العدد 2183 - الأربعاء 27 أغسطس 2008م الموافق 24 شعبان 1429هـ

أسطورة تخاطب رغبة الإنسان بالعودة إلى زمن آخر

تصادف عرض الجزء الثالث من فيلم «المومياء» مع افتتاح دورة بكين الأولمبية. والمصادفة كما يقال «خير من ميعاد»؛ لأنها عقدت مقاربة بين أسطورة وحضارة تولد من جديد. حفل افتتاح ثم اختتام الدورة الأولمبية الرياضية أذهل العالم، وسيبقى الحفل حديث الإعلام بسبب تلك العروض المدهشة التي قدمتها الفرق الصينية في المناسبة. إذ كانت العروض أشبه باستعراض قوة لحضارة تعود من جديد لتلعب دورها في عالم معاصر ومغاير عن ظروف الأسطورة.

التنين هو أسطورة الصين، وهذا الوحش ليس موجودا وإنما من ابتكار مخيلة الإنسان. هذا الوحش يتمتع بمزايا وقدرات خارقة، ووظيفته - بحسب المعتقد الصيني - حماية البشر من الشر. فالوحش جميل في نظرتهم إليه، وهي نظرة تتعارض مع رؤية الحضارات الأخرى التي ترى في التنين رمزا للشر وقوة حارقة للبشر.

الصين أخذت الآن تجدد نفسها في سياق معاصر يربط الحاضر بالماضي، ويعيد توظيف الأسطورة في إطار حديث يطابق حاجات إنسان يطمح نحو التقدم، ولا يريد قطع تلك الجسور مع حضارة كان لها دورها في تقدم الإنسانية.

شريط «المومياء» السينمائي تصادف نزوله إلى السوق مع الحادث الرياضي الأولمبي، وهو يتناول في الجزء الثالث من السلسلة أسطورة «إمبراطور» عنيف وقوي ساهم في توحيد ممالك الصين ودمج مقاطعاتها في دولة مركزية واحدة يقودها رجل واحد. فالإمبراطور في هذا المعنى هو التنين الذي تفوق على كل الخصوم وقضى على مقاطعاتهم وممالكهم وأدخلهم بالقوة إلى دائرة نفوذه وفرض عليهم سطوته وجبروته.

الأسطورة ليست هنا وإنما تكمن في طمع «الإمبراطور» وطموحه نحو الخلود والانتصار على الموت. فهو أراد أن يكسب الحياة الخالدة من خلال القفز على الفناء. بسبب هذا الطمع كلف رجاله الاتصال بساحرة تمتلك ذاك الإكسير (الدواء) الذي يجدد الشباب ويطرد الموت. وجاءت الساحرة (الجميلة) إلى قصره لتمده بعناصر القوة التي تضمن الخلود، وتحتوي على مواد يتألف منها الوجود هي: الماء والتراب والهواء والنار.

طمع «الإمبراطور» أوقعه في شباك الساحرة. فهي جميلة وخالدة وأراد الزواج منها على رغم أنها أعجبت بأحد قادة جيشه. ولأنه طامح ويريد الاستحواذ على كل شيء فقد قرر قتل «الجنرال» والزواج منها عنوة. وحين أقدم على فعلته انقلب السحر عليه فأصيب بالجمود هو وجيشه ومملكته، وعادت الساحرة (الجميلة) إلى مكانها، لتولد فتاة على نمطها من ذاك «الجنرال» المقتول.

هذه هي أسطورة «ضريح الإمبراطور التنين»، ولكنها حكاية مفتوحة على الزمن الصيني الحديث. فالأسطورة قديمة ويمكن إعادة قراءة عناصرها الخرافية في ضوء تحولات العصر، وتحديدا حين كانت الصين تعاني من الاضطرابات السياسية في منتصف القرن الماضي. آنذاك كانت الصين حائرة في خياراتها، ولم تعقد العزم على حسم أمرها وتقرير الخطوة التي تريد اتخاذها بين ماضٍ زاهر ومستقبل واعد.

حوادث الفيلم تحصل في أربعينيات القرن الماضي وهي تبدأ من خلال اكتشافات أثرية توصلت بعثة تنقيب بريطانية إلى تحقيقها. فالحفريات كانت تحصل في تلك المنطقة التي أصيبت بنكبة إثر دعاء الساحرة على إمبراطور الدولة المركزية انتقاما لقتله حبيبها الجنرال.

البعثة توصلت إلى كنز لا يقدر بثمن، وكشفت دهاليز وقصورا ومعسكرات تحتوي على مئات بل آلاف المومياءات من تلك الفترة. والمفاجأة في بعثة التنقيب أنها كانت تضم تلك الفتاة الخالدة (ابنة الساحرة والجنرال) التي عزمت على الانتقام لوالدتها من الإمبراطور التنين بسبب حرمانها من حبها الوحيد.

لقاء الماضي بالحاضر يبدأ من هذه النقطة، فالفتاة خالدة وهي تعمل في بعثة التنقيب لسبب خاص بها. والبعثة تضم مجموعة خبراء بينهم ذاك الشاب وهو ابن عائلة تمتهن التنقيب، ولها تجربة غنية بالاكتشافات من خلال عملها في مصر.

أسطورة عالمية

الربط الذي نجح سيناريو الفيلم في عقده بين فترتين وعصرين تأسس على مشاهد تصويرية مثيرة تحصل في شوارع شانغهاي في أربعينيات القرن الماضي. فالمسرح الجغرافي الذي امتد من مصر إلى الصين اعتمد أسطورة «المومياء» وما تعنيه من رموز فلسفية تتحدث عن الحياة والموت (البداية والنهاية) والخلود والفناء. فالمومياء فكرة واحدة تتشارك الحضارات رمزيا في الاعتقاد بها؛ لأنها تتحدث عن الموت والانبعاث وعدم الاستسلام أو القبول بالحياة لفترة واحدة. وبسبب هذا الربط الرمزي ظهر شريط «المومياء» في سياق ثلاثي متكامل يبدأ في مصر وينتقل إلى الصين.

«المومياء» في هذا الواقع السردي تبدو فلسفة شرقية تضرب جذورها في حضارات قديمة ساهمت في تأسيس الكثير من المفاهيم، وهي لا تزال سارية في لا وعي الناس. فكل حضارة تعتمد على رمز «موميائي» يثير الكثير من الإشارات التي تحاكي رغبة دفينة في الإنسان تطمح نحو الخلود انطلاقا من فكرة العودة أو الانبعاث وتجدد الحياة بعد الفناء.

الفكرة ذكية في تركيزها على الجانب الفلسفي لموضوعة «المومياء». فهذه الأموات - الأحياء تجسد عمليا تلك المعتقدات الراسخة في التاريخ، ولكنها لاتزال في إشاراتها تراود الكثير من المشاعر وتخاطب حاجات الإنسان وطموحه نحو الخلود. كل الحضارات القديمة توجد فيها تلك الأسطورة التي تتحدث عن الموت والانبعاث والعودة مجددا إلى الحياة. وبسبب هذه الفكرة التي تلاشت تاريخيا تأسست ثقافات وعمارات وأهرامات وأسوار ونظريات لتلبية تلك الرؤية التي أكد الزمن عدم صحتها. لا حياة بعد الموت. إلا أن «المومياء» التي ترمز فلسفيا إلى ذاك الطموح الإنساني نحو الخلود أو العودة والانتقال من زمن إلى آخر تشكل تلك المحطة (المشتركة)، وتؤكد مدى عالمية الأسطورة وانتشارها من النيل إلى سور الصين العظيم. فتحت قواعد الأهرامات توجد عشرات الموتى (الأحياء)، وتحت جدار الصين تتكدس الجثث التي دفنت حين كانت تبني ذاك السور العظيم.

«المومياء» إذا ذاك الوسيط بين عالمين ومكانين وحضارتين وزمنين. وهذا ما أظهره الفيلم من خلال استعراض المواجهة بين انبعاث «الإمبراطور» من الموت وعودته إلى الحياة بسبب حاجة الصين إليه ليلعب دوره القديم الجديد في إعادة القوة إلى دولة أصيبت بالفوضى وتقوضت قدراتها ولم تعد قادرة على النهوض مجددا.

شريط «المومياء» لا يتحدث عن الفلسفة وإنما عن صراع الخير مع الشر في عالم معاصر محكوم بالأساطير القديمة. لذلك اقتصرت مشاهده التصويرية على معارك هائلة تحصل على مسرح التاريخ بين انبعاث الإمبراطور في مواجهة عودة الجنرال الذي قررته الساحرة الجميلة مقابل تنازلها عن الخلود. فهذه الساحرة عاشت وحيدة مئات القرون أسيرة حب رجلٍ التقت به مرة في حياتها الطويلة. ومن أجل تلك اللحظة قررت التخلي عن خلودها والعودة إلى الموت لتعيش لحظات الفناء الأبدي مع عشيقها وحبيبها وزوجها.

نهاية الشريط تتوقف عند نقطة انتقام «الجنرال» وهزيمة الإمبراطور المستبد، إلا أن الأسطورة تبقى من خلال فكرة «المومياء» وما تعنيه من إشارات ورموز. وأسطورة التنين ليس بالضرورة أن تتوقف أمام «مومياء»، وإنما يمكن لها أن تتجدد من خلال إعادة إحياء عناصر قوة الأسطورة التي تتشكل منها الحياة. فالحياة فانية والحياة باقية مادامت عناصر الهواء والنار والتراب والماء موجودة. وهذا بالضبط ما بدأت الصين تفعله الآن، فهي تعود مجددا إلى الانبعاث ولعب دورها الحضاري في عالم معاصر.

المصادفة قد تكون جمعت حفل افتتاح واختتام الدورة الرياضية الأولمبية في بكين مع نزول الجزء الثالث من «المومياء» إلى السوق وسينما السيف في البحرين. ولكن المصادفة تعطي إشارة إلى معنى الأسطورة، فالانبعاث موجود ولكنه يتوالد طبيعيا وبعيدا عن فلسفة «المومياء» وخرافاتها.

العدد 2183 - الأربعاء 27 أغسطس 2008م الموافق 24 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً