من المعروف أن علم الاجتماع (السوسيولوجيا) من العلوم الحديثة نسبيا. لكنه مع ذلك قطع شوطا في التوسع أفقيا وعموديا. فلم يعد هذا العلم مقتصرا على الظواهر الاجتماعية كالأسرة والفقر والجريمة والجماعات، والعلاقات الاجتماعية فيما بين الطبقات والفئات، ولم يعد مجاله منحصرا في دراسة دور الأفراد ومراكزهم التي يشغلونها في الأسرة والجماعة والمجتمع. إنما بات هذا العلم يشتغل في مساحة كبيرة من القضايا والإشكاليات والظواهر الداخلة في سياق الثقافة بالمعنى الانثروبولوجي وبالمعنى الخاص المرتبط بالإبداعات الفردية.
وعلى هذا الأساس أصبح هذا العلم ومنذ فترة ليست قصيرة يدرس معظم ـ إذا لم يكن كل ـ الظواهر الثقافية سواء تلك الظواهر المرتبطة بالثقافة الشعبية أو الثقافة الخاصة النخبوية القائمة على الإبداع الفردي والاستهلاك الفردي كذلك، كالشعر والرواية والمسرحية والقصة القصيرة.
وفي هذا الصدد يمكن الحديث عن علم اجتماع الأدب وعلم اجتماع الرواية بوجه خاص وعلم اجتماع الشعر وسوسيولوجيا المسرح، أزيد من ذلك أصبح لدينا علم اجتماع التحديث، وعلم اجتماع الحداثة وما بعد الحداثة، لا بل أصبح عندنا فرع من فروع علم الاجتماع هو علم اجتماع المعرفة وآخر هو علم اجتماع الثقافة. وهذا الأخير من شأنه أن يدرس وبطريقة منهجية كل الإبداعات والنتاجات الثقافية التي يبدعها المجتمع، قديما وحديثا، في نصاب الثقافة الشعبية بمختلف تجلياتها وإبداعاتها، وكذلك على مستوى الثقافة العالمية (النخبوية) بتعدد جوانبها وإنجازاتها وأيضا القديمة منها والحديثة سواء بسواء.
لكن علم الاجتماع عموما ـ على الصعيد المحلي ـ وعلى رغم الأعداد الكبيرة من حاملي الشهادات العلمية الجامعية فيه ومنذ عقود، فإن هذا العلم لايزال وكأنه في الخطوات الأولى نحو تأكيد ذاته على صعيد الثقافة الوطنية، فهو لايزال حبيس مقررات المدارس ومقررات الجامعة وفي أحيان قليلة على صعيد الثقافة العمومية. وعلى ارتباط بذلك فإن تفرعات علم الاجتماع تكاد تكون معدومة وفي مقدمة ذلك علم اجتماع المعرفة وعلم اجتماع الثقافة، هذا فضلا عن سوسيولوجيا الأدب أو الرواية وحتى في المسرح إذا ما استثنينا الدراسة الرائدة والمتميزة لإبراهيم عبدالله غلوم، أقصد الدراسة الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت «سوسيولوجيا المسرح في الخليج العربي».
فهي دراسة رائدة وعلى رغم كون مؤلفها من دارسي اللغة العربية ونتاجاتها والمتابعين لها إبداعا ونقدا وتأصيلا، فإن هذه الدراسة القيّمة (المؤسِسة) تدخل في سياق سوسيولوجيا (علم اجتماع) المسرح ولكنها تكاد تكون يتيمة.
أما النتاجات الثقافية بألوانها وأجناسها وإذا جاز القول بتداخلاتها فإن بينها وبين علم الاجتماع عموما وعلم اجتماع المخصوص (علم اجتماع الثقافة، الأدب، الرواية، الحداثة، المسرح، القصة القصيرة، الفنون التشكيلية، الموسيقى... إلخ) شبه قطيعة. ذلك أن النتاجات الثقافية لم تدرس سوسيولوجيا بعدُ. بمعنى آخر أن كل تجليات الثقافة الخاصة قد درست من قبل النقد بهذا الشكل أو ذاك، لكنها لم تدرس من قبل علم اجتماع المخصوص ـ علم الاجتماع الثقافي، المعرفي، الأدبي مثلا.
وهذا ليس وقفا على الثقافة النخبوية محليا، بل يشمل الثقافة الشعبية. إذ من المعروف أن الثقافة الشعبية قد حظيت بدراسات ومقاربات بعضها ينتمي إلى الأدب والفولكلور ومن باب الجمع والتصنيف والتبويب، والبعض الآخر ينتمي إلى باب التدوين والحفظ والعرض كما هو واضح في مختلف الفنون والممارسات الفولكلورية الشعبية أو ما يعرف بالتراث الشعبي، لكنها لم تحظَ بعد بمقاربات سوسيولوجية متميزة.
إلى جانب كل ذلك الاهتمام، نجد أن سوسيولوجيا الثقافة الشعبية غائبة عن مسرح الثقافة الشعبية في حين أن علم الاجتماع الثقافي باعتباره أحد مجالات علم الاجتماع قد قطع شوطا في الكثير من البلدان دراسة وتنظيرا لمختلف الممارسات المرتبطة بالثقافة الشعبية وكذلك الثقافة الفردية (النتاجات الفردية كالشعر، القصة، الرواية... إلخ).
فعلى صعيد مصر نجد أن علم الاجتماع الثقافي قد شق له طريقا في ثقافة هذا البلد وبات هناك عدد لا بأس به من الدراسات القائمة على أسس منهجية علم الاجتماع الثقافي أو الأدبي، تتناول كلا من ثقافة العامة وثقافة الخاصة. كما تتناول الثقافة الشعبية في الماضي كما في الحاضر والشيء نفسه بالنسبة إلى ثقافة الخاصة مثل دراسة (سوسيولوجيا النقد العربي الحديث) لغالي شكري.
وفي تونس أيضا قطعت دراسات سوسيولوجيا الثقافة مرحلة من التقدم، كما هو في بعض الدراسات مثل سوسيولوجيا الغزل لدى الطاهر لبيب. والأمر نفسه قائم في لبنان إذ نجد دراسات داخلة في سوسيولوجيا الثقافة أو الأدب أو الرواية أو القصة القصيرة تارة وفي الثقافة الشعبية تارة أخرى كما هو واضح في الدراسة المرموقة (سوسيولوجيا الثقافة الشعبية) لخليل أحمد خليل، وهناك دراسات من هذا القبيل في العراق خصوصا في علم اجتماع الثقافة الشعبية.
هذا يعني أن علم الاجتماع وبمختلف فروعه وخصوصا تلك الفروع المرتبطة بمقاربات الإنجازات الثقافية في الماضي والحاضر في الوقت الذي أخذ على عاتقه بحث ودراسة شتى صنوف الممارسات الثقافية في الكثير من الدول العربية، نجد أنه لايزال يحبو على صعيدنا المحلي. فعلم الاجتماع بما هو أحد العلوم الوافدة أو الجديدة نسبيا على الساحة وربما لا يتجاوز عمره أربعة عقود على صعيد ثقافتنا التعليمية في المدارس والجامعات، وعلى رغم بروز عدد من الدراسات المتميزة في هذا العلم مثل معظم الدراسات التي قدمها باقر النجار أو الدراسات التي قدمتها جمعية الاجتماعيين أو بعض الدراسات التي قدمتها وزارة العمل، نقول على رغم ذلك، فإن دراسات وبحوث الإبداعات الثقافية الشعبية والفردية المحلية المرتبطة بأسس وأصول علم الاجتماع الثقافي أو المعرفي أو الأدبي أو أي نوع أو فرع من فروع السوسيولوجيا تكاد تكون غير قائمة، وفي وقت ما أحوجنا فيه إلى تأصيل مثل هذه الدراسات في التربة الثقافية المحلية.
كما أن الثقافة الشعبية والخاصة حينما تدرس من الناحية النقدية كفعالية وهذا أمر مطلوب بطبيعة الحال لأن الدراسة النقدية من شأنها أن تقدم خدمة لوجهي الثقافة في بلادنا.
ولكن إذا ظلت دراسة الثقافة البحرينية عند هذا المستوى (النقدي) فقط فإننا سنظل حبيسي نظرة احادية إلى هذه الثقافة، الأمر الذي يستدعي ضرورة أن يأخذ علم الاجتماع عموما وعلم اجتماع المخصوص ـ خصوصا ـ دوره ومكانه في مقاربة مختلف الإنجازات الثقافية، سواء على صعيد البنية الثقافية الأنثروبولوجية في الريف والمدينة بتنوعاتها، أو على صعيد البنية الثقافية المخصوصة القائمة على الإبداع الفردي المرتبط بالثقافة المنظمة منهجيا والمنبثقة من الإنجازات الفردية/ الذاتية.
إن الدعوة لتأصيل علم الاجتماع المخصوص في ثقافتنا الوطنية، هي ضرورة من أجل استكناه الجوانب الخفية والصريحة لهذه الثقافة، خصوصا أن علم اجتماع الثقافة ومن خلال التراكم المعرفي والمنهجي الذي أفرزه في الكثير من الدول الأوروبية وغير الأوروبية، هذا فضلا عن بعض الدول العربية، يمكنه أن يخدم قضيتنا على صعيد الثقافة البحرينية بمستوييها العالِم والشعبي.
وفي هذه الحال يمكن أن تتضافر الدراسات النقدية/ اللغوية من جهة مع الدراسات السوسيولوجية (علم اجتماع الثقافة/ المعرفة) من جهة أخرى لتسليط الأضواء على جوانب مهمة ومطموسة في هذه الثقافة، وربما لا يستطيع النقد بوضعه الراهن أن يبحثها بسبب طبيعته (النقد)، الذي يدرس جوانب ويترك جوانب في حين أن المقاربة السوسيولوجية ربما تكون هي الأجدى والأنفع في هذا السياق، بالنظر إلى سعة المنظور الذي تنطلق منه مجمل السوسيولوجيات بفروعها وأنواعها، من دون التقليل من أهمية الدراسات النقدية أو غيرها من الإنسانيات التي تناولت الإنجازات الثقافية على الصعيدين الشعبي والنخبوي، وخصوصا أننا يمكن أن نجد بواكير للدراسات السوسيولوجية في بعض الدراسات النقدية، إذ يمكن الإشارة إلى دراسة علوي الهاشمي عن الشعر البحريني الصادرة في الثمانينات وهي، على رغم كونها دراسة فنية عن الشعر خلال خمسين عاما (1925 ـ 1975)، فإن هذا البحث يحتوي على جوانب سوسيولوجية داخلة في سوسيولوجيا الثقافة وبعضها ينتمي إلى سوسيولوجيا الأدب، كما لا تغيب عن البال دراسة إبراهيم عبدالله غلوم الخاصة بالقصة القصيرة في الكويت والبحرين وهي دراسة متميزة ورائدة في هذا المجال وداخلة في نصاب الدراسات النقدية/الأدبية، لكنها بالإضافة إلى ذلك تحتوي على أبعاد سوسيولوجية جيدة في دراسة القصة القصيرة من حيث سياقها الاجتماعي والشروط الاجتماعية التي تبلورت في غضونها.
كل هذه إرهاصات يمكن أن تكون منطلقا لدراسات لاحقة ولكن على صعيد سوسيولوجيا الثقافة وتجلياتها، لكنها بذاتها لا تكفي ولا تغني عن أهمية أن تتم مقاربة الثقافة بالمعنى الشامل للتعبير من منظور علم اجتماع الثقافة. وربما تكون الأرضية لقيام مثل هذا العلم في الساحة المحلية هي أفضل مما كانت عليه الحال في السنوات الماضية، ذلك أن نشوء العلوم مرتبط هو الآخر بالشروط الاجتماعية
العدد 83 - الأربعاء 27 نوفمبر 2002م الموافق 22 رمضان 1423هـ