العدد 87 - الأحد 01 ديسمبر 2002م الموافق 26 رمضان 1423هـ

أزمة الديمقراطية بين خطاب السلطة والمعارضة

سيد ضياء الموسوي comments [at] alwasatnews.com

منذ كنت صغيرا كنت متمردا على الفكر الأحادي والفردي وسيطرة الرجل الواحد. شيء مقرف وبغيض ان يسيس عقل الإنسان ليكون تابعا مهما كان حجم المتبوع ومهما كانت كارزميته، نظاما، أو شخصيا، أو عائلة أو حزبا. إن الله وهب لنا العقل والخلافة في الأرض لنكون أحرارا ومستقلين في أعمالنا لا ان نكون ضمن حاشية أي كيان. نعم، إن يد الله مع الجماعة، ولكن شريطة ألا يتحول الإنسان إلى شاة، أو المجتمع إلى مجموعة قطيع يتحكم فيها حزب الدولة الحاكم كما هو في مصر، أو حزب الشعب المسيطر، كما هو حاصل في مجتمعاتنا العربية عند نفوذ أي تيار مسيطر، لهذا ينبغي للمفكر ألا يلغي عقله مهما كان حجم الضغوط التي تمارس ضده رسمية أو شعبوية. يجب ان يمتلك جرأة نقد الواقع من دون ان تسلبه قدسية وهيبة «التابو» من اقتحام المحرمات العرفية أو الرسمية.

وهنا تكمن استقلالية الإنسان في المعنى الإيجابي وليس السلبي في امتلاكه للنقد الذاتي لأية ممارسة سياسية أو منهج ثقافي أو مشروع اقتصادي من دون ان يكون أسيرا للنظرة الحزبية الضيقة كأن يكون مؤدلجا حزبيا لحزب أو نديما لبلاط أو شاعرا لمنطقة أو مجموعة. وتلك هي مشكلتنا في عالمنا العربي، مادمت غير مؤطر فلن تعطى صك الغفران من الجميع خصوصا مع تنامي عملية الاستقطاب وادخال المزيد من الناس تحت «العباءة» أو «البشت» أو «النكتاي» وقليل ما تجد شخصا يعمل على التوفيق وتقريب وجهات النظر.

ليست هنالك ديمقراطية في مجتمعنا لا في الأحزاب ولا في الدول. فالجميع يعمل على شخصنة المجتمعات والمؤسسات، ونحتاج إلى مزيد من التجارب والسنين حتى نخرج من نظرية الرجل أو الرئيس أو الشيخ أو المثقف الوتد إلى نظرية المؤسسة. والدليل ان الجميع يرفض النقد والمساءلة ويكره استقلال المجتمع، والكل يعمل على فرض «كارزميته» ويستعين بها ويتكئ عليها ساعة الأزمات المفصلية أو التحولات التاريخية، وعلماء السوسيولوجيا يقرون ان الإنسان لا يلتجئ إلى الكارزمية (البريق الشخصي والشرعية الشخصية) إلا في حال ضعف الشرعية المؤسسية أو النظامية أو الدستورية أو الحزبية وما إلى ذلك، كل بحسب طبيعة المؤسسة التي ينتمي إليها.

المجتمعات الشرقية تتعاطى معها الأحزاب (أحزاب المعارضة) بوصفها قطيعا وكذلك هي الحكومات، لهذا نجد ان الجميع سواء رئيس الحزب أو رئيس الحكومة دائما ما يقول: أنا، أنا، أنا... ساعة التحدث عن الإنجازات والمكتسبات. ولا يقول «نحن» ليضم (القطيع) إلا ساعة تعرض المجتمع لخطر أو لحرب أو... فهو يقول «نحن»، في المصائب فقط.

وهكذا هو (القائد الشعبوي) إذا ما أراد ان يتحدث عن البطولات التاريخية والشرعية التاريخية لسنين الكفاح أو لإقناع المجتمع.

النظام الأبوي البطرميركي صفة عالقة في مجتمعنا كلٌ يمارسها بطريقته الخاصة وبحسب سلطته وسمة القمع واغتيال الآخر... وسياسة تكسير الرؤوس والدعوة إلى اختزال الأمة في رجل، سمة عربية وشرقية بارزة تستطيع ان تكشفها في الكثير من مضمرات خطابنا العربي الرسمي أو الشعبوي، فلو قمنا بتفكيك الخطاب «دريديا» وتشريحه لاكتشفنا مدى التضخم النرجسي المضمر تحت عبارات الخطاب المنتفخ بالأدلجة الرسمية أو الشعبية.

كثير منا يدعو إلى الديمقراطية نظريا لكنه أكثر الناس محاربة لها على الأرض، فيعيش فكرا مزدوجا وأحاديا وفرديا ، وتارة من دون ان يشعر بذلك.

لقد كان المفكر الكبير السيد محمد باقر الصدر يخاطب تلامذته وهو يغدي فيهم روح النقد والانسجام مع الحرية والشفافية ليزيل كل مكامن الازدواجية التي قد تعلق بالإنسان من دون ان يشعر، فيقول: «من منا لو امتلك دنيا هارون الرشيد لما اعتقل الإمام موسى بن جعفر (ع)».

بعبارة سياسية مبسطة: من منا لو امتلك السلطة أيا كانت حتى لو كانت سلطة مؤسسة دواجن فإنه لن يمارس عملية القمع والإبادة. لهذا الإنسان قد يعيش عقدة الاضطهاد فيمارسها على أصحابه كما حدث من تراشق في بعض دولنا العربية - مصر مثلا - بين القوى السياسية ذاتها. وهكذا هو المواطن العربي قد يتخلى عن كل شعاراته ساعة اقترابه من بريق الوضع الرسمي. فلو تتبعنا الحركة السياسية في الأردن ومصر لاكتشفنا ان هناك الكثيرين ممن كانوا يؤمنون بالاشتراكية والاقتصاد المركزي والتخطيط والحزب الواحد، تغيّروا بعد تسلمهم السلطة فأخذوا يتبعون القطاع العام وقاموا بفتح السوق على مصراعيها وقدموا طبقة الارستقراطيين والبرجوازيين على حساب الطبقات الكادحة. لقد أصبح المثقف العربي زئبقيا بكل المقاييس، حاضرا للتشكل والتلّون وتغيير الجلد متى اقتضت الظروف وكذلك هم بعض الإسلاميين. فالديمقراطية بالأمس سوءة الشيطان ولعنة الله المتحركة على الأرض وإذا بها تتحول في يوم وليلة إلى مزار قديس وضريح وليٍّ يعبد ولكن ضمن عبادة - أيضا - هندسية بحيث لا تخرج على «جو النص» أو بيت الطاعة الرسمي وبحجج أيضا مؤدلجة ومشرعنة أشد من الشرع ذاته وكلها تأتي ضمن سياقات فردية معبأة ومعلبة فكريا ضمن «معلبات» جاهزة مثل علب السردين والطماطم والخيار المخلل ولكنها مذبوحة على الطريقة الإسلامية!

هذه هي ديمقراطيتنا العربية (ديمقراطية موجهة) كما أسماها أحمد سوكارنو، صورة أخرى لأحادية الفكر مليئة بالقيود، وبالمحرمات الفردية وبالخطوط الحمر. فمنذ تأسيس مونتسكيو لكتاب «روح القوانين» ونحن في تخبط وتشويه متعمد لما يسمى بالديمقراطية الشعبية، ان كانت ثمة ديمقراطية شعبية بل هي رسمية لدى الأحزاب ولدى الدول، وهي أبعد ما تكون عن روح النهج المؤسسي. نحن نحتاج إلى مؤسسة الكاريزما وليس إلى كارزمية المؤسسة كما دعا ماكس فيبر.

نحن ندعو إلى ان تكون الشعبية والالتفاف الشعبي والجماهيري والمجتمعي والرسمي إلى النهج المؤسسي بترسيخ مبدأ المؤسسات ودول وأنظمة وأحزاب القانون حتى نستطيع الخروج بوصفنا مجتمعا وسلطة من شرنقة الفرد أو نظام الحزب الواحد أو المطلق أو الشمولي.

الأسلوب الفردي في اتخاذ القرار لحركة الاخوان المسلمين أدى إلى ضياعهم ودخولهم في انتحار سياسي في سورية في منطقة حماة، وأدى إلى تصادمهم المباشر في محاولتهم اغتيال عبدالناصر على فرض صحة تورطهم في ذلك، وأدى إلى اضعافهم بعد تحالفهم مع السادات الذي استخدمهم ورقة لضرب القوى السياسية اليسارية والناصرية الأخرى تحت حجة (إيمانه) وتحوله بين عشية وضحاها إلى «عبدالله المؤمن» المكثر من الصلوات والعبادة وخصوصا أمام «كاميرات» الإعلام والصحافة.

والأسلوب والنهج الفردي هو الذي أضاع ألمانيا بسبب هتلر وأضاع دولة افريقيا الوسطى عبر امبراطورها الفاشل والبهلول «بوكاسا» فتاريخه شاهد على الفردية والتسلط، إذ كان مسيطرا على كل نواحي الحياة في بلاده التعيسة إلى درجة تحكمه في مرفق الكهرباء ليرغم المواطنين على النوم مبكرا. فالتاريخ السياسي الحديث ينقل إلينا ان هذا الرجل حكم بلاده حكما عجيبا إذ غابت فيه كل أشكال وأنماط وطرق الحكم المعاصر، فهو يفتقر إلى هيئة استشارية ولا يمتلك لا برلمان ولا مساعدة من أي أحد سوى ذاته. هكذا هو نمط الأسلوب الفردي في عالمنا المتخلف (العالم الثالث).

إن لدولة القانون والمؤسسات مزايا كثيرة يجب أخذها في الاعتبار والتركيز عليها بدلا من ان نقوم بتكفير مثل هذا النهج فمنها:

1- اشراك الشعب في صوغ القرار السياسي. لهذا يكون أنسب رد لمن يرى الديمقراطية، وإن كانت مؤسلمة، خطيئة، فإننا نقول له: إن كانت الديمقراطية خطيئة فإن الدكتاتورية جريمة، والحكم بالسوط لا يحتاج إلى عبقرية ولا إلى تميّز.

2- الحيلولة دون الاستبداد وحكم الفرد.

ولكن يبقى ان للديمقراطية سلبيات نذكرها لإكمال الصورة ولو بطريقة مختصرة:

1- شيوع وتضخم مبدأ المعارضة للمعارضة والقفز على كل المكتسبات.

2- محاولة الحكومة اظهار الأصوات الوطنية في المجلس على انها متطرفة في مطالبها ولا تخدم المصلحة العامة كما هو حادث في أكثر من تجربة.

3- استمالة الحكومة ومحاولاتها تحييد عدد لا بأس به في المجلس لتفقير مواقف المعارضة في البرلمان ومحاولة إظهار فشلهم وضعفهم لإنجاز ما وعدوا به ناخبيهم ومناطقهم.

وهذا النوع من السياسة برز - تاريخيا - في المجلس الوطني الكويتي الذي ابتدأ سنة 1963 في الكويت، إذ كان بداية لتجربة برلمانية متلكئة مليئة بالثغرات.

نحن هنا في البحرين لا نخرج كثيرا عن مضامين هذه التناقضات ما بين الإيجاب والسلب، فكما ان لنا إيجابيات بوصفنا دولة وقوى سياسية وجمعيات وشعبا، لنا سلبيات ولكننا قد نستطيع ان نخرج من كل هذه السلبيات أو بعضها لو امتلكنا جرأة نقد أنفسنا وقوانيننا وخطاباتنا حتى لا نقع في مأزق هذه الدول... فجزء من المعارضة مطالب بجرأة نقد:

1- بعض الخطابات وإعادة قراءتها حتى يصبح الإيقاع الخطابي منسجما وواحدا ومتناسقا مع تأسيس المنهج المؤسسي، القائمة بناه الفكرية على عقول كثيرة لا عقل واحد.

2- امتلاك جرأة نقد الشارع أو قطاع بسيط من الشارع لإزالة بعض الشعارات المربكة والمثيرة للجدل والمؤثرة في قراءة الآخر للمعارضة.

3- الابتعاد عن فردية القرار وترسيخ مبادئ النهج المؤسسي، على ان يكون ممارسة عملية وليس ديكورا صحافيا كما تمارسه الدول في بعض سياساتها.

أما بالنسبة إلى الدولة:

- فيجب التعاطي مع القوانين بطريقة تتناسب مع المناخ الديمقراطي الذي أوجد في البلد. فإلقاء حزمة القوانين المنغصة والمحبطة عملت على تلبد الغيوم والسحب المحبطة في سماء البحرين خصوصا مرسوم 56 للعفو الشامل وقانون اغتيال الصحافة.

إضافة إلى كل ذلك مخافة سلطنة نقابة الصحافيين. ومما عمل وساعد على الاحباط طريقة التشكيل الوزاري وخلوها من الجديد المبتغي، اللهم إلا القلة، أو اسلوب اختيار المجلس المعين إذ عرف عدد لا بأس به بالوعي الانشائي المدائحي وليس الوعي السياسي. ورافقت كل ذلك عودة العقيد الفار التي نكأت الذاكرة التراجيدية والحزينة للشعب في وقت نحن بأمس الحاجة فيه إلى ترسيخ الهدوء وتشكيل الوعي المؤسسي الناضج الذي يرعى مشكلاته ويعمل على حلها عبر المؤسسات والجمعيات السياسية.

يجب ألا يرجعنا هذا العقيد الفار إلى نقطة الصفر من التعاطي مع القضايا. وكل أملنا في ان تأخذ الجمعيات السياسية والحقوقية دورها في استيعاب هذه الأزمة حتى يقدم هذا الرجل إلى المحاكمة بعيدا عن التشنجات.

لقد بدا الارتياح الكبير لدى كثير من المراقبين وهم يرون العلم البحريني حاضرا - وبقوة - في مسيرات يوم القدس. إن حضوره وبهذه الكثافة يعكس وعيا واعتزازا وطنيين بسيادة المملكة ومدى التلاحم الوطني. هي إضاءة وطنية جميلة تضاف إلى إضاءات القضية الفلسطينية نرجو التركيز عليها فهي تحمل الكثير من المضامين

إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"

العدد 87 - الأحد 01 ديسمبر 2002م الموافق 26 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً