العدد 2206 - الجمعة 19 سبتمبر 2008م الموافق 18 رمضان 1429هـ

سيارة جديدة!

استغرب بعض الأصدقاء من إقدامي على شراء سيارة جديدة معتبرينها خطوة متهورة او لا مسئولة. إذ انني كما يعرفون مبتلى بقرض آخر ينهش الراتب نهشا ولا يترك منه سوى بعض الفتات. وقد ألمح بعضهم في طيات حديثه إلى انني أريد أن «أكشخ» بالسيارة بغض النظر عما سأعانيه من ضيق وتقشف مفروض وأزمة متواصلة.

أنا أيضا كنت قبل ذلك انظر هذه النظرة لأولئك الذين يشتكون من عدم القدرة على دفع فاتورة كهرباء او إيجار ولكنهم يركبون سيارات آخر موديل. وكنت اردد بغفلة ان هذه المظاهر لا تهمّني وانها شكليات لا يتتبعها الا الفارغون والمتطفّلون على الرفاهية الزائفة، على رغم ان امي كانت تردد حكمة تقول «زر صاحبك وأنت جائع ولا تزره وأنت عارٍ... فهو سيلاحظ عريك لكنه لن يعرف عن جوعك».

غير انني وجدت أن الفرد لا يمكن له ان يستقل بمبدأ او اعتقاد و يطبّقه بمعزل عن المجتمع فالناس لا تترك احدا في حاله ان لم يواجهوك علنا بما يشعرون. عاملوك بما يمكن ان تفهم حجم استنكارهم وموقفهم من مبدئك.

الوعي المجتمعي الذي يردده كتابنا هو وهم وأكذوبة لا يصمد امام واقع. المجتمع هو الذي يضطرك لأن تغيّر قناعاتك (السليمة والصحيحة) ويجبرك على التماهي مع العرف والتقليد والايمان به مهما كان خاطئا ومكلفا، بحيث ان بقيت على صمودك وممانعتك اعتبروك واهما حالما تقتات الفلسفة الجوفاء.

عندما كنت اقود تلك السيارة التي كانت عبارة عن توليفة مشوهة من عدة موديلات: فالمحرك له طراز وناقل الحركة له طراز آخر والكاربيتر من طراز ثالث... وهكذا، بحيث لم يبق من الموديل الأصلي سوى شعار الشركة الذي تم انتزاعه وسرقته قبل فترة، عندما كنت اقودها كنت اشعر انني محط انظار الكثيرين وهو ليس إعجاب بالطبع وانما انتقاص واحتقار.

من يركب سيارة كتلك فلا بد ان يتعرض في هذا المجتمع لألوان من الاذلال، مثلا عليه ان يجرّب ان يأخذ مسارا في الشارع للخروج من منعطف ليرى نظرات الاشمئزاز والاستنكار من السوّاق، وإذا تجرّأ وفرض نفسه واقتحم الشارع عنوة سمع ابواق السيارات تلاحقه حتى يصل بيته، وإن توقف بسيارته امام احد المحلات الكبيرة خرج له صاحب المحل يأمره بإبعاد الدابة التي تشبه السيارة من امام المحل، وإن ذهب لفحصها السنوي، سيتم إدخالها لغرفة الإنعاش وللفحص بالرنين المغناطيسي وايجاد الف علة بها لا شفاء لها، وإن فكّر بتأمينها سيرى ابتسامة ساخرة متهكمة من موظف شركة التأمين عندما يلاحظ طراز السيارة وان صادف وحوصر في منطقة بها اضطرابات أمنية فياويله من التفتيش والاهانات والصراخ، بل حتى المتسوّل الذي يتنقّل بين السيارات عند اشتغال الاشارة الحمراء فإنه يتجاهلك فلا يمر عليك طالبا شيئا منك، اما شفقة لحالك او خوفا ان تطلب أنت منه شيئا، وهي الحسنة الوحيدة للسيارة. أما آخر تلك المضحكات المبكيات انه قبل ايام وفي زحمة الشوارع واكتظاظ السيارات فان احد رجال المرور ترك جميع السيارات قديمها وحديثها كبيرها وصغيرها ليتوجه لي انا (دون خلق الله) ليأمرني بربط حزام السلامة.

أما اليوم وانت تقود سيارة آخر موديل بلونها الزاهي وشكلها الأنيق، حتى وان كنت لا تملك في جيبك ما تملأ به خزان الوقود الا انك محترم اينما حللت، تجد الجميع يرحب بك فما ان تتوقف عند محل حتى يهرع لك البائع سائلا عن حاجتك او ملبيا (لهرن) السيارة العذب، ويسمح لك السواق بالعبور والمرور والتجاوز برحابة ورضا، ويتغاضى رجل المرور عن حزام السلامة وربما راعاك في المخالفات، ولو انقلبت الأرض سافلها على عاليها وانت في قرية بها مصادمات وأعمال شغب فستخرج (كالشعرة من العجين) لن يوقفك احد بل ربما ودّعوك بابتسامة!

لهذا كله ولأشياء أخرى (أخاف من ذكرها) يتحمّل مثلنا القروض والضنك والتضييق على نفسه واسرته من اجل ان يكون ذا قيمة ومنزلة لدى الناس.

الأمر لا يتوقف طبعا على السيارة فقط، فهي تبدأ من قيمة ونوعية اللباس مرورا بنوع العطر والهاتف النقّال واخير بالمنزل الذي تسكنه، لكل ذلك ميزان ومقياس لدى المجتمع لذلك فهم يضطرونك للجري وراء المال والتظاهر بما لست فيه ولا بحقيقتك حتى تجاريهم او تتفوق عليهم لتضمن احترامهم وتقديرهم أو على الأقل تتجنب أذاهم وقسوتهم أينما حللت.

جابر علي

العدد 2206 - الجمعة 19 سبتمبر 2008م الموافق 18 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً