العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ

أوروبا: من الاقتصاد إلى الجغرافيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

القرارات التي اتخذتها قمة كوبنهاغن (الجمعة 13 ديسمبر/كانون الاول الجاري) وصفت بالتاريخية. وهي فعلا كذلك. فالاتحاد الاوروبي اتسع مجاله الجغرافي شرقا وجنوبا وضم عشر دول جديدة ليصبح 25 دولة واتسع بشريا ليصبح تعداد سكانه 450 مليون نسمة. فالاتحاد الذي بدأ فكرة شمالية - غربية قبل أكثر من 40 سنة امتد جغرافيا وسكانيا نحو الجنوب (اسبانيا والبرتغال) ونحو الشرق (اليونان). وتوقف القطار الاوروبي فترة وجيزة ثم تضخم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكره الاشتراكي قبل 13 سنة، قبل الانهيار اخذ بضم الدول واحدة واحدة فاستوعب جزئيا دول الشمال (اسكندينافيا) الاكثر تطورا وبعض دول الشرق الاقل تطورا ليصبح 15 دولة. والآن اضاف الى منظومته عشر دول دفعة واحدة. وتعتبر الخطوة الاخطر في تاريخ الاتحاد. ونجاحها يعني فوز اوروبا بقصب السبق مع الولايات المتحدة وفشلها مؤداه ان الخطوة كانت ناقصة وستورث دول الاتحاد الكثير من المشكلات... ويمكن ان تعطل امكانات التوحيد وتحويل الفكرة الاوروبية الى مجرد جامعة تشبه جامعة الدول العربية.

بداية كانت فكرة الاتحاد الاوروبي اقتصادية ومتجانسة في تحديد عضوية الدولة ومحددة بشروط. فالفكرة في اساسها اقتصادية وليست سياسية وكانت اشارة مبكرة للدلالة على نوع معين من التقدم الاقتصادي الذي يتطلب الحد المقبول من التجانس الاجتماعي. فجأة تغيرت فكرة الاتحاد واخذت تتسع ايديولوجيا. فلم تعد الفكرة اقتصادية، القصد منها تنسيق المصالح وانظمة العمل وتطوير التبادل التجاري وتحديث الاتصالات والمواصلات بل اندفعت نحو ما هو اعلى من السياسي فأخذت تتناول الجوانب الثقافية - الاجتماعية، ثم انتقلت الى ما هو جغرافي. فاصبحت فكرة الاتحاد جغرافية تشير الى وعاء طبيعي يمتد من الاطلسي غربا الى بحر الاورال شرقا. وهناك بعض الاتجاهات المتطرفة اوروبيا يطرح الفكرة كنظرية قومية. اي ان اوروبا ليست قارة وانما قومية واحدة تجمعها حضارة مشتركة ورسالة انسانية واحدة.

مقابل الاتجاهات «القومية الاوروبية» هناك آراء معارضة للتطرف القاري وحذرة في تعاطيها مع فكرة الاتحاد. وتعتبر بريطانيا في طليعة الدول المنبهة لمخاطر التمدد العشوائي. رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر حذرت في نهاية السبعينات من خطورة الانفتاح واحتمال انتقال عدوى المشكلات من خارج سور القارة الى داخلها.

ثاتشر مثلا اعترضت في مطلع الثمانينات على قبول عضوية اليونان في الاتحاد واكدت على «اوروبية» الاتحاد «وغربيته». فاوروبا برأي «السيدة الحديد» هي دول الشمال الغربي اما تلك الدول المجاورة شرقا وجنوبا فهي مجرد حدائق خلفية وامامية تعطى عضوية «فخرية» ولا تستحق المساواة في الترشح والتصويت مع دول شمال وغرب القارة.

اعتراض ثاتشر على اليونان في الثمانينات جاء لاسباب جغرافية - سياسية. فهناك فواصل تفرق الاتحاد عن دولة مثل اليونان منها الفجوة الجغرافية فاليونان لا تقع على حدود الاتحاد السياسية، ومنها الفجوة الاجتماعية - الاقتصادية فاليونان لا تمتلك المواصفات الاجتماعية والشروط الاقتصادية التي تؤهل هذه الدولة وتعطيها حق امتلاك العضوية الكاملة. هذا ما قالته ثاتشر. وما لم تقله هو ان اليونان دولة ارثوذكسية ومسيحيتها تقليدية تنتمي الى الكنيسة الشرقية - البيزنطية وهي على صلات تاريخية مع الكنيسة الروسية وتعتبر من الدول الحليفة للاتحاد السوفياتي آنذاك نظرا للتاريخ «النضالي» المشترك ضد تركيا العثمانية (المسلمة). كان رأي ثاتشر الاكتفاء بالدول الشمالية - الغربية من القارة وتثبيت دعائم الاتحاد في تلك الزاوية التي تتمتع بالحد المعقول والمقبول من التجانس التاريخي - الثقافي والتقارب الجغرافي - السياسي. حتى ان ثاتشر لم تتحمس لفكرة ادخال اسبانيا والبرتغال إلى الاتحاد لان التمدد جنوبا يعني المزيد من الكاثوليك والكثير من المشكلات الناتجة عن اختلاف البنية الذهنية واسلوب الحياة والمعاش والتفاوت الاقتصادي - الاجتماعي بين شمال القارة وغربها مع جنوبها الغربي.

اعتراضات ثاتشر شكلت نقاط توتر في صفوف اعضاء الاتحاد وانقسمت اوروبا إلى مؤيد ومتحفظ بينما كان الشارع عموما يدفع باتجاه رفض اقوالها ويندفع نحو تحقيق الفكرة جغرافيا: اوروبا واحدة من الاطلسي إلى الاورال.

كان شعار اوروبا واحدة آنذاك مجرد حلم فيه الكثير من المبالغة او السذاجة الايديولوجية بينما كان صوت ثاتشر يعكس مجموعة افكار واقعية تمتزج فيها احاسيس الخوف من المستقبل وعقد التفوق او التشاوف. الا ان الزمن كان ينتظر لحظته.

في مطلع التسعينات انهارت اوروبا الشرقية وخرجت ثاتشر من الحكم فتراجع الاعتراض البريطاني على خطوات تسريع فكرة توسيع الاتحاد وانفتحت الحدود امام اوروبا للاتجاه شرقا بعد ان تكسرت الفواصل الايديولوجية والموانع السوفياتية. الآن يقف الاتحاد امام اوروبا والقارة منبسطة امامه سياسيا الا ان التحذيرات الثاتشرية لاتزال تسمع اصواتها بين حين وآخر عندما يتحدث البعض عن حق تركيا في دخول الاتحاد. فأولئك الذين اعترضوا على كلام ثاتشر حين تحدثت بلغة اوروبية عن اليونان واسبانيا والبرتغال يرددون كلامها الآن في تبرير اعتراضهم على تأخير او تأجيل او تعليق او رفض قبول عضوية تركيا. اوروبا الآن اصبحت «ثاتشرية» في عصر مختلف

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً