العدد 5320 - الجمعة 31 مارس 2017م الموافق 03 رجب 1438هـ

عبدالحليم حافظ وثورة يوليو المصرية

رضي السماك

كاتب بحريني

مرت قبل يومين وتحديداً في 30 مارس/ آذار الماضي الذكرى الأربعون على رحيل الفنان المصري الكبير عبدالحليم حافظ الذي تُوفي العام 1977، وكان أشهر الفنانين المصريين الذين غنوا لثورة يوليو الوطنية المصرية وقائدها جمال عبدالناصر، كما غنوا للقضية الفلسطينية والوحدة العربية وقضايا التحرر الوطني العربية عامةً، وبين أغاني معاصريه من عمالقة الفن المصري الذين غنوا للثورة وتلك القضايا، تُعد أغاني حليم هي الأكثر انتشاراً وشعبيةً خلال فترة المد القومي العارم، ولعبت دوراً كبيراً حماسياً مؤثراً في إلهام ملايين الشباب العرب من المحيط إلى الخليج، واجتذابهم نحو الثورة وزعيمها والتحشيد القومي حولهما، حتى لُقّب بـ «مطرب الثورة»، واستحق هذا اللقب بجدارة ليس بفضل صوته الشجي وأدائه الباهر فحسب، بل ولأن «مشواره الفني» قُيّض له أن يُدشّن تاريخياً، وهو لم يزل شاباً يافعاً صغيراً مع انطلاقة ثورة يوليو مطلع خمسينات القرن الماضي، وليحظى بذلك بصعود صاروخي فني في أغانيه العاطفية والوطنية على السواء، ترافق مع صعود نجم الزعامة الناصرية مصرياً وعربياً؛ بل وليأفل نجمه أيضاً بعد سنوات قليلة من أفول تلك الزعامة برحيلها العام 1970 غداة نكسة 1967، حيث رحل حليم عن دُنيانا في العام 1977 عن عمر ناهز الـ48 عاماً؛ جراء مضاعفات مرض البلهارسيا، علماً ان عبدالناصر هو الآخر توفي عن عمر مبكر ناهز الـ52 عاماً؛ لمضاعفات مرض السكر الذي اشتد عليه بعد الهزيمة.

ويكفي للتدليل على ما كان يحظى به حليم من شعبية كاسحة بين الشباب عامةً، والفتيات المراهقات بخاصة، أن عدداً منهن المُعجبات الهائمات بغنائه العاطفي إلى درجة الجنون قد انتحرن فور سماعهن نبأ رحيله، وتم توثيق مشاهد انتحار بعضهن في اليوتيوب، وهو ما لم يحدث قبلاً عند وفاة فنانين عملاقين كفريد الاطرش واُم كلثوم.

في العدد الأخير من مجلة الهلال الشهرية المصرية، مارس/ آذار2017، يكشف لنا الكاتب المصري حسن يوسف طه نصاً جميلاً لواحد من أبرز روّاد القصة العربية الذين عاصرهم عبدالحليم، ألا هو يوسف إدريس تحت عنوان «غنّ يا عبد الحليم»، ويصف طه عن حق بأن هذا الفنان كانت لديه القدرة أن يخترق المتلقي بلا أدنى ممانعة، وكان يجد طريقه مُمهداً في وجدان متلقيه ومستمعيه، وكانت لديه القدرة أن يغسل وجدانهم ويحرك عقولهم وقلوبهم. ثم ينقل الكاتب عن إدريس في نص مناجاته لحليم قائلاً «غن أيها الناحل الأسمر في بدلتك البيضاء الجميلة زنبقة من قلب طيننا البُني، أعرف كم تُعاني وتقاسي وكم قاسيت لتشرخ التربة، وفي عناد تشق الطريق وتصمد وتتبوأ مكان النغمة جميلة العذاب في قلوب الملايين والملايين. غن يابلدياتي، يابن القنايات الذي استولى على القاهرة بلا جيش أو انقلاب. وحكم العواصم العربية بلا حسب أو مخابرات، بأغنية الحُب يقولها لقلوب وألسنة رغم كثرة كلامها عن الحُب لا تُحب». على أن مناجاة إدريس لحليم الرائعة غير الخافي على اللبيب السياسي دلالاتها لم تكن إلا من جنس السخرية المُبكية لخيبات الحُلم العربي الذي غنى له حليم ترنيمة الثورة الجميلة، لتستفيق الملايين من حُلمها اللذيذ على وقع هزيمة يونيو/ حزيران من العام 1967 المُدوية.

ولذا فإن إدريس في مناجاته إنما أراد أن يُفرّق بين متعة غناء حليم ذات الصخب «الثوري» التنويمية الحالمة للجماهير التي بدا وكأنه «يغبطها» عليها، وبين متعته المؤقتة المؤلمة لأنها متعة مفتوحة الأعين، مفتوحة الذاكرة، مفتوحة الوعي، ولأنه يعرف، كما يقول في نصه البديع: «ان الدماء تسيل من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب في وطننا العربي ولكن، غن يا عبدالحليم، غن... فلربع قرن من الزمان أيها الناس ونحن بلا يوم راحة، نحيا في جهنم الحرب وجهنم الثورة وجهنم الانقلاب، وجهنم الحُكم العُرفي، وجهنم البيان رقم واحد ورقم مليون، نجوع ونموت، نمرضُ ونموت، نثور ونموت، ننتكس ونموت، ننتصر ونموت، نموت ونموت». ولما كان النص يشير إلى ربع قرن من الثورة والحروب التي خاضتها، فالأرجح أن إدريس كتبه غداة رحيل حليم العام 1977 وهو العام الذي صادف مرور ربع قرن عليها.

والحال أن واحداً من أهم أسباب الشعبية الكبيرة التي مكّنت عبدالناصر من اكتسابها في العالم العربي بسهولة، ولم يستطع أي زعيم عربي آخر مضاهاته فيها، امتلاكه ما يمكن ان نطلق عليه بلغة عصرنا «القوة الناعمة» والمتمثلة في كتيبة متميزة من كبار الفنانين، إلى جانب عبدالحليم حافظ، كأم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وشادية، وفريد الأطرش، وفايدة كامل، ونجاة الصغيرة، ومها صبري، وفايزة أحمد، وشريفة فاضل، وغيرهم... وهذه الكتيبة، النُخبة الممتازة، جنّدها ناصر للغناء بأبدع الألحان، وأرقى الكلمات الحماسية لثورة يوليو ولزعامته، وبخاصة إذا ما علمنا في الوقت نفسه بأن أغانيهم العاطفية تلقى رواجاً منقطع النظير على امتداد العالم العربي، لكن يظل عبدالحليم حافظ بينهم هو المتفرد في الأداء والصوت الرخيم في تأدية الأغاني الوطنية تحديداً، والتي كتب كلماتها شعراء كُبار أمثال صلاح جاهين، ومرسي عزيز، وعبدالرحمن الأبنودي، وحسين السيد، ومحسن الخيّاط وعبدالرحيم منصور، وغيرهم ممن لا تحضرنا الآن أسماؤهم ولحنها ملحنون عظام أمثال: محمد عبدالوهاب، ومحمد الموجي، ورياض السنباطي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي وغيرهم... وهكذا كان لتلك الأغاني وقع أكثر تأثيرا في وجدان الشباب العربي، وإيقاد جذوة حماسته الوطنية والقومية على امتداد الوطن العربي.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5320 - الجمعة 31 مارس 2017م الموافق 03 رجب 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:17 ص

      حليم .. زمن الحب الجميل يكفي ان تنقضي كل هذه السنوات الطوال ولا زال متربعا على عرش الاغنية العربية بلا منازع

اقرأ ايضاً