العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ

عدم التناقض وسحر المثنى..

اتصور أنا الإنسان نفسي ملتصقة بالمادة، تصورا لا انفكاك فيه بينهما، ولا خروج عن خليطه المناسب. وفي رحلتي، انا الانسان نفسي لا اشعر بهذه الوحدة، المنتقاة على قياس الجوهر، الذي يجمع المادة إلى صورتها، بقدر ما يكون مأخوذا برغبة السفر المزدوج، وعليه قالت الفلاسفة إن الروح والمادة متلاقيان، مفترقان، فيما قالت العلماء، إنهما يبحثان معا في يوم يوعدون، ولا يغني احدهما عن الآخر، بل كل منهما يلاقي في آخر المطاف، وعند قيام الميزان، ما صنعت يداه.

ولكن لماذا نحسب هذا العمر من الالتقاء، اصلا نقيس عليه ما يترتب في زمان الافتراق؟

اتصور أنا الإنسان نفسي هكذا، في عالمين متمايزين، وأنظر إليهما دائما، كأنهما في عالم واحد، ولا شيء سواه حتى استبين في يقظة النائم الخيط الابيض من الخيط الأسود، تلك اللحظة من الزمان التي تفصل الروح عن الجسد، كما تفعل بين الليل والنهار...

هل يمكن النظر إلى الروح والجسد كنقيضين؟ واذا كانا، كذلك فكيف إذن يلتقي النقيضان؟

كان الفلاسفة القدماء والمحدثون قد ذهبوا إلى أن قانون عدم التقاء النقيضين هو القاعدة الذهبية التي يعود إليها قياس المناهج، حتى أن فيلسوفا مثل سبينوزا الذي اقر بأهمية المنهج، وحذر من البحث دائما عن المنهج المناسب، لعدم الوقوع في التسلسل الباطل، كان يعتبر أن قاعدة عدم التقاء النقيضين تصلح كمركز تنطلق بالاستناد إليه القواعد الفلسفية والمنطقية التي يعود إليها معرفة الخطأ من الصواب، والوصول إلى الحقيقة في العلوم. هكذا جدد الفلاسفة في العصر الحديث، أهمية أصل عدم التناقض، مؤيدين في ذلك ما كان القدماء قد اعتمدوا عليه. وعلى رغم ذلك فإن بعض فلاسفة الاسلام من الذين احترموا هذه القاعدة، واتخذوها اصلا منهجيا من اصولهم، ذهبوا إلى وجود انواع من الثنائيات المتقابلة، والتي تساعد على فهم النصوص، وكذلك في الوصول إلى الحقيقة من خلال دراسة تقابل هذه الثنائيات من دون الوقوع في مشكلات ضرورة عدم التناقض، أو لقاء النقيضين، لان هذه الثنائيات ليست في حقيقتها متناقضة، بل هي اشكال ثنائية لا يمكن فهم الواحد منها من دون الآخر، ولا يمكن فهم العلاقة بينهما من دون النظر إليهما معا اي من خلال الزوجية أو المثنى، والذي يشكل هذه الثنائيات أو الزوجين. إنهما لعبة المثنى الساحرة، التي نجدها في الثنائيات وفي طريقة استخدامها عند بعض الفلاسفة المسلمين أو اعتبارها من قواعد الطريقة وفق التعبير الديكارتي. ويتحدث نيتشه في كيمياء الافكار والمشاعر عن أن «المشكلات الفلسفية اليوم وعلى جميع الاصعدة، تتخذ الصيغة الاستفهامية ذاتها التي كانت منذ الفي عام. كيف يمكن للشيء ان يولد من نقيضه؟ مثلا العقل من اللا عقلاني، الاحساس من الجماد، المنطق من اللامنطقية، التأمل المترفع النزيه من الادارة المتعطشة لفائدة ما، إيثار الغير من الانانية، الحقيقة من الاخطاء. كانت الفلسفة الميتافيزيقية، وحتى الآن، تتلافى هذه الصعوبات منكرة ان الشيء يقدر على توليد الآخر ومقتنعة، فيما يخص الاشياء التي تعتبرها ارفع وأسمى، بوجود أصل خارق ينتجه مباشرة جوهر «الشيء بذاته» والحيوي في ذلك الشيء».

إن نقد نيتشه للميتافيزيقا التقليدية معرجة بشكل أساسي على اعتمادها على مبدأ عدم التناقض، لكنه لم يدرك أن الوحدة الحقيقية إنما تستفاد من ارتباط الاشياء الكثيرة، على اختلاف عناصرها بهذه الوحدة. وهذه المسألة المستفادة في الاسلام من فكرة التوحيد التي لا تنكر الكثرة، ولكنها تقبل الكثرة باعتبارها صادرة عن الوحدة من دون تكثّر فيها وعائدة إليها من دون حلول فيها، وضمن هذا المنهج ينظر إلى الثنائيات باعتبارها قابلة للاتحاد.

وكان جوته قد استفاد نظرية الأنساب، من اطلاعه على الآداب الاسلامية والفلسفة الاسلامية بقوله: «اجل، من غير شك، بل إن اشد الاحوال إثارة للدهشة والتشويق هي تلك التي يمكن ان يظهر فيها التجاذب والنسب وهذا الترك والاتحاد بحسبانهما متقاطعين، هي التي فيها اربع مواد، كانت متحدة حتى الآن مثنى، مثنى، فلما صارت على اتصال تخلت عن اتحادها الأول، وكونت اتحادا جديدا، وفي هذا الترك والاخذ، في هذا الفرار والنشدان، يخيل للمرء حقا ان ثمة مصيرا اعلى...

كانت الفلسفة القديمة تناقش مشكلات فلسفية عويصة اشتهرت بفكرة صدور الواحد عن الواحد، وكانت هذه الفكرة في اساس ما أثير من تساؤلات عن مسألة الخلق، وكيفية صدور العالم عن الله، إذ كيف يمكن تفسير صدور الكثرة عن الوحدة، وأدت هذه المشكلات الفلسفية إلى فكرة الفيض عند افلوطين، واخذ الفلاسفة المسلمون هذه النظرية، لتفسير صدور العالم بالفيض، لكن التكثر وفق هذه النظرية، لا يبدأ إلا مع العقل الاول، لان هذا العقل في الواقع ثنائي الطبيعة، وذلك من حيث تعشقه للحق ومن حيث تعشقه لنفسه. استطاعت نظرية الفيض هذه حل المشكلات التي بقيت مستعصية على فيلسوف شهير مثل القديس توما الاكويني الذي على رغم إعجابه الشديد بأرسطو، لكن ارسطو لم يستطع أن يقدم له حلا لمشكلة خلق العالم.

على كل حال، لماذا وأنا ابحث عن الآخر، كأنني ابحث عن نفسي، هل الآخر صورة نفسي المفارقة، التي هبطت إلى ما ادعوه كياني الخاص؟

لتكون له المثنى أو الانثى، هذا الجناس الجميل في اللقاء الجميل. وهل يكون ثمة سلب أو توسط بينهما، ولا سلب في معرفة الحبيب، ولا توسط في السعي إليه بل جمع ماهوي. ولذلك ذهب العرفاء إلى اعتبار الوضوح في الماهية والتميز في الهوية. كيف إذن ماهيتي تبحث عن هويتي هكذا بلا سلب أو توسط بل لخصوصية وجدت فيها بحيث ينزع النقص إلى الكمال؟وفي هذا النزوع ما يجعل من الثنائيات ماهيات متحدة في هويتها ووضوحا متحققا في تميزه وتمايزه. إنه التركيب الذي يتولد من جمعه خلق جديد وقد اوكل الحق المتعالي المنزه عن كل تركيب إلى اسمائه وصفاته ان تظهر في تجليات المظاهر المتعددة في الكثرات من حولنا. إن مظاهر الخلق تجلٍّ لاسماء الحق. وهذه التجليات تجمع العلم والعشق والوجود في سحر هذا المثنى، فلا تناقض ولا اختلاف بل وحدة منزهة، منها تفيض الاشياء في هذا العالم على صورة الحق المخلوق به، الذي تتوجه إلى وحدته الكثرات. ثنائيات ومتناقضات، لانه القدرة والارادة والمشيئة التي كان لها ان تجعلنا في الزمان كثرات، متجاذبة ومتباعدة، صورا متجددة للخلق بالحق...

موسيقى شجرية

عندي،

في مرمى نظر

أقرب من حبك وريدي

موسيقى شجرية

أسمعها وأنا أبصر

أنظرها وأنا أسمع

لكن،

حتى أفصح عن وجدي

يلزمني ما يلزم هذي الأغصان

تتكسر قصبات الناي

على شفتي

وتصدح في قلبي الألحان

العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً