العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ

مثقف الهوية المركبة ذات مفارقة للحس المشترك

الكل ينادي بهوية مغلقة وانتماء واحد، الكل يختزل الهوية في اتجاه واحد ويقمع كل موجهات الذات في جنس أولون أواثنية مفردة تحت شعار القومية أو الوطنية. ولكن الواقع يقول ان خطاب الهوية يتلاشى أمام صعود الإنسانية وينتفي في معادلة الذات الحوارية إلا أننا على رغم ذلك مازلنا نقرأ خطابات مؤدلجة ومغلقة على نفسها تحمل في طياتها كل مؤججات النزعة القومية والقبلية، فلا يخلو خطاب المثقف العربي من صوت الفردية ولا يبرئ من الانحياز واللاحوارية فهو خطاب ملغم يتخفى وراء أقنعة مزيفة لا تعدو في أصولها سوى خطابات اثنية وعنصرية تدعي الانفتاح والقبول بالآخر في الوقت الذي هي فيه تصادر الآخر وتقمعه وتبيح لذاتها حق إبادته فقط لأنه قد يختلف عنها باللون أو الطائفة أو العرق ولذا بات من الصعب جدا تحقق ما يدعو إليه البعض من حوار ما بين الحضارات والثقافات أو نيل للحرية المزعومة. فالواقع الراهن يمثل سلسلة من سياسات الاضطهاد والنبذ والإبادة، هذه السياسة التي لا تجر وراءها سوى مزيد من الحروب والجرائم البشرية ومزيد من القتل والهمجية البربرية التي تقتل الحس الإنساني فينا. ولكن السؤال هو ما موقع المثقف العربي من الخطاب الراهن ؟وما مدى خلو خطابه من الأرثوذوكسية المغلقة؟وهل هناك مثقف خارج عن السرب؟أخيرا هل يملك مثقف أن يخرج عن الحس المشترك؟

كل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة التي تؤرقني وأنا أبحث عن ما هو مختلف ومغاير لم أجد لها جواب سوى الوقوف عند خطاب (مثقف ما بين الحضارات) الذي أراه نموذجا نستطيع من خلاله أن نبرهن على وجود خطاب مختلف في طابعه العام وسماته الخاصة من حيث الطرح والفكرة ولكن من هو مثقف ما بين الحضارات؟وماذا يمثل خطابه ؟هل هو ذات حاضرة أم غائبة؟ ما هي المؤهلات والسمات التي يصنف وفقها كمثقف ما بين الحضارات؟

بداية سأقف عند موضوع (أركون وحكاية الذات) للكاتب والناقد علي الديري في كتاب (الخروج عن الحس المشترك) هذا الكتاب الذي قدم لنا المفكر (محمد أركون) بطريقة مختلفة وجديدة حيث جاء ليكشف لنا هوية هذا المفكر الذي طالما شغلنا خطابه بفرادته وتميزه وأثار حماستنا لأسلوبه الجديد وجرأة و موضوعية قلمه، المفكر الذي يحضر خطابه محلقا خارج السرب ومقتحما مناطق بكرا لم يستطع الخطاب العربي أن يقتحمها بعد. فمشروع أركون عن (التطبيقات الإسلامية) يعد خطابا غير مسبوق لأن مسألة نقد العقل الإسلامي ووضعه على محك التفكيك مسألة لم تطرح بصدق وموضوعية حقيقيين ولم يجرؤ أحد بعد على نقد ذاته بتلك الصورة التي قدمها أركون في مشروعه ولكن ما الذي يجعل من أركون مفكرا خارجا عن الحس المشترك؟ وما الذي يميز أركون ليكون ذاتا مفارقة لذات الجماعة ومتأشكلة مع ذاتها؟ ذات ترفض الانصياع لسلطة الانتماءات المغلقة والهويات القاتلة على حد تعبير (أمين معلوف) إنها فلسفة جديدة لخطاب مثقف مابين الحضارات الذي أراه أنا مختلفا عن غيره، مثقف (الهوية المركبة) التي هي من أنتج هذا الخطاب المغاير والجديد، إنها ذات أركون التي نتجت من تركيبة هويته الفريدة التي تعيد تشكيل ذاتها مع كل تجربة تخوضها وتتعرض لإرهاصاتها، فالهوية كما يرى (أمين معلوف) لا تأتي مرة واحدة وإنما تتحول وتتبدل وتتغير وتعيد تشكلها على طول الوجود وهذا ما يميز خطاب أركون وخروجه عن الحس المشترك بأنه يحدث قطيعة معرفية مع تلك الأطر الاجتماعية التي شكلت معرفته في وقت سابق باستبدالها بأطر اجتماعية جديدة تتناسب مع المعرفة التي يتبناها أي أنه يتأشكل مع ذاته ويفارق ذات الجماعة ليستطيع أن يقيم معها مسافة تسمح له برؤيتها بعين ناقدة ترصد وتترقب بموضوعية وحساسية الناقد الواعي الذي يتجرد من اطره التي هي كما يرى (علي الديري) ليست فقط حدا نقف عنده بل (الأطر بوظيفتها المرجعية التي تتيح للفرد إمكان تأويل الحوادث والوقائع الخارجية، تمثل أنساقنا الذهنية، وتمثلاتنا الرمزية التي نقيم عبرها إنشاءاتنا الاجتماعية في إطار إيديولوجيا ما) وبالتالي وبالنظر الى مكونات تلك الأطر التي مثلت ذات (محمد أركون) كونه لا ينتمي إلى هوية أوحدية وإنما هوية مركبة فإننا نستطيع أن نحسب مدى الفجوة ما بين خطاب أركون الذي يمثل مثقف ما بين الحضارات وخطاب المثقف العربي المحصور في محليته ولا عالميته؛ إنها فجوة لا يمكن قياسها فكلا الطرفين يعي إشكالات ذاته وثقافته ولكن كل منهم ينظر لتلك الإشكالات من طابع وزاوية مختلفة الأول من منظور لا أوحادي والآخر من منظور مغلق ومؤدلج وبالتالي برؤية مفعمة بالايديولوجيا والنرجسية.

وتأكيدا لما أريد قوله عن اختلاف ومغايرة خطاب مثقف ما بين الحضارات في طرحه أقدم نموذج آخر لمثقف ما بين الحضارات انه المفكر (إدوارد سعيد) الذي هو ذات هوية فريدة قطعا لا تستبدل فخطاب (إدوارد سعيد) خطاب فريد من نوعه لا يلتقي مع خطاب المثقف العربي السطحي والضيق الأفق أبدا حيث ان إدوارد سعيد وفي كتابه (الاستشراق) برهن على أن هناك خطابا جديدا حقا في طرحه وفي نقده وقراءته، خطاب لا يعيد اجترار وحشد ما هو مؤدلج ومتعصب على قدر ما يعيد قراءة الذات والآخر برؤية غير منحازة وهادفة لا تسعى للنفي أو الإقصاء بل إلى إستحضار الصوت الآخر ومحاورته مع صوت الذات لينتج من حواريته رؤية مختلفة وفكرا واعيا في تعاطيه وتقاطعه مع الخطاب العربي والغربي المطروح ولذلك أثار كتابه كل تلك الاحتجاجات والنقد لان ذهنية المثقف التقليدي بعد لم تستوعب أن تقرأ خطابا بتلك الصورة، خطاب يضع كل مكونات الذات ومعطيات الآخر على مشرحة التفكيك والهدم.

إذا خطاب أركون، إدوارد سعيد، علي حرب، أمين معلوف وغيرهم ممن يمثلون هوية مثقف ما بين الحضارات يحتاج منا إلى إعادة صوغ وقراءة طبيعة وآلية واستراتيجية تشكل هذا الخطاب لأنه بات يشغل حيزا في الساحة الثقافية العالمية والمحلية ويفصح عن خطاب - كما ذكرنا بداية - مختلف ومغاير، خطاب يستدعي قراءته وتفكيكه للوقوف عند ما يحمله في بنائه من اسلوب وطريقة جديدين في تداول الأفكار وبما يميز كاتبه من طابع فكري واتجاه نقدي مختلف.

أخيرا

نريد الوصول بهذا المقال الى أن هناك خطابا لمثقف جديد يطرح نفسه نظرا لاختلافه عن الخطاب السائد ويستدعي منا الوقوف عنده، إنه (خطاب ما بين الحضارات) الذي يمثل - كما أرى - أحد الأبواب التي منها سندخل الى أرضية حوارية حقيقية ستشكل في المرحلة المقبلة اللبنة الأولى والأساسية في الحوار الحضاري والثقافي العالمي، وستسد الثغرة والهوة الناتجة عن غياب آلية للحوار العالمي في ظل عصر العولمة الذي بات فيه العالم على حد تعبير (علي حرب) قرية كونية تتطلب إيجاد لغة جديدة للتحاور والتفاعل الإنساني

العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً