العدد 2206 - الجمعة 19 سبتمبر 2008م الموافق 18 رمضان 1429هـ

المد والجزر في العلاقات الأميركية الليبية خلال أكثر من قرنين

تتمتع الولايات المتحدة وليبيا بعلاقة طويلة الأمد يعود تاريخها إلى أولى أيام الجمهورية الأميركية. والواقع أنه ممكن التأكد من هذه العلاقة كل مرة نسمع فيها كلمات نشيد مشاة البحرية الأميركية عند السطر الذي يقول «حتى شواطئ طرابلس».

ومع أن ليبيا لم تحصل على استقلالها إلا في العام 1951، فقد كانت دولة طرابلس البربرية التي سبقتها، من مصادر القلق الدولي للولايات المتحدة الجديدة خلال العقود الأولى لقيامها. كانت طرابس بقيادة الباي يوسف قرمنلي تكنُّ ولاء فضفاضا للإمبراطورية العثمانية، ومثلها مثل أي دولة بربرية أخرى كانت تعمد إلى تعزيز ماليتها عن طريق الغزو على السفن التجارية الأوروبية، وفرض جزية على الدول الأوروبية لتجنيب سفنها مثل هذه الغزوات. ولكن بعد استقلال الولايات المتحدة لم تعد السفن التجارية الأميركية تتمتع بحماية الأسطول البحري البريطاني الذي كان يؤمنها عن طريق الجزية التي كانت تدفعها وزارة المالية الملكية، فأصبحت سفن الولايات المتحدة معرضة لخطر غزوها على أيدي الدول البربرية.

حصل أول اجتماع بين الولايات المتحدة وممثلين من طرابلس في لندن بتاريخ 17 فبراير/ شباط العام 1786. قابل كل من الوزير الأميركي المفوض لدى بريطانيا العظمى جون أدامز، الوزير الأميركي المفوض لدى فرنسا وتوماس جيفرسون المبعوث الخاص لطرابلس إلى بريطانيا العظمى عبد الرحمن. قال عبد الرحمن إنه في غياب أي معاهدة سلام، فإن طرابلس تعتبر نفسها في حالة حرب مع الولايات المتحدة، ولكن من الممكن التفاوض بشأن معاهدة سلام مقابل 30 ألف جنيه على الأقل (نحو 3.5 ملايين دولار بعملة 2007). أجاب أدامز وجيفرسون أن على الكونغرس الأميركي الموافقة على هذه النفقات، لإدراكهما بأن الدول البربرية الأخرى ستطالب بمبالغ مماثلة أو أكبر، وانتهت المحادثات عند هذا الحد.

وقّعت الولايات المتحدة أول معاهدة مع طرابلس سنة 1796 بعد أن قامت طرابلس بغزو واحتجاز سفينة تجارية أميركية. دفع الحادث الولايات المتحدة إلى إرسال جويل بارلو كسفير أميركي مطلق الصلاحية إلى طرابلس للتفاوض بشأن توقيع معاهدة مع باي طرابلس. جرى التفاوض بين بارلو وقرمنلي ووقعا معاهدة سلام وصداقة في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1796. منحت المعاهدة حرية المرور للسفن التابعة للدولتين وفرضت تزويد جوازات السفر اللازمة لضمان المرور الآمن. نصت المعاهدة على أن تكون التجارة بين الدولتين على أساس الدولة الأكثر حظوة، وأن تكفي الأموال والهدايا المقدمة إلى الباي بدلا من دفع الجزية.

اشتملت معاهدة 1796 على مادة تحيل النزاعات الأميركية - الطرابلسية إلى داي الجزائر للوساطة في حلها، وقادت التفسيرات المتناقضة لتلك المادة إلى اندلاع أول حرب بربرية (1801-1805). اعتبر باي طرابلس أن المادة تعني أن يقوم بالتحكيم صديق مشترك، ولكن المسئولين الأميركيين اعتبروا أن طرابلس دولة تابعة للجزائر. لم ترسل الولايات المتحدة أموالا أو هدايا إلى قرمنلي بل أرسلت أموالا وسفينة إلى داي الجزائر. وعندما وصل أول قنصل أميركي، وهو جيمس لياندر كاثكارت، إلى طرابلس في أبريل/ نيسان 1799، واجه بايا غاضبا طالب الولايات المتحدة أن تعامل طرابلس على الأُسس نفسها كالجزائر. وعندما لم ترد واشنطن على هذه المطالب في 9 فبراير/ شباط 1801، هدد قرمنلي بإعلان الحرب على الولايات المتحدة إذا لم يحصل على معاهدة جديدة وجزية. وفي 14 مايو/ أيار أرسل مفرزة من الجنود لقطع سارية العلم الأميركي في القنصلية الأميركية وأعلن الحرب على الولايات المتحدة. طلب كاثكارت من القنصل العام للدنمارك الإشراف على المصالح الأميركية ورحل إلى إيطاليا.

كان الرئيس توماس جيفرسون يؤيد منذ فترة طويلة اتباع سياسة صارمة تجاه الدول البربرية. فأمر بإرسال أول فرقة بحرية إلى البحر الأبيض المتوسط، عندما علم بإعلان طرابلس الحرب. طلب جيفرسون السماح بإجراء عمليات بحرية في 6 فبراير 1802، وحصل من الكونغرس على تفويض بذلك ضد طرابلس. بعد عمليات الحصار، والقذف المدفعي، وعدة معارك، عيّن جيفرسون وليام ايتون في منصب «وكيل البحرية الأميركية للولايات البربرية»، وطلب منه تشكيل قوة لمهاجمة طرابلس برا. وبمساعدة من سلاح البحرية الأميركية، احتلت قوة متعددة الجنسية بقيادة ايتون بلدة درنا. دفعت أخبار المعركة قرمنلي إلى طلب الصلح، وفي 4 يونيو/ حزيران 1805 وقعت الولايات المتحدة وطرابلس معاهدة سلام وصداقة. استؤنفت العلاقات القنصلية وتمّ تعيين جورج ديفيس قنصلا في 17 آذار/ مارس 1806.

كانت الحرب الأولى ضد الدول البربرية تجربة تكوينية لسلاح البحرية الأميركية ولمشاة البحرية الأميركية الناشئة. فكان أن تضمن نشيد مشاة البحرية السطر الذي يقول، «إلى شواطئ طرابلس».

بدءا من معاهدة السلام وحتى الحرب العالمية الأولى، تركزت العلاقات الأميركية - الطرابلسية على التجارة والشئون القنصلية. لكن أصبحت طرابلس والمناطق المجاورة لها، أي البرقة وفزان، مستعمرات أوروبية. نتج عن وضع ليبيا كمستعمرة سابقة لإيطاليا الفاشية لأن تصبح ليبيا من جديد مسرحا للحرب بالنسبة للولايات المتحدة. ففي العام 1920، ونظرا للمقاومة المحلية للحكم الإيطالي، منحت إيطاليا السيد إدريس السنوسي، قائد حركة المقاومة في البرقة، لقب أمير البرقة وبعد سنتين عرض زعماء طرابلس الأصليون إمارة طرابلس على السيد إدريس، فقبلها. بعد تسلّم بنيتو موسوليني السلطة في إيطاليا في أكتوبر/ تشرين الأول 1922، فرضت حكومته الفاشية سياسة استعمارية أشد صرامة وبدأت حملة «إعادة فتح الساحل الرابع»، كما كانت تسمى أقاليم طرابلس والبرقة وفزان. هرب السيد إدريس لاحقا إلى المنفى في القاهرة التي كانت تحت الحكم البريطاني. في العام 1934، أطلقت إيطاليا على المستعمرة رسميا اسم ليبيا. وفي العام 1939 أعلنت الحكومة الإيطالية أن ليبيا تُشكِّل جزءا من الأراضي الإيطالية. أغلقت القنصلية الأميركية في طرابلس خلال الحرب العالمية الأولى وأُعيد فتحها العام 1935، ولكنها أغلقت من جديد العام 1937. وفي سبتمبر/ أيلول 1940 بعد مرور سنة واحدة على اجتياح قوات ادولف هتلر لبولونيا واندلاع الحرب العالمية الثانية، شنَّ موسوليني هجوما على مصر التي كانت تسيطر عليها القوات البريطانية مستخدما القوات الإيطالية المتمركزة في ليبيا. هزم الهجوم البريطاني المضاد الإيطاليين في «عملية كومباس» ما أجبر هتلر على إرسال الجنرال ايروين رومل و«فيلق إفريقيا» الألماني لتعزيز القوات الإيطالية. خلال معركة العلمين الثانية (أكتوبر/ تشرين الأول - ديسمبر/ كانون الأول 1942)، قاد الجنرال البريطاني برنارد مونتغمري القوات الحليفة وهزم رومل وفيلق إفريقيا. بحلول أول العام 1943، طُردت القوات النازية من ليبيا ووُضعت ليبيا تحت الإدارة البريطانية والفرنسية العسكرية. أنشأ سلاح الجو الأميركي قواعدا لقاذفات القنابل حول بنغازي. كان يتم تنفيذ غالبية مهمات الفرقة التاسعة للقاذفات ضد أهداف في إيطاليا، ولكن في الأول من أغسطس/ آب 1943، نفذت هذه الفرقة غارة كانت نتائجها مكلفة على مصافي النفط التابعة لقوات المحور في بلوستي، برومانيا.

أدّت الفترة التي تلت الحرب مباشرة إلى استقلال ليبيا وإقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة. وكجزء من تسوية السلام، تخلت إيطاليا عن مستعمراتها في إفريقيا. وبعد انتهاء الحرب، في يونيو/ حزيران 1947، أنشأت الولايات المتحدة قاعدة جوية، سميت فيما بعد بمطار ويلوس، القريب من طرابلس. في 21 اكتوبر العام 1949، صوتت الجمعية العمومية للأمم المتحدة على منح ليبيا استقلالها بحلول الأول من يناير 1952. ومع اقتراب حصول ليبيا على استقلالها، أعادت الولايات المتحدة فتح قنصليتها في طرابلس العام 1948، وفي نوفمبر 1950، أعلنت الولايات المتحدة أن ليبيا ستتلقى مساعدة فنية، بموجب برنامج النقطة الرابعة الذي أعلنه الرئيس ترومان.

أدّى اكتشاف النفط في ليبيا العام 1959 إلى تحول ديناميات العلاقات الأميركية - الليبية بصورة دراماتيكية، على رغم أن ذلك لم يكن واضحا في البداية. وبحلول العام 1961، كانت هناك 10 حقول تنتج نفطا للتصدير، وبحلول العام 1965 أصبحت ليبيا سادس أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم. أنهت الولايات المتحدة برنامج مساعداتها الاقتصادية، وفي العام 1964، وخلال مفاوضات بشأن مستقبل القواعد العسكرية الأميركية والبريطانية في ليبيا وافقت الولايات المتحدة مبدئيا على التخلي عن مطار ويلوس. خلال حرب الستة أيام العام 1967 لم تقطع ليبيا علاقاتها مع الولايات المتحدة، ولكن أعمال الشغب أدت إلى إخلاء أكثر من 7 آلاف جندي أميركي وغيرهم من المواطنين الأجانب من ليبيا.

في الأول من سبتمبر/ أيلول 1969، قامت مجموعة من ضباط الجيش الليبي، أطلقت على نفسها اسم مجلس قيادة الثورة، بخلع الملك إدريس وبدأت العلاقات الأميركية الليبية بالتعكر. اعترفت الولايات المتحدة بالحكومة الجديدة ولكن التطمينات الأولية التي أصدرها مجلس قيادة الثورة بأنه سيتم احترام البعثات الأجنبية والالتزام بالمعاهدات القائمة لم تعش طويلا بعد أن برز العقيد معمر القذافي كقائد لمجلس قيادة الثورة. سارع القذافي إلى الدعوة «لتصفية» القواعد العسكرية الأميركية والبريطانية في ليبيا وطلب في 19 أكتوبر من ذلك العام بإخلاء مطار ويلوس. اكتملت عملية الإخلاء في يوليو 1970. بدأ القذافي بتأميم غالبية الأسهم لشركات النفط الأجنبية والتفاوض بشأن زيادة أسعار النفط. خلال خطاب ألقاه في العام 1972، حثّ القذافي المسلمين على محاربة الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وأعلن عن دعمه للثوار السود في الولايات المتحدة، وللثوار في إيرلندا، والعرب الراغبين في الانضمام إلى الكفاح من أجل تحرير فلسطين. انسحب السفير الأميركي جوزيف بالمر جونيور وزميله البريطاني من الحفل احتجاجا على هذا الخطاب. سمح القذافي بأن يدفن في ليبيا خمسة من أعضاء مجموعة أيلول الأسود الذين قتلوا خلال عملية خطف وقتل الفريق الأولمبي الإسرائيلي في ميونيخ.

وعندما أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون تقديم مساعدات بقيمة 2.2 مليار دولار إلى «إسرائيل» خلال الحرب العربية الإسرائيلية العام 1973، فرض القذافي حظرا على كل صادرات النفط إلى الولايات المتحدة وهو العمل الذي تبعته في اليوم التالي المملكة السعودية وغيرها من الدول العربية المنتجة للنفط بادئا بذلك فترة حظر صادرات النفط التي دامت بين 1973 و1974.

شكلت السيطرة الإيرانية على السفارة الأميركية في طهران في العام 1979 وأزمة الرهائن التي تلتها بمثابة نقطة تحول في العلاقات الأميركية - الليبية حيث أدت في النهاية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين.

ازدادت حدة العداء في العلاقات الأميركية الليبية في ظل إدارة رونالد ريغان بسبب مزاعم دعم القذافي للإرهاب. فأمرت الولايات المتحدة ليبيا بغلق مكتب الشعب في واشنطن مشيرة إلى الدعم الليبي للإرهاب الدولي، و«عدم احترام قواعد السلوك الدولية».

وتأزمت العلاقات أكثر إلى درجة شن هجمات وغارات جوية على مصالح الدولتين في الثمانينيات.

بعد سقوط الرئيس العراقي صدام حسين 200، قامت ليبيا بجهود ذات شأن لإعادة الاندماج في المجتمع الدولي. ومع تخلي ليبيا عن دعم الإرهاب، وقبول مسئوليتها في تفجير طائرة بان أميركان، وموافقتها على دفع تعويضات لعائلات ضحايا تفجير الطائرة، انتقلت العلاقات الأميركية الليبية بسرعة باتجاه التطبيع.

العدد 2206 - الجمعة 19 سبتمبر 2008م الموافق 18 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً