العدد 112 - الخميس 26 ديسمبر 2002م الموافق 21 شوال 1423هـ

أربع نظريات تحدد علاقة الدولة بالصحافة همها المسئولية الاجتماعية القائمة على التعدد

حرية الصحافة بين الدولة ومسئولية الصحافي

هاني الفردان hani.alfardan [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تشترك الصحافة مع الدولة في هدف واحد هو: خدمة الصالح العام. لكن ما هو الصالح العام؟ ومن الذي يحدده ويسهر على تنفيذه، ومراقبته؟ فيما مضى، كانت السلطة السياسية أو الدينية (الامبراطور، الخليفة، الكنيسة، الأمير...) هي كل شيء. هي التي ما ينبغي التفكير فيه، سلوكه أو الإعراض عنه، من دون أن يكون للشعب أي دور في ذلك غير تنفيذ ما تقرره السلطة تحت طائلة العقاب، وهو ما سمح بكل أنواع الظلم والاستبداد التي عرفها التاريخ البشري، لكن مع تطور مفهوم الديمقراطية منذ القرن السادس عشر والذي واكبه اختراع وتطور الطباعة (غوتنبرغ) وبالتالي الصحافة والكتاب، الذي مهد لثورة التكنولوجيا الإعلامية التي انتشرت لاحقا على مدى جماهيري واسع (م. ماكلوهان، 1967).

مع هذا التطور، لم تعد السلطة السياسية بمفهومها الاستبدادي هي كل شيء. أصبحت هناك آليات تختار هذه السلطة (الانتخابات) وتحد منها عن طريق سلطات أخرى (البرلمان، القضاء) وتراقبها عن طريق الصحافة. بهذا المعنى إذن، يكون مفهوم الصالح العام عند الصحافة، فضلا عن دورها التقليدي في الأخبار، الثقافة والترفيه، هو مراقبة الدولة والمجتمع دفاعا عن قيم الحرية وحقوق الإنسان. ذلك «ان حرية الصحافة بأوسع معانيها تمثل امتدادا جماعيا لحرية كل مواطن في التعبير المعترف به حقا من حقوق الإنسان. فالمجتمعات الديمقراطية تنهض على أساس مفهوم سيادة الشعب الذي يحدد إرادته رأي عام مطلع» .

من هنا منشأ الصراع التاريخي بين الصحافة والدولة منذ بدأت الثورات الكبرى التي سنت مواثيق الحقوق وحريات المواطن بدءا من الولايات المتحدة الأميركية (1787) حين (التزم الكونغرس بعدم سن أي قانون من شأنه أن يحد من حرية الصحافة)، والى فرنسا (1779)، حين تم الاعتراف بأن (حرية تبادل الأفكار والآراء هي من الحقوق الأساسية للمواطن. ذلك ان لكل مواطن الحق في أن يتحدث، ويكتب وينشر بكل حرية إلا في الحالات التي ينص عليها القانون). مرورا بما كتبه (ج. ميلتون) مقالته الشهيرة سنة 1964 ( من أجل حرية الصحافة دون ترخيص ولا مراقبة).

وهي المبادىء العامة التي ربطت حرية الصحافة بحرية المواطن وستتطور في دساتير وقوانين أخرى إلى أن تصبح عبارة عن مبادىء إنسانية عالمية، نص عليها الفصل 19 من التصريح العالمي لحقوق الإنسان بقوله (لكل إنسان الحق في ضمان حرية الرأي والتعبير، وإرساء، وتلقي ونشر الأخبار والأفكار بكل وسيلة اتصال، من دون تدخل حكومي أو غيره ودون اعتبار للحدود الجغرافية). لكن على رغم هذه المبادئ ظل الصراع بين الدولة والصحافة قائما على مستوى الواقع. وهو صراع يتراوح بين سيطرة الدولة على الصحافة أو السماح لها بالاستقلالية التي قد تتقلص أو تمتد حسب ظروف كل دولة، وهو ما جعل دارسي الصحافة يقسمون علاقة هذه الأخيرة بالدولة إلى أربع نظريات: السلطة، الحرية، الاشتراكية، ونظرية المسئولية الاجتماعية.

- نظرية السلطة: وهي التي ترتبط بنظام الحكم الفردي الاستبدادي، حيث تسيطر الدولة/ القائد فيه سيطرة تامة على وسائل الإعلام بغرض التوجيه والرقابة ومنع تداول المعلومات وحرية التعبير.

- نظرية الحرية: تقوم على مبدأي الفردية والمنافسة، التي تقضي بعدم تدخل الدولة في شئون ونشاطات الأفراد، وترك مجال الحرية بالتالي مفتوحا أمام تطور الاقتصاد والإعلام، داخل نظام تنافسي مفتوح، يحق فيه لكل فرد، أو جماعة أو مؤسسة بما في ذلك الدولة، أن ترسل وتتلقى وتنشر الأفكار والأخبار التي تريد بكل وسيلة اتصال ممكنة.

- نظرية الاشتراكية: وهي التي تعتبر أن الصحافة هي (أو يجب أن تكون) في ملكية الشعب، التي يمثلها حزب الدولة الاشتراكي، وبالتالي، فهي سلاح لخدمة الشعب (الشعب/ الحزب)، أي المجتمع برمته، وليس طبقة البرجوازية أو الرأسمالية فحسب كما هو الشأن في المجتمع الرأسمالي.

- نظرية المسئولية الاجتماعية: وهي نظرية (أخلاقية) تعتبر انه ليس هناك حرية مطلقة للصحافة، وإنما حرية مسئولة تقوم ـ أو يجب أن تقوم ـ على مبادىء وأخلاق إنسانية نبيلة على الصحافة أن تتقيد بها وتحترمها حتى لا تزيغ عن رسالتها الأساسية وهي خدمة الصالح العام.

غير أنه يمكن أن نوجز هذه النظريات في اتجاهين:

أ ـ احتكاري: تسيطر فيه الدولة (فردا كانت أم طبقة) على وسائل الإعلام سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة (ديمقراطية الواجهة)، على أساس أن ممارسة الإعلام والصحافة تدخل ضمن حقوق الدولة وواجباتها.

ب ـ تعددي: يسمح بوجود حرية للتعبير، وبالتالي تعدد قنوات وسائل الإعلام بما يعكس آراء واتجاهات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون أي احتكار كان للدولة أم غيرها. وهو ما يترك للمواطنين وكل فعاليات المجتمع. إلى جانب الدولة إذا رغبت في ذلك، حرية ممارسة الإعلام والصحافة.

وإذا اقتصرنا في تحليلنا على هذا الاتجاه الأخير، أي الاتجاه التعددي، نجد داخله عموما موقفين للصحافة تجاه الدولة: عداء وتعاون.

- موقف عداء: يدفع الصحافة إلى أن تأخذ حذرها الدائم تجاه كل ما يمت للدولة بصلة، حتى تحتفظ بوظيفتها النقدية وبالتالي ثقة الرأي العام. ذلك أن توجه الدولة (الطبيعي) أيا كان انتماؤها السياسي أو حسن نيتها، هو استغلال الصحافة. فمن يملك السلطة يخاف عليها من النقد ويسعى من ثم إلى تسييجها وأحاطتها بالأشواك (والطرق كثيرة: إخفاء المعلومات، تضليل الصحافة أو رشوتها، كما أن المبررات أكثر: أسرار الدولة، الأمن القومي، الحياة الخاصة..!). في حين (ان دور الصحافة هو تقصي الحقائق، أي التنقيب عن تصرفات القائمين على السلطة، وتمحيص هذه التصرفات وفضحها كلما كانت هناك إساءة لاستخدام السلطة أو قصور في الكفاءة أو فساد أو انحرافات أخرى).

- موقف تعاون: الدولة والصحافة كلاهما يخدمان الصالح العام. إذن فعلاقتهما تبنى ـ أو يجب أن تبنى ـ في الإطار الديمقراطي على التعاون وليس العداء. نعم، قد يختلف مفهوم الصالح العام عند هذا الطرف أو ذاك، فتحدث انتقادات ومواجهات في حالات وأوقات محددة وهذا شيء طبيعي يدخل في باب الاختلاف الذي ضمنه الاتجاه التعددي، لكن من دون أن يتحول ذلك بالضرورة إلى عداء منهجي لطرف تجاه الطرف الآخر. فالعداء المنهجي للدولة تجاه الصحافة، لا يمكن أن يؤدي إلى الاحتكار ومنع الحريات في اتجاه إقامة نظام استبدادي. كما أن العداء المنهجي للصحافة تجاه الدولة بدعوى النقد والمراقبة قد يصل به الأمر إلى جعل (الغاية تبرر الوسيلة) من ترويج إشاعات وخلق ملفات وتضخيم صغائر الأمور، والمس بأخلاقيات الأفراد والمؤسسات و(وتجييش) الجمهور بتحريك نوازعه القبلية، القومية، الحزبية أو الدينية الضيقة، وبالتالي التحول من صحافة مسئولة اجتماعية بهدف الصالح العام، إلى صحافة (حرة) في إثارة الفوضى، وثقافة الهدم والفتنة.

إذن، تعاون هو أم عداء؟ ليست المسألة «أبيض ـ اسود»، فلا شك في أن ثمة ألوانا متعددة للعلاقة بين الصحافة والدولة تفرز مساحات واسعة للاتفاق والاختلاف والمراوغة والتعايش بينهما تحت شعار (أحبك، لا أحبك)

إقرأ أيضا لـ "هاني الفردان"

العدد 112 - الخميس 26 ديسمبر 2002م الموافق 21 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً