العدد 2505 - الأربعاء 15 يوليو 2009م الموافق 22 رجب 1430هـ

أصول الطقوس الشعبية وتغيُّر جوهر الميمات

في الحلقات السابقة أجبنا على مجموعة من الأسئلة وبقي أن نجيب على سؤال مهم وهو كيفية تغير جوهر طقس معين (أو ميمة معينة) أثناء انتقالها بين الأجيال؟. هذا سؤال حساس جدا، فلو أخذنا الحضارة التي قامت على أرض البحرين فإن جذورها ضاربة في عمق التاريخ، ممتدة إلى سنوات عديدة قبل الإسلام وقبل الديانة المسيحية وقبل الديانة اليهودية، فهي حضارة عريقة، إذ إن عمق العراقة الحضارية للشعوب يقاس بمسبار من مقومات ثقافاتها الشعبية؛ وأبرزها الموروث التاريخي، والفولكلوري، والأسطوري، ونظرة خاطفة لما تحتفظ به الذاكرة الشعبية للمجتمع البحريني تكشف لنا أجلى الصور عن جذور تلك العراقة وامتداداتها. فقد عبرت هذه العادات والطقوس كل تلك القرون مختبئة داخل ثنايا الذاكرة الفولكلورية، متوارية عن الأديان جميعا، المسيحية، واليهودية، والإسلام، وبقيت معبرة عن ذاتها في إهابٍ فولكلوري بسيط، وتكمن المشكلة في تشابه بعض تلك العادات أو الطقوس أو تلك الميمات التي لازالت تمارس في المجتمع البحريني مع أخرى تمارس في الديانات الأخرى، وبذلك زعم البعض بأن هناك نقلا ثقافيا من تلك الديانات، إلا أن التاريخ يثبت أن تلك الميمات كانت سابقة لكل تلك الديانات، وأفضل ما يقال هنا هي مقدمة السيد عدنان العوامي الذي قدم بها بحثه عن أصول بعض من تلك الطقوس في المجتمع القطيفي حيث قال:

«يعتقد بعض الناس بوجود رابط، أو صلة وثقى، بين ما تمارسه المجتمعات المتحضرة من العادات والتقاليد، وما يؤدى فيها من المواسم الفولكلورية - بتعاليم الدين، وطقوسه وتشريعاته، خصوصا تلك التي تصادف مواسمها زمن المناسبات الدينية، كما هو الحال في الأعياد مثلا. وهو اعتقاد سوف يتضح مبلغ الخطأ فيه قريبا، من خلال ما سنعرضه من العادات والتقاليد والمواسم الفولكلورية السائدة في القطيف، بحثا عن أصالتها وجذورها التاريخية، ولكن قبل الدخول في الموضوع أجدني مضطرّا لتمهيد يسدُّ المنافذ على اللبس، وسوء الفهم، وكذلك على الغرض وإساءة التأويل، فنحن، للحقيقةِ، أمام موضوع شائك، ينطوي على مزالقَ خطيرة إذا ما أسيء فهمه، يستوي في ذلك سوء الفهم البريء العفوي، والمتعمد المقصود، والتأويل المغرض، الذي يراد به الاستغلال والتوظيف لأغراض دنيئة تريد، بالهوى والتعصب، ربط ما يحفل به الفولكلور من رموز ودلالات حضارية بالدين أو العقيدة، وإعطائها الصبغة المذهبية قصدا للإساءة لأصحابها، نفوذا إلى اتهامهم بعدم نقاء معتقداتهم، بدعوى استقائها من مناهل غير إسلامية، وفي ذلك ما فيه من تشويه لحقيقة الفولكلور، وطمس لعراقته الحضارية، وحرف لسمات أصالته، وتحويله إلى فرص تقتنص، وذرائع توظف لاتهامات باطلة غايتها الدس والتجديف. إنَّ مثل هذا التأويل المفتعل لأي أثر أو تقليد قديم ذي جذور تاريخية سابقة على الإسلام؛ بقصد توظيفه دليلا على الشرك وفساد العقيدة؛ لن يُبقيَ مسلما على وجه الأرض بريئا من هذه الوصمة، فمما لا جدال فيه أنَّ كثيرا من العادات والتقاليد، بل والمعتقدات في المجتمعات الإسلامية متصلٌ بثقافات وحضارات سابقة على الإسلام، بعضها بابلية، وسومرية، وآشورية، وكلدانية، وبعضها يهودية، أو مسيحية، ومنها ما هو جار إلى يوم الناس هذا».


نقل المظهر لا الجوهر

الميمات تلك المعلومات المختزنة في عقل الإنسان ليست كالجينات تنتقل بأمانة تامة، ولكن السلوك أو المظهر الذي تؤدي له تلك المعلومات ينتقل بصورة أكثر أمانة من المعلومة نفسها أو بمعنى آخر أن مظهر الميمة ينتقل بأمانة عالية بينما جوهر الميمة فنادرا ما ينقل بأمانة تامة. فالمعلومات في دماغ شخص ما تولد سلوكا، فيحاول شخص آخر أن يستدل على المعلومات المطلوبة ليقوم بالعمل نفسه. وقد يحدث تعطل في النقل الدقيق للأفكار، ذلك أن فروقا في الجينات أو الثقافة أو الخلفية الشخصية للفردين تجعل أحد الشخصين يأتي بافتراضات خاطئة عن الأسباب التي دفعت الشخص الآخر إلى ذلك السلوك. ونتيجة لذلك، فإن الميمات غالبا ما تتحول منهجيا في أثناء عملية النقل. إن هذه الآلية تغاير كليا الانتخاب الطبيعي للميمات، الذي يعتمد على وجود ميمة واحدة تنتشر بسرعة تفوق سرعة الميمات البديلة المنافسة وبذلك تعتبر هذه النقطة كنقد لنظرية الميمات التي تقوم على أساس الانتخاب الطبيعي، فليس كل الميمات خاضعة لقوى الانتخاب. من ناحية أخرى، فإن التحول في جوهر الميمة قد يكسب الناس في جيل من الأجيال ميمة تختلف عن الميمة التي ترسخ في كل فرد من أفراد الجيل السابق. و هذا يعني أن جماعة ما قد تستمر في ممارسة طقس معين غير مرتبط بأي ديانة نقل لها عبر الأجيال بوسائل النقل المختلفة إلا أن جوهر هذا الطقس قد خضع لتغيرات لا نعلمها، وبذلك يضيع معنى الطقس أو الغرض الأساسي الذي أقيم هذا الطقس له في بداية تكوينه، إلا أنه حتى بعد ضياع معنى الطقس وأصله بقيت الناس تمارس مظهر الطقس، وسنرى لاحقا أنه قد يربطون الطقس بأمور مستجدة على الجماعة.


ضياع معنى المسميات وأصل المصطلحات

إن عملية التحول في جوهر الميمة وانتقال مظهرها لا يؤثر فقط على ضياع أصل الميمة أو أصل طقس معين أو عادة معينة لكنه أيضا آلية لإنتاج مصطلحات جديدة ليست لها وجود وضياع أصل وجود مصطلح معين، سنأخذ هنا مثلين على ذلك، الأول قديم والآخر مثل حديث معاصر. فلنبدأ بالمثل القديم وهو في اللغة العربية، فنقول «تورط فلان» أي وقع في مشكلة، وليست الورطة في الأساس هي المشكلة وإنما على ما جاء في كتب اللغة «الوَرْطَةُ: الوَحَلُ والرَّدَغَة تَقَعُ فِيَها الغَنَمُ فَلاَ تَتَخَلَّصُ مِنْهَا، يُقَالُ: تَوَرَّطَتِ الغَنَمُ إِذا وَقَعَتْ في وَرْطَةٍ، ثُمَّ صارَ مَثَلا لِكُلِّ شِدَّةٍ وَقَعَ فِيها الإِنْسَان». وبذلك انتشر معنى جديد لكلمة ورطة بمعنى الشدة والمشكلة التي يقع فيها شخص ما.

في العصر الحديث هناك تحولات أكثر وضوحا فنأخذ معنى كلمة -gate اللاحقة والتي لا معنى لها، لكنها وردت في اسم مجمع مشهور هو Watergate complex الذي ارتبط بفضيحة الرئيس الأميركي نيكسون في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم. و قد أدى وجود مقطع -gate في الاسم باعتقاد البعض أنه يعني فضيحة. وقد وجد ويلكنز (من معهد ماكس پلانك لعلم النفس اللغوي في هولندا) أن الأميركيين الذين تحدروا من أجيال مختلفة تباينوا في فهمهم للكلمات التي تنتهي بالمقطع -gate، فالأشخاص الذين تجاوزوا الأربعين افترضوا أن گيت -gate تدل ضمنا على فضيحة حكومية حدثت في واشنطن، وتنطوي عادة على التورية. أما الأميركيون الأصغر سنا، فقد سمعوا أن گيت -gate تستعمل للدلالة على تشكيلة من الفضائح تحدث في واشنطن. ولكن بسبب معارفهم المحدودة جدا بفضيحة ووترگيت، فإنهم لم يتمكنوا من الكشف عن الطابع العام الذي يميز هذه الكلمات، ومن ثم قدروا أن اللاحقة گيت يمكن إضافتها لأي كلمة لتشير إلى فضيحة ما. لم يصبح المفهوم الخاطئ لمعنى -gate حصريا على الأميركيين، وإنما أصبح العديد يعتقد أن هذا المقطع يعني فضيحة سياسية.

وتجدر الملاحظة هنا أن هذا التحوّل حدث دون تنافس مع ميمات بديلة. إن بإمكان كل ميمة توجد في دماغ أي رب عائلة أن يعين أن اللاحقة گيت تعني فضيحة حكومية مماثلة لووترگيت. ومع ذلك، فبإمكان أي شخص أصغر سنا أن يستنتج من اللاحقة گيت أنها تعني أي فضيحة من الفضائح.

وهذا يعزز أن غالبا ما تتغير الأفكار تغيرا عميقا وعلى نحو منهجي عند انتقالها من شخص إلى آخر، أو من جيل إلى آخر يليه.


النقل الثقافي بين ثقافتين متقاربتين

تحدثنا في الحلقة السابقة على أن هناك نقلا ثقافيا بين الثقافتين المتقاربتين حيث يحدث بينهما احتكاك وهو عبارة عن اتصال بين ثقافتين مختلفتين وهذا الاتصال قد يكون بين أفراد أو مؤسسات ينتج عن هذا الاتصال والعلاقات مايعرف بالاحتكاك أي معرفة كل طرف بالميمات الخاصة بالطرف الآخر بغض النظر عن إعجابه بها من عدمه. و يؤدي الاحتكاك للمثاقفة أي عملية انتقال ظواهر ثقافية معينة بين ثقافتين مختلفتين، وقد تحدث عملية انتشار وهي عملية انتقال الميمات من غير احتكاك مباشر ومستمر. ولكن أثناء عملية النقل تحدث تغيرات للميمات، فقد ينتقل مظهر الميمة دون جوهرها، وذلك ناتج عن الجهل بأصل الميمة كما سبق وأشرنا سابقا، ولكن قد تنتقل الميمة مع علم الجماعة المستقبلة بجوهر الميمة وأصلها، إلا أن جوهر الميمة يتنافى مع معتقدات الجماعة المستقبلة وعليه قررت تغير الجوهر، فهذه الجماعة اقتبست مظهر ميمة ثم ربطت جوهرها بما يتناسب مع معتقداتها وهذا ما يسمى بإعادة التأويل.


مفهوم إعادة التأويل:

هو «العملية التي يتم من خلالها نسبة الدلالات القديمة إلى عناصر جديدة أو التي من خلالها تقوم القيم الجديدة بتغيير الدلالة الثقافية للأشكال القديمة».

وتكمن أهمية مفهوم إعادة التأويل في أنه يوضح مختلف مستويات المثاقفة حيث أن المثاقفة فيها جزءين أساسيين، ثقافة مُقترِضة (بضم الميم وكسر الراء) وثقافة مُقترَضة (بضم الميم وفتح الراء) أو مُقرِضة، ولكل من الثقافتين قيم ثقافية بغض النظر عن الجديدة منها أو ما يطلق عليها بالقديمة وهذه القيم مختلفة من ثقافة إلى أخرى. فالثقافة المقُترِضة لها مستويات مختلفة في أخذ القيم الثقافية من الثقافة المُقرِضة ويمكن تفصيل هذه المستويات على النحو التالي:

1 - إعطاء جوهر لمظهر ميمة جديدة مكتسبة

وهو أن تكون العملية التي تتم فيها المثاقفة ويتم فيها الاقتراض من خلال نسبة الدلالات القديمة إلى عناصر جديدة أي إخضاع الميمات (القيم أو العناصر أو السمات الجديدة) المُقترَضة لما يخدم الميمات القديمة ويقويها (بمعنى آخر هي عملية تطوير للميمات القديمة بالاستفادة من العناصر والميمات الجديدة). وقد تكون الميمة المكتسبة مجرد طقس شائع عند جماعة ما له دلالة ذات خصوصية، وعندما انتقل الطقس لجماعة أخرى اكتسبت المظهر فقط مع إعطائه دلالة تتوافق مع خصوصياتها. مثال على ذلك طقوس «الناصفة» أو الگرگعان حيث بدأت جماعة تمارسه وتربطه بمناسبة دينية خاصة بها (مولد الإمام الحسن عليه السلام في 15 رمضان والإمام المهدي عليه السلام في 15 شعبان)، بينما جماعة أخرى انتقلت لها تلك الطقوس ولكن ربطتها بمناسبة النصف من رمضان فالمظهر عند الجماعتين واحد ولكن يختلف الجوهر عندهما.

2 - الميمات الجديدة المكتسبة تغير في جوهر بعض الميمات القديمة

وهو أن تكون المثاقفة متمثلة في تغيير القيم الجديدة للدلالة الثقافية للأشكال القديمة بمعنى أن القيم المُقترَضة تغير دلالات القيم القديمة المُقترِضة وهذه المثاقفة قد تكون سلبية في حالة كون القيم القديمة أفضل من الجديدة، وقد تكون إيجابية في حالة كون الثقافة الجديدة أفضل من القديمة.

والمثال الواضح على هذا هو عندما تكتسب جماعة ما معارف جديدة تمكنها من إعادة تحليل ظواهر كانوا يحللونها بطرق مختلفة. على سبيل المثال التطور العلمي أدى لفهم أن هناك تكيفا بين الإنسان والبيئة يؤدي لتغير في لون الجلد على مدى آلاف السنين، هذه المعلومة الجديدة مكنت من إعادة تحليل كيف أن أصل البشر آدم وحواء وأن هناك ألوانا وأشكالا متعددة من البشر والتي كانت تعلل بالسابق بأسطورة اصطلح عليها أسطورة الخلق والتي تنص على أن آدم خلق من طينة متعددة الألوان، البيضاء والسوداء والخبيثة والطيبة، وهي كذلك تعلل وجود الطيب والخبيث، وهذه الأسطورة لازالت آثارها باقية ليومنا هذا فلازلنا نسمع البعض يقول «فلان من الطينة الخبيثه» وغيرها من الأقوال.

3 - تغيير جوهر الميمة مع المحافظة على مظهرها

هذه حالة خاصة لتطور الميمات في نفس الجماعة عندما تغير الجماعة من عقيدتها، بمعنى أن تكون هناك ميمة معينة في جماعة قبل الإسلام، وعندما تحولت للإسلام حافظت على مظهر تلك الميمة لكنها غيرت من جوهرها ليتلاءم مع الديانة الجديدة، وأبسط مثال على ذلك تقليد الضحية أو الحجة (الحية بية) التي كانت تمارس قبل الإسلام بمفهوم معين، وعندما جاء الإسلام بقي مظهر ذلك التقليد ولكنه ربط بجوهر آخر وهي مناسبة عيد الأضحى.


مصطلحات أخرى تخص المثاقفة

نجمل هنا باقي المصطلحات الخاصة بالمثاقفة وهي كالتالي

المثاقفة المضادة:

هي الدعوة إلى الرجوع إلى الأصول وهي ردة فعل لأي تجديد ثقافي ولا تنجح لأنها تستهدف المثاقفة الشكلية أو المادية كما مثلت سابقا بمحاولة إرجاع أسلوب حياة المسلمين كما هي عليه سابقا من ركوب الخيل وغيره والعزوف عما استجد من وسائل التقنية بحجة أنها ليست من تراثنا الثقافي.

مفهوم الميل والاتجاه:

هو المفهوم المؤثر على عملية الاقتراض الثقافي بحيث أنه يسمح لبعض السمات بالانتقال دون غيرها والمقصود هنا مايوافق من هذه السمات ميوله واتجاهه.

مفهوم البقاء الثقافي:

هي السمات الثقافية القديمة التي بقيت وحافظت على نفسها مع تغير الثقافة واستبطانها للثقافة المهيمنة ويفيدنا هذا المفهوم لبرهنة أن الثقافة عبارة عن طبيعة ثانية للفرد إذ إن طبيعته الأولى هي طبيعته البيلوجية، وإذا عرفنا أن الثقافة هي الطبيعة الثانية فسيقودنا ذلك إلى أن الفرد متى ما حافظ على هذه الطبيعة كمحافظته على الطبيعة الأولى فسيستفيد حتما من عملية المثاقفة ولن تضره لأنه سيأخذ مايفيده منها ويترك مايضره ولن تؤثر على هويته.

العدد 2505 - الأربعاء 15 يوليو 2009م الموافق 22 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً