العدد 46 - الإثنين 21 أكتوبر 2002م الموافق 14 شعبان 1423هـ

بين البحرين وفلوريدا: مقارنة صعبة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من الصعب مقارنة الانتخابات البرلمانية التي تعقد في البحرين بغيرها من الدول. فكل بلد له خصوصيته التي تملي شروطها على الديمقراطية وتعيد انتاجها وفق تعقيدات الواقع. وعلى رغم محاولات التوافق كلها بين صورة الانتخابات وواقع المجتمع تبقى هناك فروقات بين الطرفين. فالصورة مهما بالغت في دقة نقلها للتركيب الخاص تبقى قاصرة عن التقاط تفاصيل الواقع كلها.

دائما هناك فارق بين الصورة والواقع. والواقع دائما أكثر تعقيدا لذلك لجأ رجال القانون إلى نظام التوافق لتجاوز تفاصيل تعقيدات الواقع.

فالتوافق على الشيء مسألة دستورية وهي أقوى في دلالاتها السياسية من الديمقراطية. فالديمقراطية هي الشاهد بينما الدستور هو النظام القانوني الذي يحتوي حاجات المجتمع كلها ويعبّر عن تطوره في لحظة زمنية. وحين تتغير يتغير معها وبالتالي تعيد رسم القانون الدستوري من جديد ليتوافق مجددا مع حاجات المجتمع ودرجة تقدمه.

المسألة الدستورية إذا لا يمكن تبسيطها في بضع مواد. والمواد الدستورية لا يمكنها، مهما تفرعت، أن تجاوب على التفاصيل كلها. لذلك لجأ المشترعون إلى التأويل والشروح والتفسير لاستخراج البنود الفرعية من الأصل الدستوري. وينطبق هذا الأمر على كل الدول الدستورية منها التي تقول بالديمقراطية أو ترفضها، أو تقبل بالانتخابات أو تتجاوزها. فالدستور في النهاية هو المحك وهو الذي يحمي العملية الديمقراطية ويحافظ عليها في حال تعادلت مراكز القوى وتوازنت النسب بين أكثريتين أو أقليتين. وما حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة هو المثال الأبرز في كيفية حسم ميزان القوى حين تتعادل القوى وتتلاشى نسب التوازنات إلى درجة الصفر. فحين تعادلت أصوات المرشح الجمهوري جورج بوش مع منافسه الديمقراطي آل غور في ولاية فلوريدا تدخلت الدولة دستوريا محيلة عملية فرز الأصوات إلى المحكمة الدستورية. فالدستور هو الأقوى في هذا المعنى والأصوات - أي الانتخابات الديمقراطية - هي المتحرك الذي يصعد ويهبط دوريا، وتختلف المعادلات والنسب بين دورة وأخرى. وحين حسمت المحكمة الدستورية الخلاف لمصلحة المرشح الجمهوري وافق الديمقراطي على النتيجة.

وعلى رغم أن آل غور حصل على مجموع أصوات تزيد على المليون أكثر من منافسه بوش في الولايات الأميركية كلها، وافق على قرار المحكمة الذي مال إلى جانب بوش وأعطاه أكثرية لا تتجاوز المئة صوت في ولاية واحدة. فالنظام الانتخابي الأميركي يقوم على الولايات (كل ولاية على حدة) ويعتمد نظام المقاعد في كل ولاية والفائز من يحصل أكثر في مجموع مقاعد الولايات وليس أكثرية الأصوات. وبما أن عدد المقاعد يختلف نسبيا ولا يتناسب بالضرورة مع الحجم السكاني فان الأصوات لا تؤخذ على المستوى القومي بل تحتسب محليا فقط.

فهناك ولايات كثيفة سكانيا وعدد مقاعدها يعادل أو لا يزيد كثيرا عن ولايات أقل كثافة سكانية. هكذا، ولأسباب دستورية، فاز برئاسة الولايات المتحدة المرشح الذي نال الأقل في مجموع الأصوات والأكثر في مجموع الولايات.

المشترعون اعتبروا النتيجة صحيحة دستوريا وخاطئة ديمقراطيا. فالمنطق يقول ان الغالبية تحكم لا الأقلية لكن الدستور يؤكد أيضا على غالبية أخرى هي الولايات. المشكلة التي وقعت في فلوريدا تؤكد مسألة جوهرية وهي أن الديمقراطية (ونظام الانتخابات) مهما بلغت من التطور والتقدم لا تصل إلى الكمال، فدائما هناك ثغرات وسلبيات ونواقص لكنها كلها لا تلغي التوافق على الدستور المشترك الذي يحمي الدولة ومصالحها ويصون الديمقراطية، عندما ينزلق المجتمع إلى منحدرات خطيرة لا يكفي نظام الأكثرية والأقلية في حمايته وضبطه وإعادته إلى وضعه الطبيعي.

هذا حدث في الولايات المتحدة فكيف لا يتكرر في مناطق أخرى أقل خبرة وأحدث تجربة في خوض الانتخابات وفهم المعايير الدستورية للمسألة الديمقراطية؟

طبعا ليس دقيقا المقارنة بين تجربة البحرين وما حصل في أميركا. فالمقارنة بعيدة جدا تاريخيا وجغرافيا إلا أنها على رغم افتراقها يمكن الاستفادة من جوهرها وهو: هناك استحالة انسانية في انتاج صورة دقيقة مطابقة للواقع. فدائما الواقع أقوى وأكثر تعقيدا في تفصيلاته. ومهما حاول المشترعون إعادة انتاج الصورة لتتوافق مع الواقع ستبقى هناك ثغرات تفصل بين المستويين.

والحل هو في التوافق على الدستور لأنه الأثبت والأقدر على ضبط اللعبة الانتخابية في سياقات متوازنة تصون المصالح وتضبط التقدم من دون غلبة. فالدستور هو ميزان العدالة حتى حين تسقط الديمقراطية في فخ التعادل... كما حصل في فلوريدا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 46 - الإثنين 21 أكتوبر 2002م الموافق 14 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً