العدد 2155 - الأربعاء 30 يوليو 2008م الموافق 26 رجب 1429هـ

الرويعي ورمضان يغوصان في آلام الصراع مع السرطان

في الحينونة الأخيرة التي ينبض فيها الجسد بالحياة، بعد أن تسرب المصل من الأدران إليه، وبدأ ينهش فيه نهشا، ويضعف فيه حتى عجز عن حمل نفسه، وبات ميتا كأوراق شجر الخريف، التي تنتظر هبوب رياح الموت لتقتلعها من فوق أغصانها، تعود بنا الذكريات، ويعود بنا الخيال إلى اللحظة الأولى، حينما كان الأمل في المصل!

دوامة لولبية مفتوحة من كلا طرفيها، تبدأها حينما تدخل دورة العلاج الكيميائي لعلاج الأدران السرطانية التي بدأت تبرز في ثنايا الجسد، وتدور معها إلى حيث المصير، ويرافقك المصل طوال ذلك المشوار، إلى حين أن يرافقك إلى آخر نقاط الدوامة اللولبية.

عمل فني متميز قاده المخرج المبدع خالد الرويعي، وهو «درب المصل» الذي قدمه مسرح الصواري على خشبة الصالة الثقافية، وبدأ عرضه في 28 يوليو/ تموز، إذ النص للسينارسيت والأديب البحريني فريد رمضان، أداه على الخشبة الممثلتين دارين الشيخ وبروين.

المسرحية تحاول من خلال شخصيتين نسائيتين المقاربة من مرض سرطان الثدي، عبر إظهار حجم المعاناة التي تواجهها المرأة وتعاني منها طوال حياتها. وعليه فإن هذا النص/ العرض المسرحي يحاول أن يقدم حالة لمرأة فقدت حياتها بسبب هذا المرض، ولكنها تنهض من موتها، لتسرد لنا معاناتها، ومشاعرها، وآلامها، وصراعها على المستوى النفسي والجسدي، وفي فهم علاقتها الخاصة بذاتها كامرأة وزوجة مصابة بهذا المرض الخطير، وفي محاولة الطب التغلب عليه ولكن دون جدوى.

العرض المسرحي وهو يسعى لسرد حكاية نساء نزيلات في جناح الأورام الخبيثة، يستعرض جدلية الصراع مع مرض يتم تشبيهه بالأعشاب الضارة التي تنبت داخل أجسادهن، وتبدأ في عملية الهدم، لمخلوقات أبدع الله في خلقها فشوهها هذا المرض. وعبر هاتين الشخصيتين النسائيتين يتم تبادل الأدوار لنكتشف الظروف النفسية الخاصة والمعقدة التي تهدد جوانب عدة من حياتهما وكينونتهما، وأن تعرضهما لسرطان الثدي يولد إحساسا قويا بتعرضهما لتشويه لجمالهما، ناهيك عن تشويه إحساسهما الذاتي، ونظرة المجتمع تجاههما، ما ينعكس على رؤيتهما لحياتهما من امرأتين مكتملتي النضج إلى امرأتين ناقصتين انتهى دورهما في الحياة.

والعرض لا يقدم حلولا لهذه المشكلة، بل يظهرها كما هي بقسوة ومرارة، ذلك أن الحل ببساطة في يد الطب الذي يسعى عبر تطوره لتخفيف هذا العذاب، أو القضاء عليه.

وقد وظف مخرج العرض الرويعي سينوغرافيا متميزة أبدعها من خلال وضع المشاهدين على الخشبة إلى جانب الممثلين، في رمزية متميزة لوجوب معايشة الناس آلام المرضى والمصابين بهذه الأمراض، إلى جانب الاستغلال المثالي للمساحة والإضاءة والديكور الذي كان مستغلا لكي يملأ يوازي الفراغات ببساطة استخدام بضع قطع.

كما كان أداء الممثلتين راقيا، ويبدو من خلاله جهود المخرج الذي لعب دورا كبيرا في التحكم بالتحركات والإيماءات اليدوية، إلى جانب قوة الصوت لدى الممثلتين، والاحتراف في أداء النص المتميز الذي كتبه فريد رمضان، وعلق عليه في دفتر المسرحية:

كلما داريت وجهي عن الألم طالعني من باب آخر، من نافذة أخرى، من شق صغير في جدار ما، فأقف أمامه في رهبة وجزع، عاجز وأسير.

حيرتي أني لا أعرف إن كنت أتألم، أو كنت في ألم. هل دخلت إليه، أم تسلل إلى جسدي؟ الألم هو ذلك المصل الذي يشق دربه في أوردتنا، وفي شراييننا جميعا، لا نستطيع أن نصده، لأن دربه سالك، مثل النهر الذاهب بانصياع نحو جهة انتحاره المنتظرة. إذا ليغفر لي هذا المصل كوني تجرأت عليه بالسؤال، السؤال الذي لن أجد له أجوبة أبدا.

وأضاف «من هنا وجدت في كتابة هذا النص المسرحي (درب المصل) تجربة تحاكي ألم النساء العظيمات والبسيطات، وهن يصارعن مرضا يفتك بأجسادهن، مثلما يفتك بالجل العظماء والبسطاء أيضا. أن أقترب منهن، ضمن خصوصية، ربما تبدو في عالمنا الشرقية محظورة، ولا يسمح بالحديث عنها كأنها شأن أنثوي. كيف تتحدث عن سرطان الثدي عند النساء في عمل مسرحي، يتطلب تنفيذه اتصالا مباشرا بين الممثلات وبين جمهور مختلف الفكر والتفكير. كيف ستصل إلى منطقة عميقة ربما ستفشل في الوصل إليها لكونك رجلا لم يختبر حجم هذا الألم؟ أن تفقد امرأة ثديها بسبب مرض يفتك بأنوثتها، وإحساسها، ويجرح جمالها، ويهشم غيمتها المسافرة بالأمومة».

وكان في كلمة المخرج خالد الرويعي أن قال «في هذه التجربة مع الصديق فريد رمضان أزعم أن حسّنا المشترك جمعنا بشكل غريب، كل منا يفتش في الذاكرة وفي المخيلة والألم، كل منا ينظر إلى الصور والمرايا والحياة، ولكن هذا الحس المشترك اربكنا وارتكبنا على حين غرة».

«مرت سنوات على هذه التجربة، وكان كل منا يمشي، ولكن عن يمينه الألم، وعن شماله تجارب السرطان المريعة، ولكن ماذا يعني أن تقدم هذه التجربة أمام عيون الناس ومشاعرهم، بل بعضهم من فقد عزيزا عليه فمضى في زحام الألم واليأس وجرعات الانتظار التي لا تنتهي».

العدد 2155 - الأربعاء 30 يوليو 2008م الموافق 26 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً