العدد 2162 - الأربعاء 06 أغسطس 2008م الموافق 03 شعبان 1429هـ

حين ينقلب الخير والشر في صراع «الوطواط» مع «المهرج»

فيلم «بات مان» الذي يعرض حاليا في سينما السيف تحت عنوان «فارس الليل» يؤكد من جديد أن المخرج الجيد يستطيع أن يعيد إنتاج فكرة استهلكت سينمائيا وتلفزيونيا خلال 40 سنة من التكرار الممل.

الفكرة ليست جديدة. فالشخصية (الرجل الوطواط) بدأت بالظهور في في مجلات أسبوعية اعتمدت الصور المتحركة لتسلية الأطفال في فترة لم تكن الشاشة المرئية قد اخترعت ودخلت البيوت واقتحمت المنازل والأسر. وحين ظهر التلفزيون انتقلت شخصية «الرجل الوطواط» من مجلات الصور المتحركة إلى مسلسل طويل يعرض على حلقات. بعدها أعيد إنتاج الشخصية في أفلام سينمائية لعب دورها الكثير من الممثلين الكبار. فالفكرة استهلكت تجاريا وتحولت إلى مادة معروفة لا تستدعي انتباه المشاهد نظرا لتكرار الموضوع وعدم وجود مخيلة تعطيه تلك الدفعة الإضافية لتبرير إعادة إنتاج شخصية أصبحت مفهومة ومعروفة للجميع.

ذكاء المخرج وكاتب السيناريو يبدأ من هنا. أي كيف يستطيع أن يعيد رسم شخصية وتقديمها بحرفية عالية وتقنية متقدمة وأسلوب شيق يقنع المشاهد بها من دون السقوط في فخ الضجر وقلة الاهتمام؟ وهذا ما استطاع المخرج أن يفعله حين غامر باستخدام شخصية نمطية في قدراتها وإمكاناتها فأعاد تأسيسها من جديد وفق سياق أعطى رمزية فلسفية لفكرة الصراع بين الخير والشر والنزاع بين الطرفين من دون قدرة أحدهما على تحقيق انتصار كلي أو هزيمة نهائية للآخر. فالخير أقوى وهو الغالب وهو المنتصر ولكن الشر لا يختفي ولا يموت وإنما سيعاود ظهوره في أطر مختلفة لأن قوانين الحياة اقتضت وجود مثل هذه الحكمة.

نجاح المخرج في تحويل «الرجل الوطواط» من مشاهد مغامرة إلى فكرة فلسفية تعتمد السرعة والبساطة وتعطي الموضوع أبعاده الإنسانية أدى إلى نجاح الفيلم الذي اكتسح الأسواق وسجل أعلى نسبة من الدخل منذ الإعلان عن نزوله.

أهم الشخصيات في الفيلم هو تلك القوة الغاشمة التي تواجه «الرجل الوطواط». وتلك القوة السلبية التي تنافس الممثلون على لعبها تشكل الطرف النقيض للخير لأنها تحتل الموقع الثاني في معادلة الصراع. الشرير في السيناريو هو «الجوكر». والجوكر هو «المهرج» الذي يمتاز بالمهارة على الغش والتلاعب والطمع والسرقة والقتل وانتهاك الخصوصيات وعدم التورع في ارتكاب التجاوزات بشرط أن تشكل تلك الشخصية المضادة للرجل الوطواط في إطار التنازع على الهيمنة.

«المهرج» عادة هو الشخص البهلواني الذي يضحك الأطفال في السيرك. وهذه الميزة (القدرة على إضحاك الناس) تحتاج إلى مهارة في تحريك المشاعر والتلاعب بها وتوظيف الحاجة إلى الضحك في إطار مسرحي لطيف يداعب المخيلة ويطلق أصوات القهقهة. لذلك يلجأ مهرج السيرك إلى ارتداء ملابس غريبة ويخفي ملامحه بالقناع أو يستخدم الألوان التي تغير ملامح الوجه وتزينها حتى تحرف أنظار الناس عن شخصية الممثل.

في فيلم «الوطواط» وجه المهرج حقيقي. والتشويه جاء بسبب حادث تعذيب تعرض له في الطفولة. ومن تحت ضغط الآلام والأوجاع تولدت شخصية مهرج حاقد يكره العالم ويطمح إلى سحقه وإذلاله كما حصل معه في طفولته.

نجاح المخرج في تكوين شخصية منحرفة خلقيا اعتمادا على فكرة «المهرج» التي لعبها كبار الممثلين في هوليوود أعطت قوة دفع زادت من زخم السيناريو ورفعت من قيمة الفيلم في اعتبار أن الفكرة أعيد إنتاجها لتنتقل من صورة مضحكة تقتل لتعيش إلى صورة مخيفة تقتل لمجرد حب القتل وتلبية للحاجة التي تأسست على غريزة متوارثة وتربية غير متناهية في قساوتها وظلمها.

البطل إذا في الفيلم ليس الخير فقط (الوطواط) وإنما يوازيه على السوية نفسها الشر أيضا (المهرج). وتقاسم البطولة بين «الوطواط» و «المهرج» أعطى حيوية غير متوقعة لسيناريو استهلك مئات المرات في العقود الأربعة الأخيرة.

قصة الفيلم معروفة وشخصياته مشهورة وموضوعه ليس جديدا. الجديد هو تقاسم البطولة بين «الخير» و«الشر». فالأول لا يستطيع الاستمرار من دون الأخير وفي الآن لا يمتلك القدرة على القضاء عليه نهائيا وإخراجه من المشهد (المدينة). والثاني يحتاج للأول ولا يريد كسره نهائيا بل يطمح إلى تطويعه وإذلاله وتشويه سمعته حتى يؤكد نظرية أن لا خير في الإنسان وإذا وُجد فهو الأضعف في معادلة القوة.

هذه الفكرة الفلسفية نجح المخرج في إعادة تركيبها في سياق سردي اعتمد المغامرة التي تشد المشاهد من دون أن تخرجه عن متابعة الكلام الذي أراد قوله. فالمخرج أراد توجيه رسالة للعالم أو للإدارة الأميركية أو لكل سلطة تملك الصلاحيات والإمكانات... والرسالة هي أن الأخيار هم الأقوى في النهاية ولكن الأشرار ضرورة أو على الأقل لابد منهم أو... إن وجودهم لا يمكن إزالته ومسحه من الكون نهائيا.

هناك الكثير من المشاهد التي يتقابل فيها الوطواط مع المهرج في أوضاع متناقضة. فمرة يكون «الخير» في موقع الأقوى ولكنه يفرج عن «الشر» لدوافع إنسانية. ومرة يكون «الشر» في موقع الأقوى ولكنه لا يبالغ في جبروته حتى لا تنتهي اللعبة وتنهار المعادلة.

المعادلة ليست متعادلة في النهاية لأن التوازن يرجح دائما الخير على الشر. وأحيانا - وهذه نقطة مهمة جاءت في اللقطات الأخيرة من الفيلم - يستطيع الشر قلب الصورة وتوريط الخير في شركه وتشويه سمعته وتحويله إلى قوة مطاردة ومطلوبة من العدالة. وهذا ما نجح «المهرج» في تحقيقه حين أدار اللعبة وقلب المعادلة ودفع العدالة إلى ملاحقة «الوطواط».

العدد 2162 - الأربعاء 06 أغسطس 2008م الموافق 03 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً