحماية الجميلة التي ذكرنا سابقاً يضيف جملة لها دلالاتها العميقة. يقول المؤلف: «كثيراً من المستعمرات البريطانية تمتعت بصفة الحماية (مثل روديسيا)، ولكن هناك خلافات فيما إذا كانت قد حظيت بما تتطلبه وتفرضه كلمة حماية». وبمعنى آخر فقد ألبست الكثير من المستعمرات لباس الحماية، خداعاً وتجميلا، مع أنها لم تحصل على ميزات الحماية، وإنما حصلت على سوءات الاستعمار. وعندما خرج البريطانيون منها فإنهم قد خرجوا مرغمين أو مضطرين.

وهذا ما حدث بالضبط للوجود البريطاني في إمارات الخليج العربي. ولذلك فالانطباع الذي أعطاه الدبلوماسي البريطاني على الخروج من الخليج، يوحي بأن الانسحاب البريطاني كان تعطفاً ومنًة من الحكومة البريطانية، وبالتالي كان قراراً خاطئاً لا دخل لحكومات وشعوب الامارات، ولا حتى للظروف الدولية، في إرغام الحكومة البريطانية على اتخاذ ذلك القرار التاريخي بالانسحاب.

بل إن في كلام الدبلوماسي إيحاءً بأن امارات الخليج العربية آنذاك لم تكن مهيًأة للحصول على استقلالها. ونضيف بأن هناك إيحاءَ بأننا، حكاماً وشعوباً ومجتمعات، لم نكن نستحق الاستقلال الوطني، وإلاً لما أسف الدبلوماسي على انتهاء الحماية.

ثانياً: يظهر أن الدبلوماسي لا يعتبر أن دول الخليج العربية هي جزء من الأمة العربية، وأنها لذلك تحمل همومها وتغضب لما يصيب أي جزء منها بالأذى والظلم.

لنذكره بأن في قلب ووجدان كل فرد من شعوب دول الخليج العربية ألما ولوعة وغضباً تجاه حادثين تاريخيين مفجعين ارتكبهما النظام السياسي البريطاني في الماضي.

الحادث الأول يتمثًل في وعد بلفور الشهير، الذي بموجبه خانت بريطانيا دورها ومسئوليتها كسلطة حامية، وذلك عندما سلمت الجزء الأكبر من أرض فلسطين العربية المحمية لمجموعة من العصابات الصهيونية، وقادت إلى تشريد الملايين من العرب الفلسطينيين خارج بلادهم.

اليوم، والسلطة الصهيونية المحتلة ترفض رجوع المشردين الفلسطينيين إلى أرضهم ومنازلهم، وتتكلم عن الانتقال لجعل فلسطين العربية كياناً يهودياً لا مكان للعرب فيه، وتبني المستعمرات في كل شبر بسطوة السلاح والجند والبرابرة الآتين من كل أصقاع العالم... الآن لا نرى موقفاً أخلاقياً حازماً واحداً من قبل الدولة التي أعطت أرضاً مؤتمنة عليها ولاتملكها للصوص استولوا عليها باسم أساطير دينية مختلفة ومتخيلة.

أما الحادث الثاني فهو الدًور المخادع، المبنيُ على الكذب والتلفيق، الذي لعبته حكومة طوني بلير البريطانية، بالتواطؤ مع رئيس الولايات المتحدة الجاهل المغرور السابق جورج بوش الابن، وذلك لاحتلال العراق وتدميره مجتمعاً ووطناً وجيشاً وإدخاله في حياة الضياع الطائفي، ومن ثم تسليمه إلى داعش وأخواتها.

ولا حاجة للزيادة، فالدماء والدموع العراقية لاتزال تبلل أرض العراق المبتلى المدمر.

ثالثاً: وإذاً فالدبلوسي، في محاضرته، لم يقرأ التاريخ بصورة خاطئة فقط ويقلب تعقيداته التاريخية إلى مجرد خطأ تكتيكي ارتكبته حكومة بلاده في حينها، وإنما يتناسى الجروح العميقة في وجدان الإنسان العربي التي نتجت عن القرارات الاستعمارية الظالمة التي أخذتها ونفذتها بلاده بحُق شعبين عربيين لم يرتكبا خطأً قط تجاه بلاده وشعبه.

ولذا، فعندما يعلن الدبلوماسي، بابتسامة عريضة وفخار صارخ، مبشراً ومهللاً، بأن الجيوش البريطانية ستعود إلى أرض العرب لحمايتها، فهل يعتقد حقاً أن مياه بحار العرب قادرة على غسل يد القتلة الملطخة بدماء الضحايا؟

إن كان الدبلوماسي يعتقد ذلك فانه لم يقرأ جيداً ما كتبه شكسبير على لسان القاتلة ليدي ماكبث، وأنه أيضاً لا يعرف قراءة التاريخ بموضوعية ومسئولية.

إذا كان المحاضر يريد علاقة أفضل بين العرب وبريطانيا في المستقبل، ونحن نتمنى ذلك، فعلى دولته أن تمارس الاعتذار من جهة وتبذل من جهة أخرى جهداً مخلصاً لتصحيح نتائج ما ارتكبته بعض حكوماتها من أخطاء نعيش إلى اليوم مصائبها ومآسيها.

كان على المحاضر أن يعي بأن الحاضر هو مرآة تعكس الماضي وبوصلة تحدد المستقبل، وأن علاج الحاضر لا ينفصل عن كليهما.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5221 - الخميس 22 ديسمبر 2016م الموافق 22 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 16 | 5:44 ص

      يا عزيزي القواعد الاجنبية موجودة في دول الخليج قبل ولادة صدام .. لكن يوجد لاي مشكلة او حادث او أزمة سبب او اسباب مباشرة واسباب جذرية. الهجوم علي العراق هو سبب مباشر لاحتلال الكويت اما السبب الجذري هو تصرف صدام في اتخاذ قرار فردي يدون الرجوع الي قيادة مجلس الثورة او اللجنة العليا لحزب البعث الاشتراكي والنتيجة ليس خراب البصرة فقط بل العراق باكمله

    • زائر 13 | 1:30 ص

      اختلف مع جانب من المقال: وثائق أثبتت أن هناك من كان يتأسف لوضع الامبراطورية البريطانية وخروجها من الخليج

    • زائر 12 | 1:28 ص

      اذا كنت مصرا على ذلك فيجب ان تفكر بالسؤال التالي: اين كاتت قيادة عمليات الغزو ومن اين طارت الطائرات؟ ثم ماهى توصيفك لمن سمح لهم بذلك؟

    • زائر 11 | 1:13 ص

      الي زائر 7 ..اللي جاب الامريكان هو صدام حسين بسياسته الخرقاء باحتلال الكويت وتهديد باقي دول الخليج .. هذا نتيجة انعدام الديمقراطية واتخاذ الرجل او الزعيم الاوحد قرارات كارثية بدون الرجوع الي مستشاريه او مجلس النواب او الشوري ( حتي بدون صلاحيات) مما ينسبب في حدوث ازمات لا نهاية لها

    • زائر 10 | 1:04 ص

      عزيزي اذا تحب المستعمر الانجليزي الاحسن تسافر الي لندن حالا بالا وتطلب الجنسية البريطانية من جلالة الملكة ..

    • زائر 9 | 12:46 ص

      رد على رقم 7
      ومن دفع فاتورة مجيء الأمريكان يا فطحل؟ ومن أين طارت الطائرات لضرب العراق؟
      ...؟ لكن لا عتب

    • زائر 8 | 12:44 ص

      الله يرحمك يا والدي كنت منفيا معذبا من صغرنا لم نلمس حنانك والله يرحم مجيد مرهون البطل وابطال كثر بالبلد ضحوا لدور زمرتهم استقلالها منهم انتزع انتزاعها منهم لا حبا فينا هذه الأرض وناسها لم تعهد ويعهدوا الخنوع كافحوا يلزمنا هذا من اجل أوال لايرجف فيها الأمل لن يطول البقاء لأنه لا يدوم الا لله سبحانه

    • زائر 7 | 12:28 ص

      لا اتفق مع كاتب المقال بالنسبة للعراق لم تاتي بريطانيا و امريكا للعراق و تدميرة إلا بطلب حفنة من العملاء و هم من جعل امريكا و بريطانيا ترتكتب الجرائم في البلد العربي القوي و تزرع بذور الطائفية فيه و في كل بلدان العالم العربي.... السؤال هل يعجبك يعجبكم وضع العراق الحالي ؟

    • زائر 6 | 11:57 م

      يا دكتور الف شكر لك لأنك قلت الحقيقة في زمن عزّ فيه الحقّ ولبّست كثير من الأمور تلبيسات اخرى وسميت بمسميات يراد منها دفن الحقيقة .
      بريطانيا لها تاريخ طويل في الاستعمار واضطهاد الشعوب وهي تعترف بذلك كما ان ديمقراطيتهم التي يتبجحون بها لا يرون لباقي شعوب العالم الثالث حقا في ان يتمتعوا بها، كأنهم خلقوا البشر ويوزّعون عليهم من يصلح وما لا يصلح لهم.
      انها الطمع والجشع البشري

    • زائر 4 | 11:51 م

      صدقوني لو باقين على الاستعمار البريطاني واجد أرحم لينا .

    • زائر 14 زائر 4 | 2:11 ص

      لماذا ؟؟"وهل الامة انفكت عنهم للحظة ؟؟ اذا اعتقدت ذلك فانت خاطئ ؟؟
      وهل هذا الكوارث والاشلاء والدماء السيل الا نتاجهم ؟؟
      اين انت عايش لماذا لا تربط الاحداث مع بعضها البعض وتفككها عن بعضها ؟؟

    • زائر 3 | 11:45 م

      نحن في زمن تغيير المصطلحات وبقاء الحقيقة كما هي ،حتى الاستعمار حوّروا مصطلحه وغيروه وأصبح تواجد فقط لكي يخفّفوا من وطأة الأمر وفظاعته. أي شعوب واي حكومات نحن؟
      وهكذا مع حقوق الانسان اخترعوا لها جمعيات ومسميات لا تمتّ لواقعها بشيء حيث يضطهد الانسان تحت مرأى ومسمع هذه الجمعيات ليأتيك من يرأس هذه الجمعيات ويشهد شهادة زور امام المجتمع العالمي.

    • زائر 2 | 10:03 م

      مقالك رائع دكتور والحقيقه أن تاريخ الاستعمار البريطاني سيئ وماعملت في فلسطين والعراق فهو كارثة على العرب لأنك دكتور لم تكن ....عندما قلت أن بريطانيا سلمت العراق لداعش وأخواتها بل سلمت العراق لإيران ولا تنسا أن ما يحدث للعراق الآن يحدث في سوريا.

    • زائر 1 | 9:43 م

      £

      دكتور أنت الآن شرشحت هذا الدبلوماسي البريطاني وما قاله عن خروج عصابة بلاده من الخليج ،،....

اقرأ ايضاً