العدد 2148 - الأربعاء 23 يوليو 2008م الموافق 19 رجب 1429هـ

ما بعد الحداثة هي لحظة نسيان الأسماء التي علّمها الإله لآدم

انتهى الناقد الثقافي علي الديري في أمسية حوارية موضوعها «ما بعد الحداثة» استضافها مقر «أسرة الأدباء والكتّاب» البحريني مساء الاثنين الماضي، إلى أن ما بعد الحداثة هي صورة «حمّالة أوجه وحمالة حطب. وجوه معانيها متعددة، ووجوه تطبيقاتها متعددة، ووجوه تجلياتها متعددة، لذلك هي حمّالة أوجه. وهي حماّلة حطب، في إشارة إلى أم جميل زوجة أبي لهب التي كانت تحمل الحطب وتحرقه أمام بيت النبي، لتهدد الدعوة النبوية التي كانت تبشر بمركز ومعنى جديد للإنسان».

وأضاف «ما بعد الحداثة، أحرقت بحطبها كل المركزيات والثوابت ومعايير تمييز الأشياء والحضورات المتعالية، وأعلنت نهاية الدعوات السماوية والأرضية، من أديان وأيديولوجيات وفلسفات مثالية، حتى صار مفكروها يسمون بمفكري يوم القيامة، فهم لا يكفون عن إعلان النهايات، نهاية الإله ونهاية الإنسان ونهاية العقلانية ونهاية الحداثة ونهاية التاريخ ونهاية المركز. لقد أحرقت ما بعد الحداثة المدلول، لم يعد الدال يحيل إلى مدلول أو يتطابق معه، لقد غدا الدال منفصلا ومستقلا وحرا ومختلفا ومرجأ. وكي نوضح ذلك، علينا أن نتذكر أن العلامة تتكون من ثلاثة مكونات: الدال (الكلمة) والمدلول (المعنى) والمرجع (الواقع)».

وأشار الديري إلى ما ذهب إليه سوسير في «أن نظام اللغة يتكون من علامات، والدوال علاقتها بالمدلولات اعتباطية. فالكتاب (دال) اعتباطي، ليست هناك علاقة سببية أو طبيعية تجعلنا نطلق هذه الكلمة على الكتاب، وكان يمكن أن نسميه قلما، هكذا تتكون اللغة من دوال مختلفة كي تستحضر مدلولات مختلفة. وهي بهذه الطريقة تستحضر الأشياء التي في الواقع (المرجع)». مضيفا «الدوال ليست مرتبطة بهذه الأشياء في الواقع ارتباطا سببيا وهي ليست موقوفة على الواقع، لذلك الدوال في حل من هذه الأشياء التي في الخارج، ويمكن لهذه الدوال أن تقيم بين بعضها بعضا علاقات متحررة من أي مرجع خارج اللغة. من هذه العلاقات يمكنها أن تنشئ واقعا جديدا، تسميه بطريقتها التي تريدها وترغب فيها، من غير أن تستند إلى شيء خارجها (إله، عقل، واقع، ثابت، مركز، مرجع) يعطيها المشروعية. سوسير محا فكرة الشيء (المرجع) وأحل محله فكرة العلاقات. والعلاقات ليست لها مركز واضح، إنها مجرد روابط اختلافية. هناك مسافة بين الدال والمدلول، تأخذ شكل ثغرة أو هيمنة أو عمل تحكمي».

واستعرض الديري قراءة الراحل عبدالوهاب المسيري لـ «ما بعد الحداثة»، مشيرا إلى أن «هناك مجموعة من الثنائيات الأساسية: الإنتاج مقابل الاستهلاك، المنفعة البرانية مقابل اللذة الجسدية، التحكم والإرجاء مقابل الانفلات والإشباع المباشر، التراكم مقابل التبديد والإنفاق، الدولة مقابل السوق». معتبرا «الطرف الأول من الثنائية (الإنتاج والمنفعة والتحكم والإرجاء والتراكم والدولة) يفترض وجود مركز للكون (إنساني أو طبيعي). حين يسود هذا الطرف من الثنائية فإننا ندخل عالم الحداثة.

أما الطرف الثاني من الثنائية (الاستهلاك واللذة والانفلات والإشباع المباشر والتبديد والسوق) فيفترض انعدام الحدود وغياب المركز. ومن ثم تتساوى كل الأشياء، وهذا هو عالم ما بعد الحداثة السائلة».

وأضاف «على مستوى الإبداع، لم يعد الأدب خاضعا لتقاليد تسبقه أو شعرية تحدد معاييره أو ملتزما بأيديولوجيا يتطابق معها، لم يعد ملتزما حتى بالمتلقي، هو يمثل نفسه، هو لا يدل على شيء خارجه. والخطاب السياسي كذلك ليس محكوما بمنظومة عقلانية أو حقوقية أو إنسانية، كما بشّر بذلك عصر الأنوار، حتى عقلانية عصر الأنوار لم تعد مرجعية».

كما استعرض الديري ما وصفه بأكثر المجازات دلالة على ما بعد الحداثة، وهو «مجاز الجذمور Rhizome، الجذمور ساق أرضية تشبه الجذر أحيانا. يكون الجذمور أفقيا وفي مستوى الأرض نفسه تقريبا مثل جذمور السوسن أو أعمق بكثير مثل جذمور اللبلاب أو البطاطس».

يقول «يشير هذا المجاز عند دولوز (كما يخبرنا أنور مغيث، في بحثه سياسات الرغبة دراسة فلسفة دولوز السياسية) إلى ضرورة التخلص من نزعة البحث عن الجذور أو العودة إلى الأصول أو لحظة الميلاد الأولى (الجذر – البذرة)، وكذلك يشير إلى التخلص من الولع بالوصول إلى النهايات وتحقيق الغايات (الثمرة – البذرة) ولهذا كانت حملته على ولع هيدجر ببواكير الفكر اليوناني وفي الوقت نفسه حملته على تبني الفلاسفة الفرنسيين للمقولة الهيجيلية بشأن نهاية الفلسفة. والجذمور أيضا تلخيص لشعاره: فلنبدأ من الوسط. ويتميز الجذمور عن الشجرة وعن البذرة وعن الجذر في أنه يحقق ثلاثة شروط أساسية وهي: الاتصال والغيرية والتعددية التي لا تميل إلى أصل يجمعها. ويرى دولوز أن اللغات كلها قد تكونت طبقا لهذه الآلية. عندما نتصور الفكر مع صورة الجذمور فإن هذه الصورة تكسب الفكر ديناميكية وقدرة على التوليد».

واختتم الديري قراءته للجذمور بملاحظته «وتتبدى الملامح السياسية لفكرة الجذمور في هذا النداء الذي يوجهه دولوز إلى كل الطامحين إلى تحرير رغباتهم: «كونوا جذامير ولا تكونوا جذورا، الشجرة نسب أما الجذمور فهو خلف، الشجرة تفرض فعل الكينونة بين الموضوع والمحمول، أما الجذمور فيفترض حرف العطف. لا داعي للبدء في شيء أو الانتهاء منه، فقط يحسن الخروج والدخول. إن الوسط ليس نقطة بين طرفيه، ولكنه اتجاه عمودي وحركة اختراقية تأخذ الطرفين في غمارها».

العدد 2148 - الأربعاء 23 يوليو 2008م الموافق 19 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً