قبل خمس وأربعين سنة من يومنا هذا، صدرت في إيطاليا، باللغة الروسية أولا، ثم باللغة الإيطالية رواية يمكننا اليوم اعتبارها واحدة من أعظم روايات القرن العشرين من دون منازع: رواية «دكتور جيفاغو» التي ستصبح بسرعة، حتى من دون إرادة كاتبها، أعظم سلاح جوبهت به الثورة الروسية وامتداداتها الستالينية. وبعد أعوام قليلة نال صاحب الرواية، بوريس باسترناك، جائزة نوبل للآداب (1958) لكنه، تحت ضغط سلطات بلاده، وأيضا إزاء تحول الرواية في الغرب إلى أداة «بروباغندا» في يد الاتحاد السوفياتي، رفض نيل الجائزة ليموت بعد ذلك بعامين.
هنا هذا الملف عن الرواية، أو بالتحديد، عن خلفيات الرواية ولاسيما عن العلاقة الإشكالية التي قامت بين مؤلفها وستالين، وهي علاقة امتدت طوال ما يقرب من ثلاثين عاما (1924 - 1953). فستالين كان معجبا بأدب باسترناك وشعره. وباسترناك كان متأرجحا في موقفه من زعيم الأمة.
نطل على العلاقة، إذا، من خلال ما كتبته اولغا ايفنسكايا، زوجة باسترناك الأخيرة. عن هذا الأمر في بعض أجمل فصول كتاب لها عنوانه «رهينة الأبدية: سنواتي مع باسترناك» صدر قبل 25 سنة، وفيه تكشف للمرة الأولى عن أمور غابت طويلا عن محبي باسترناك وعن قرائه. وفي بعض هذه الأمور ما يُفاجئ حقا.
في العام 1953 كنت في معسكر للاعتقال، لكن إطلاق سراحي كان قريبا. وكان بوريس يعيش شوقا إليّ، تفضحه الرسائل التي كان يبعث بها إليّ في «بوتما» بتوقيع أمي. وهي رسائل كان من حظي أنني عدت بها معي من المعتقل. ويمكن لي اليوم أن أقول إن أول ذبحة قلبية ألمّت به، كان سببها فراقنا على ذلك النحو. وفجأة حينها، في اللحظة التي كان القدر يهيئ لنا فيها معجزة اللقاء من جديد، حدث انقلاب مدهش في حياة بوريس وعواطفه. فقد بعث إلي مع ايرين (ابنتي التي كانت بلغت الخامسة عشرة حينها) رسالة يقول لي فيها إنه يحبني دائما، لكن على علاقتنا أن تصبح مختلفة عما كانت عليه سابقا. وأنا كنت على ثقة من أنه كان يتوقع أن يراني وقد تحولت إلى امرأة عجوز. ولكن حدث بعد ذلك أن رآني وأدرك أن أي تبديل لم يصبني باستثناء أنني نحلت بعض الشيء، وعدنا معا.
بعد ذلك بفترة أنشأنا مؤسستنا الأدبية التي أطلقنا عليها اسم «دكاننا». وراح بوريس يترجم القصائد من دون أن يكملها، فأكملها أنا لكي أترك له من الوقت ما يكفي لإنهاء تلك الرواية التي كان يكتبها ولم يكن يريد أن يعلم أحد، مسبقا، بموضوعها. وهكذا بدأت أنا، أكسب من المال ما يكفي لعيشنا. والمدهش أنه، هو الذي اعتبره الناس جميعا فنانا عبقريا، كان يعاملني، أنا المترجمة الناشئة، معاملة الند للند. وفي هذا الإطار لاأزال أحتفظ إلى اليوم بكلمة صغيرة منه كان ينبغي أن تضاف إلى نصٍّ ما عدت أذكره الآن: «عزيزتي اوليا. إن هذا الوهن موجود في النص الأصلي، ولست أدري بأي معجزة قد بقي ولم ينه النص بسببه، وهذا ما كان يحدث لماياكوفسكي، ولي أنا أيضا، خلال شبابنا، إذ كان إلهامنا ينزلق تحت قناع اللغة، مثل طائرات من ورق تقع على أشجار الغابة (...) إن هذا يبدو في الترجمة قليل الذوق ضعيفا... لذلك أستميحك عذرا في أن أضع كل هذه العيوب والانحرافات بين يديك الساحرتين وتحت حماية اسمك المضيء...».
حسّ متمرد
وهنا لابد أن أشير إلى أن حدة باسترناك وحسه المتمرد، سببا له هجومات كثيرة حتى من قبل ظهور «دكتور جيفاغو» بزمن. بل إنه في كل مرة أصدر فيها ترجمة لعمل من أعمال شكسبير، كانت الهجومات تشتد من حوله. وكان هذا يغيظه. وفي الوقت نفسه كان يفرحه أن ينصفه الأذكياء. وفي هذا الإطار أذكر أنه حدث مرة أن أوصل إليه عدد من صحيفة «الحليف البريطاني» وفيها عنوان رئيسي يقول: «باسترناك يحافظ على صمته بكل شجاعة». وتلا ذلك العنوان مقالات كثيرة تؤكد أن شكسبير كان من شأنه أن يكتب النص نفسه لو أنه كتب بالروسية، وان اسم باسترناك يُبجَّل في انجلترا، إذ كان أبوه قد أمضى آخر سنوات حياته. وأضافت الصحيفة: «إنه لمن المحزن أن تكون تلك الترجمات هي كل ما ينشر من أعمال هذا الكاتب الكبير الذي يبدو الآن وكأنه لا يكتب إلا لنفسه ولعدد محدود من أصدقائه المقربين». وأذكر هنا أن باسترناك علق على ما جاء في عنوان الصحيفة قائلا: «من أين أتوا بفكرة أنني أحافظ على الصمت بكل شجاعة. أنا صامت لأنهم لا ينشرون لي أي عمل... وهذا كل شيء».
لينيني ولكن
طبعا لست في حاجة إلى أن أذكّر هنا بأن بوريس كان في ذلك الوقت منكبا على كتابة «دكتور جيفاغو» التي كان بدأ كتابتها قبل موت ستالين وأنجزها في العام 1955. من الناحية الشكلية كان على هذه الرواية أن تُستقبل بوصفها تشكل عودة إلى تقاليد الرواية الروسية الاجتماعية والتاريخية. كان عليها أن تستقبل كذلك وخصوصا أنها أنجزت في فترة نزع الستالينية بعدما ظهر خرتشوف وبدأت فترة نزع الجليد. ولكن هل حقا كان في إمكان موســكو ذلك العهد أن تقــبل بما تتضــمنه الروايــة من شــهادة شــــخصية حــادة على ثورة 1917؟
الحقيقة أن تلك الثورة كانت هاجس بوريس... وكتب عنها معظم ما كتب من «العام 1905» كممهد للثورة إلى «مرض رفيع المستوى» إلى «اختي الثورة»... وفي كل تلك الأعمال كان بوريس، على رغم انتمائه إلى التقاليد الليبرالية التي كانت من سمات الانتلجنسيا الروسية في ذلك الحين، كان أعلن قبوله بالثورة البلشفية، بل مجّد لينين في الصفحات الأخيرة من «مرض رفيع المستوى» ندر أن تمكن أحد من بلوغ مستواه، غير أنه في الوقت نفسه كان لا يكف عن التعبير عن تردده إزاء الأيديولوجيا والممارسات الشيوعية. وهكذا، حتى من قبل «دكتور جيفاغو» بزمن كان باسترناك قد أضحى كاتبا إشكاليا، وشاعرا محيرا. ولعل «دكتور جيفاغو» نفسها تعبّر عن تلك الحيرة لأنها بالتحديد تصف شخصية بوريس وموقفه من الثورة. ومن هنا، حين أنجز كتابة الرواية وبعث بها لكي تنشر في مجلة «نوفي مير» ورفضت، لم تكن دهشته كبيرة، بل قال لي: «لقد سقط النظام الجديد في الامتحان». وطبعا لم تنشر الرواية أبدا في روسيا في ذلك الحين. نشرت في إيطاليا، أول الأمر، في العام 1957، ثم لحقتها ترجمات إلى شتى لغات العالم. وفي العام التالي كان فوز باسترناك بجائزة نوبل للآداب. تلك الجائزة التي رفضها تحت ضغط سلطات بلاده، ليموت بعد ذلك بعامين.
في العام 1958، وبعدما أعلن فوز بوريس بجائزة نوبل للآداب، مازحه أحدهم قائلا له إن عليه أن يشكر ربه لأن الحقبة الستالينية قد زالت. فلو كان ستالين لايزال على قيد الحياة، لما كان من شأن بوريس أن ينجو بجلده وتقع الرواية وحدها ضحية للقمع. واللافت أن بوريس حين قيل له هذا قال بجدية صارمة: «ربما كان العكس حصل». والواقع أنه كان من الصعب في ذلك الحين تصور كيف كان يمكن رد فعل ستالين على الرواية أن يكون. ذلك أن في وسعنا اليوم أن نؤكد أن ذلك الزعيم الذي كان «باسترناك يحيّره ويربكه» (بحسب تعبير واحد من المقربين إليه كان يقول إن ما من كاتب أقلق ستالين قدر ما أقلقه باسترناك، لأنه كان معجبا بشعره وأدبه، غاضبا على مواقفه)، ذلك الزعيم كان يحاول في بعض الأحيان أن يفهم الكاتب ودوافعه. ومن المؤكد أن هذا كان العنصر الوحيد الذي أتاح لباسترناك أن يبقى على قيد الحياة خلال زمن التصفيات والإبادة الجماعية التي طالت النخبة المثقفة
العدد 36 - الجمعة 11 أكتوبر 2002م الموافق 04 شعبان 1423هـ