العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ

المعارضة العراقية ليست فقاعة

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

حتى موعد انعقاد مؤتمر لندن للمعارضة العراقية في مطلع الأسبوع الجاري كان الكثير من المعلقين يعتقدون أن هذه المعارضة هي مجموعة من الغاضبين أو طالبي السلطة أو المطاردين في الخارج، قوى لها أصوات وليس لها قدرات، تعرف ما ترفض ولا تعرف ما تريد، وكانت الصورة السلبية لهذه المعارضة تزين لها الحكومة العراقية من جهة، وبعض المتنافسين من العراقيين أنفسهم من جهة أخرى، فتظهر الصورة، وهي أبعد ما تكون عن المأمول، كما كانت غالبية الدول لا تأخذها مأخذ الجد، خوفا من النظام العراقي أو اتقاء الدخول في متاهات سياسية غير مستحبة.

ومع انعقاد مؤتمر المعارضة العراقية الذي ضم غالبية تياراتها، وقد أخذ وقتا أطول مما هو متوقع لانعقاده، أصبحت المعارضة واقعا ملموسا، يتعدى الجماعات التي تشكلها، لتكون جسما سياسيا قائما بحد ذاته، له مواصفات وله مطالب وأهداف واضحة يسعى الى تحقيقها، ومؤشرا قويا للداخل العراقي على صدقية المطالبة بالتغيير والعمل من أجله.

أنْ يعقد المؤتمر وينجح فذلك إنجاز، ولكن العقبات أمام نتائجه كبيرة وكثيرة، لعل أولها العلاقة بالولايات المتحدة، وهذه العلاقة هي في الحياة السياسية العربية ملتبسة، وموقع جذب سلبي للمشككين والناقدين، ولا يخفى أن المدخل لمثل ذلك النقد السلبي هو العلاقة بين الولايات المتحدة و«إسرائيل»، وما يشوبها من التباس، وقد ترك ذلك مرارة في حلوق كثير من العرب، وببساطة يُمرر هذا الالتباس على المتابع العربي إمكان أية استفادة من جهدها في ملفات أخرى، خصوصا الملف العراقي، فيسهل انتقاد المعارضة العراقية من هذا الجانب أمام جمهور لم يعترف بعد بأنه حتى أصحاب القضية الأولى (فلسطين) يسعون حثيثا إلى خلق ارتباط جدي وإيجابي للولايات المتحدة مع قضيتهم، إلا أن الجمهور العربي العام مازال تحت وطأة تلك العلاقة السلبية التي تراكمت لسنوات.

وأخطر ما يمكن أن تخوض فيه المعارضة العراقية أن تقع في خطأين، الأول أن تستجيب (لتقية) من نوع ما، فتعلن البراءة من الولايات المتحدة إرضاء للجمهور، في الوقت الذي تتعامل فيه معها خلف الأبواب، والثاني أن تتبرأ علنا من هذه العلاقة تحت ضغط المزايدات، وكأنها علاقة محرمة وتدخل مكونا معطلا في الجدل بين القوى السياسية العراقية المختلفة.

في الحالتين تصبح المعارضة العراقية وكأنها تدخل مدخل من تريد التخلص منه نفسه، وهو النظام الحاكم في بغداد، فهو قد تعامل مع الولايات المتحدة عندما كان ذلك ضرورة لبقائه، وجافاها ووقف منها موقف العداء عندما لم تستجب أو تتغاضى عن طموحاته.

هذا الخطأ الاستراتيجي لو وقعت فيه قوى المعارضة العراقية، أو كما أصبح اسمهم منذ الآن وصاعدا (العراقيون الأحرار) فهي تقع في موقع ضبابي، لن ينفع كثيرا مستقبل العراق، لأن هذا المستقبل سيفتح على ملفات قديمة، ويتعامل مع شعارات قديمة أيضا، ليس مطلوبا تكرارها، مع أن المطلوب هو الاعتراف بالتعددية وقبول الآخر، وتحويل العراق الى وطن للجميع، بعد أن أصبح مزرعة للقلة.

من الأوفق تسمية الأمور بمسمياتها الواضحة من البداية، فالولايات المتحدة لها مصالح كبيرة في التخلص من النظام العراقي، والمعارضة العراقية في الداخل والخارج كذلك، واتفاق المصالح ليس مثلبة في العلاقات الدولية، لا اليوم ولا في تاريخ العلاقات بين الأمم الضارب في القدم. المهم أن تتوصل المعارضة العراقية في الداخل والخارج إلى معرفة الأسباب التي تجعل من الولايات المتحدة في هذا الوقت بالذات حريصة على التغيير في العراق.

بعض التفسيرات المنتشرة بين المعلقين العرب أن الولايات المتحدة تريد التغيير لأسباب (نفطية) وذلك قصور في التحليل. قد يشكل النفط أو الموضوع الاقتصادي جزءا، ولكنه جزء صغير من الموضوع كله. وبعض التفسيرات تتحدث عن (التخلص من أسلحة الدمار الشامل) وقد يكون ذلك جزءا وربما أكبر من الجزء الاقتصادي، وله علاقة بالرأي العام الغربي، ولكن كلا العاملين لا يشكلان الأسباب الكبيرة أو الحقيقية للمساعدة في التخلص من النظام.

يراهن كثير من الليبراليين العرب والعراقيون منهم خصوصا، على أن الأسباب الحقيقية للتخلص من النظام العراقي هي قناعة رسخت في الفكر السياسي الغربي منذ 11 سبتمبر/ أيلول من أن (الحكومة الشمولية) أو بتعبير آخر (الدكتاتوريات) هي مصدر كل الشرور: الحروب غير المنقطعة والتجهيل بالغ الأذى، وسريان الفساد وتعطيل قدرات المجتمع، وتسهيل تصدير الإرهاب. كما أن إمكان الانقلاب عليها بسبب فسادها يصبح ميسورا ويؤدي إلى قيام أشكال من الحكم أكثر سوءا منها، تقود هي بدورها إلى توتر عالٍ بين الحكومات الجديدة والمجتمع الدولي والخارجي والمجتمع المحيط بها، كما حدث للانقلابات العسكرية المتكررة في البلاد العربية. فالتخلص في النهاية من الدكتاتورية هو إزالة لشرور كثيرة، إلا أن الأهم من ذلك هو قيام حكومات تعترف بالتعددية وتنفتح على مجتمعاتها وتكون قادرة على امتصاص التناقضات في مجتمعها بآلية حديثة.

إذا وصلت المعارضة العراقية إلى هذا التحليل، فإن المطلوب منها بالضرورة نقيضه، وإلا أصبح التغيير في الأشخاص، وليس في السياسات، وهو ليس المستهدف على وجه الإطلاق. كما أن هذا التغيير إلى التعددية هو اعتراف بالواقع الذي تجاهلته أنظمة كثيرة، تحت الاحتماء خلف شعارات مثل (الوحدة الوطنية) و(محاربة العدو الخارجي) وهي شعارات جيدة لو فُعّلت بشكل صحيح، ولكنها استخدمت من أجل قمع الآخر وتهميشه وحرمانه من حقوقه الأولية والبسيطة، مثل حقه في أن يناقش السياسات التي تؤثر عليه، كالحرب والسلام على سبيل المثال، التي استنزفت أهل العراق، فالعراق ليس عربا فقط وليس شيعة فقط وليس تركمانا فقط، انه كل ذلك معا.

ما أوصل الحال في العراق إلى ما وصلت إليه هو «استخفاف» النظام العراقي في السنوات الطويلة الماضية بـ «المعارضة» و«الآخر» أيا كانت مطالبه، فقد كانت توصم بأسماء سلبية كثيرة، وكان يعتقد أنها مهمشة وغير مؤثرة، وأنه يمكن للنظام أن يحيط تحركها بتخويف وإرهاب أو متابعة وتقصٍّ أو حتى استئصال. وظواهر العمل السياسي في المجتمع، مثل الظواهر المرضية في جسم الإنسان، تبدأ صغيرة وغير ذات بال، وتكبر إن أهمل علاج أسبابها، ولقد أهمل النظام العراقي أسباب العلاج لفترة طويلة، وهو يرى التغيير من حوله يسير باتجاه لا شك فيه، وهو التعددية واحترام حقوق المواطنة.

من الأوفق أن تتعرف المعارضة على كل ذلك من أجل ألا يقع ارتكاب الخطأ نفسه من جديد، والمؤسف أن البعض، تحت شعارات كثيرة، مازال يعيش في الماضي، ركونا إلى شعارات لم تثبت صحتها في تجارب كثيرة.

المراهنة الحقيقية في المستقبل هي على قدرة أو عدم قدرة الجماعات السياسية العراقية المختلفة على تقديم النموذج البديل، والعمل على حل المشكلات السياسية في مرجعية قانونية يرتضيها الجميع. ونجاح أو فشل ذلك لن يؤثر فقط في مستقبل العراق بل المنطقة بأكملها

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً