العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

كتاب المرايا

هل تشعر بأنك تنتسب إلى روما، هل أنت حقا روماني؟

في الحقيقة، أنا نصف روماني. أمي من روما. أجيال عديدة من أهلها نشأوا في روما. أحد أقاربي، وكان مهتما كثيرا بعلم الأنساب، اكتشف أن المعلومات المبكرة عن عائلة باربيني (اسم أسرة أمي قبل الزواج) ظهرت في سنة 1400، هناك باربيني الذي عمل في القصر البابوي في عهد البابا مارتن الخامس. كان صيدليا وتورط في قضية تسميم، وبعد إدانته حُكم عليه بالسجن ثلاثين سنة أمضاها مدربا للجرذان والعناكب. من يدري، ربما شيء من رغبتي في أن أكون مخرجا سينمائيا يمكن تتبع أثره رجوعا إلى ذلك الجد البعيد.

إذن أنا نصف روماني، وعندما جئت إلى روما في العام 1938 لأستقر فيها، سرعان ما شعرت بالطمأنينة وراحة البال أكثر مما كنت أشعرها في بلدتي ريميني. لكن ما هو الجانب الروماني فيّ؟

المعروف عن الروماني أنه شخص حسي، سخي، اجتماعي، يوجّه انتباهه نحو ما هو خارج عن الذات... شخص محب للرفقة والمحادثة وموائد العشاء، سريع الاستجابة تجاه السعار السياسي... وهو التجديفي الذي يعلن إلحاده لكنه يرسل زوجته وبناته إلى الكنيسة لأن شخصا ما في العائلة يتوجب عليه أن يبقى على اتصال مباشر مع ذلك الشيطان الذي خلقه الرب. وفق هذه المعطيات أو المعايير، لا أحسب نفسي نموذجا لأيٍ من تلك المزايا والشوائب، خصوصا فيما يتعلق بالسياسة... في هذه الحالة أشعر بأنني أنتمي إلى الإسكيمو وليس روما.

لكن كيف بمقدورك أن تنأى عن السياسة ولا تبدي أي اهتمام بها؟

لست فردا سياسيا، ولم أكن كذلك. السياسة والرياضة تسببان لي حالة من الفتور واللامبالاة، وتنعدم مشاركتي في أي حديث يتناول مثل هذه الموضوعات، سواء أثناء سفري بالقطار أو عندما أحل ضيفا في بيت صديق.

في الواقع، أنا لا أتباهى بهذه اللامبالاة المزمنة تجاه السياسة، بل إن ذلك يسبب لي الضيق والانزعاج باستمرار. الأصدقاء، المجتمع الراهن، الفقر الأخلاقي... من المفترض أن يحرضني ذلك على تبني مواقف أيديولوجية حاسمة، وأن أكون راغبا أكثر في إحداث التغيير وقهر القصور الذاتي.

الآلة التي توازن بين الخير والشر، والتي ضمنها أعيش وأعمل، يجب أن تدور بسلاسة أكثر وبفعالية أكثر، وأن توفر العدل والكرامة للجميع. لكن عندما يعني ذلك الدعوة إلى الفعل، النشاط العملي، الانضمام إلى التجمعات والمشاركة في المناقشات والمسيرات والمجابهات وإصدار البيانات، فإنّ فكرة الانخراط في ذلك العالم المنظّم والمنضبط، بما يحتويه من مجادلات ومناظرات واجتماعات، تعيدني ثانية إلى المنطقة المحايدة.

إني أرفض نشاط الكشافة ذاك، الذي نصفه يؤدى من باب الإحساس بالواجب، ونصفه كشيء يمكن إنجازه بعد الدوام الوظيفي (الذي هو دائما أساس الاهتمام في «الشؤون العامة»).

ربما هو فعل طفولي لامسؤول، لكنني مع ذلك أحتفي بهروبي من الخطر عن طريق الاستغراق الكلي في الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامي: تحقيق الأفلام. أدرك أن موقفي هذا قد يكون عصابيا، وقد يعني رفضا للنمو والنضوج، إلا أنني أعتقد أن ذلك مشروط إلى حدٍ ما بتربيتي ونشأتي في فترة الحكم الفاشي، والتي أدت إلى إقصائي عن المشاركة الفردية في السياسة باستثناء المظاهرات والمسيرات. منذ تلك الفترة فصاعدا، تكوّنت لدي قناعة بأن السياسة مهنة «العظماء»، يؤديها سادة مفكرون - كما تخبرنا كتب التاريخ- من أجل قدر ظاهر، من أجل مصير البشرية. هؤلاء «العظام» يتوجب أن يكون لديهم ذلك الأسلوب الهزلي، على نحو طفيف، القريب من أسلوب موسوليني، أو المظهر الجاد كما عند جيوليتي، أو يتوجب الرجوع إلى نماذج من القرن السابع عشر: كريسبي، راتازي، منجيتي، ريكاسولي البارونيت الحديدي، وأولئك السياسييون الذين نراهم واقفين دائما في البرلمان يخطبون وسط زملاء وقورين، وهم ملتحون ويرتدون سترات سوداء تبلغ الركبتين.

ربما التخوم الكابحة، المحيطة بي اليوم، ناشئة من واقع أنني لم أتنفس أبدا، في سنوات التكوّن الأولى، المعنى الحقيقي للديمقراطية خارج نماذج هي بعيدة كبعد الخيال العلمي. من دروسي الإغريقية، من الفلسفة، تعلمت الكثير عن الدولة المدينية، حكم الشعب، أثينا، الحقوق والواجبات، أفلاطون، بيريكليس، سقراط، المنهج السقراطي... لكن الديمقراطية كممارسة وسلوك، أو كما كنا نلمحها في الأفلام الأمريكية، فإنها لم تكن جزءا متمما من ثقافتنا.

في الأفلام الأمريكية، نجد أن من يحمي القانون هو عمدة البلدة وكل المساعدين الذين يمتطون جيادهم ويطاردون الأشرار. أو كما هو معمول في المدن الكبيرة حيث ناطحات السحاب، والأفراد المشغولين في مكاتبهم، حيث المهن والكرامة والرفاهة والحرية التي فيها يمكن التخطيط بجسارة لوجودٍ من الطراز الأول.

أو تلك الأسطورة الأنجلو- سكسونية عن الديمقراطية التي يتنفسها أطفالهم منذ بلوغهم الستة أشهر من أعمارهم، متعلمين احترام، إن لم يكن تقاسم، قرار الأغلبية، ذلك لأن لديهم الوسيلة لأنْ يصبحوا أغلبية ولأن يغيروا مجرى التاريخ.

نحن ربما نفتقر إلى كل دروس الحضارة والوعي تلك، وهذا الافتقار تركنا، بطريقة أو بأخرى، مع قناعة راسخة بأن السياسة ينبغي أن يمارسها الآخرون، الذين يعرفون كيف يتعاطونها.

حتى عندما تسير الأمور على نحو مختلف مثل: اندلاع حرب، انهيار نظام، مرحلة إعادة بناء، نشوء دولة جديدة ترفعنا إلى مصاف بلدان أكثر تحضرا وتقدما وأهمية، فإن الديمقراطية تصل إلينا كشيء مسْـكِر... تحررٌ فجائي من حالة الإخضاع التي عشناها زمنا طويلا، قرونا عديدة. ذلك الوضع قد أصبح نوعا من الحالة البيولوجية، الوظيفة الجسمانية، العاهة الجسدية التي يصعب إزالتها أو تجاهلها. ربما لأنني عشت كل هذا الخليط.

أنظر كم أنا مشوّش عندما يتعلق الحديث بشؤون السياسة. يجب أن اعترف، مسلّما بقصوري الذاتي، بأنني حتى هذه اللحظة أشعر أن أفرادا آخرين يتعين عليهم القيام بإدارة الشؤون العامة، باتخاذ القرارات، بتدبّر أمر العالم اليومي، الطارئ والعارض وسريع الزوال، حيث أجد نفسي غرّا، قليل التجربة، وغير مؤهل عضويا.

إذا كان علينا أن نسلـّم بمصائر معينة ونزعات معينة، فإنني أفهم أن الفنان، وكل شخص يكرّس نفسه للتعبير، يتحرك في مجالات مختلفة تماما والتي هي غير قابلة للتغيير، أو هي - على الأقل- أقل عُرضة للتغيير أو للثورة العنيفة. ربما هي أقرب إلى حالات الروح، الحكمة، الحالات الداخلية أكثر من الخارجية. في تلك الحكاية الشرقية «صبي الساحر»، يصل الإنسان إلى كتاب المعرفة بعد عناء ومشقة ليكتشف أنه مؤلف من صفحات هي عبارة عن مرايا، وهذا يعني أن السبيل الوحيد لإحراز المعرفة هو أن تعرف ذاتك.

أنا لا أعرف ما قيمة ذلك بالنسبة لشخص يتوجب عليه يوميا أن يجابه كل المعضلات العملية: تسويات، توازنات، كوابح الوقت، كآبة، قلق، اقتراع، استطلاعات الرأي، إدارة المجتمع.

لكن لماذا تكره الرياضة بنفس درجة كراهيتك للسياسة؟

أعرف أن في بلد مثل إيطاليا، أجازف بتعريض نفسي للإعدام من غير محاكمة بمجرد الاعتراف بأنني لم أتفرج قط على أية مباراة في كرة القدم، لكنها الحقيقة. طوال حياتي لم أكن مهتما بالرياضة. أشعر بالضجر حين أحضر، مصادفة، مباراة في كرة السلة أو التزحلق أو سباق الجري. في صباي كنت أحيانا أتولى مهمة استرجاع الكرات التي تخرج من ملعب التنس في جراند هوتيل بريميني. كيف يمكن لرجلين يرتديان سراويل قصيرة أن يستمتعا بضرب كرة صغيرة من جانب إلى آخر، ساعة بعد ساعة؟... كان ذلك لغزا بالنسبة لي. ذات مرة تابعت سباق سيارات كمراسل صحفي لجريدة فيرارا، ولا أتذكر منه الآن سوى الضجر المفرط والعراك الوحشي والحوادث المروّعة. توقفت بعد تقريرين، أو بالأحرى طردني رئيس التحرير لأنني كنت أخطئ في كتابة الأسماء، ولم أكن أستخدم في الكتابة الأسلوب الرنّان، المتعاطف، والمثير للاهتمام.

ربما تفرجت على مباريات المصارعة بشيء من الاهتمام، لأنني على الأرجح كنت أعاني من مركـّب نقص، إذ نظرا لكوني نحيلا أشبَه بهيكلٍ عظمي فقد كنت أحسد أولئك الشبان بعضلاتهم المفتولة والذين يستعرضون أجسامهم أمام الجميع وهم شبه عراة. لكن التنافس، الصراع، التحدي... هذه الأشياء كانت تسبب لي الضجر وتجعلني عدائيا. كنت بالتأكيد أشعر بتعاطف سريع مع الخاسر، فالوضع الذي يحرّض شخصا ضد آخر لتحديد أيهما الأقوى والأشجع والأكثر رشاقة وجمالا، هذا الوضع كان يثير لدي إحساسا بالعزلة، بالرفض، بالتمرد.

سباق الألف ميل... هذا شيء أذكره بمتعة. فقد كان حدثا رئيسيا، مثل الكريسماس وولادة روما والألعاب النارية... تواريخ تتوّج السنة بمآثر استثنائية، تواريخ كنا ننتظرها بلهفة... مثل قدر.

أيضا مباركة الحيوانات في الكنيسة والمخصصة للقديس أنطونيوس. كان عيدا مبهجا بالنسبة لي آنذاك. النهيق، النباح، صياح الديوك، صوت الخنزير... في منتصف ذلك ينتصب راهب مفتول العضلات سوف يتظاهر بأن الدجاج والديوك الرومية والبط والخنازير، هي هادئة أثناء المناسبة، لأن بخلاف ذلك هو لا يستطيع أن يباركها. كان يضع قبضته تحت خَطـْم الحمار ويزمجر: «سوف أعطيك لكمة على الرأس عوضا عن الماء المقدس».

أعلم أني استطرد وانحرف عن الموضوع الرئيسي، ذلك لأني لا أعرف ماذا أقول عن الرياضة...

كنت تتحدث عن الألف ميل...

آه، نعم... الاستعدادات لتهيئة الطريق لسباق الألف ميل يبدأ عادة قبل يومين. في الخارج توضع كل المقاعد، الدكاكين تغلق أبوابها، المنازل ذوات النوافذ والشرفات تكون مستأجرة سلفا نظرا لموقعها الاستراتيجي، أما الأفراد الأكثر فقرا فيجثمون على الأسطح. كانوا يبعثون بالرُسـُل على دراجاتهم النارية والهوائية إلى الريف، على بُعد عشرة كيلومترات خارج حدود المدينة. قبل أن يبدأ السباق بخمس أو ست ساعات كانت الشوارع تبدو خالية تماما. الأفراد يحتشدون عند المداخل أو عند النوافذ، كما لو في مقصورات دار الأوبرا. المحافظ، الكونت، زوجة السكرتير الفاشي يتفرجون عبر المناظير، والأنظار موجهة نحو قوس أوغستوس حيث سوف تظهر السيارة الأولى. الكثيرون يلوّحون بالأعلام، آخرون بالبطانيات. آنذاك لم تكن هناك تغطية إذاعية للحدث. لا أحد كان يعرف من الذي يفوز في السباق. الطريقة الوحيدة المتوفرة لدينا لمعرفة ما يحدث هو عندما تأتي مكالمة هاتفية تخبرنا بأن المتسابقين عبروا بارما منذ ساعة. ومن هذا الخبر نستنتج حسابيا أن السيارة الأولى سوف تصل إلينا في أقل من 50 أو 70 ساعة. في غضون ذلك، الكل يبدو ساكنا والطرقات خالية باستثناء ذاك المعتوه الذي يظهر متواثبا مثل الكنغر ويصدر ضجيجا بفمه. في وقت الشفق، سوف يأتي راكب دراجة نارية ويعلن ببوقه أن السيارة الأولى على وشك أن تصل. بعدئذ تتعالى الأصوات من كل النوافذ: «إنه بوردينو. لا، إنه كامباري. لا، لا... بريليبيري... لقد عرفني وأومأ إلي برأسه». بعد ذلك سوف يأتي معتوه آخر، وعندما تظهر السيارة، سوف ينطلق بسرعة فائقة على دراجته محاولا في يأس أن يلحق بالسيارة التي تهدر وهو يرفع طبقا، راغبا في تقديمه للسائق بأي ثمن، صائحا: «خذ هذا الطعام، طبخته لك أمي... إنه مفيد لك»... لكن ينتهي به الأمر إلى الوقوع في قبضة الشرطة الذين يقودونه إلى المخفر، وفي الزنزانة يشاركونه الطعام الذي طبخته أمه. بعدئذ سوف يحل الظلام. عشاء بارد عند النوافذ، عناق عشاق، غناء. هكذا كانت الأحوال تمضي طوال الليل مع الهدير المخيف ووميض السيارات التي سرعان ما يبتلعها الظلام. في الفجر، حتى الأكثر لهفة وحماسة، يكون نائما. رؤوسهم مسندة إلى النوافذ، يفتحون عيونهم المرهقة عند مرور السيارات الأخيرة، فيتساءل أحدهم: «سيارة من هذه التي مرّت؟»... والردود تصير أكثر فحشا... وعند السابعة صباحا، ينتهي كل شيء.

الإصغاء إلى صمت الزمن العابر

حدثنا عن أيام الدراسة... هل كنت مجتهدا؟

من روضة الأطفال إلى المرحلة الابتدائية لا أتذكر شيئا. آه، نعم... في الروضة كانت هناك راهبة من أخوات سان فنسنزو، اللواتي يرتدين عباءات من أجنحة النوارس: كانت حليقة الرأس، مثل المحكومة بالسجن في الرسوم الهزلية، ووجهها كان دائما أحمر. لا أستطيع أن أحدد كم كان عمرها، ربما 15 أو 20 سنة. ما أذكره أنها كانت دائما تحضنني وتعتصرني. كانت تحتك بي وتجذبني إلى جسمها الذي له رائحة قشور البطاطس، والمشبّع بنكهة حساء فاسد، وتلك الرائحة التي تميّز أردية الراهبات. ذات يوم وأنا ملتصق مثل دمية صغيرة بذلك الجسم الكبير، الصلب والدافئ، شعرت بالدوار، بإثارة، بوخز خفيف على طرف أنفي من فرط الاهتياج. لم أكن أعرف سببا لذلك، لكن كاد يصيبني الإغماء من المتعة. ذلك كان، كما اعتقد، انفعالي الجنسي العنيف والأول، لأن - حتى يومنا هذا - رائحة قشور البطاطس تسبب لي بعض الوهن.

في المدرسة الابتدائية، كان مدرسنا جيوفانيني يختفي كل كريسماس وأعياد الفصح خلف أكداس من الهدايا التي كنا نجلبها نحن الأشبه بأفراد عبيد، مهزومين، الراكعين في خشوع أمام مذبح الطعام، متكلفين الابتسام . كان بوسعنا أن نسمع صوته وراء أكوام من الجبن، السلال المليئة بالدجاج، صناديق النبيذ، البط والديوك الرومية. ذات مرة،رأينا ستاشيوتي، الطالب الكسول الذي لا يزال في المرحلة الثالثة رغم أنه في السادسة عشرة من عمره، يدخل الفصل حاملا خنزيرا صغيرا حيا، وفي تلك السنة، وبفضل الخنزير، ارتفع إلى صف أعلى. أنا أيضا انتقلت إلى صف أعلى بفضل جبن بارما الممتاز(وهو جبن جاف حرّيف) والذي جلبه أبي هدية إلى الأستاذ.

لقد حكيت الكثير عن أيامي في المدرسة الثانوية في فيلمي «أماركورد»، ومن هذا الفيلم تستطيع أن تكتشف بأنني لم أتعلم إلا القليل من المدرسة. لكن لكي أكون منصفا أقول بأني استمتعت كثيرا.

لم أستفد من دراسة اللغة الإغريقية، اللاتينية، الرياضيات، الكيمياء. لم أعد أتذكر شيئا من هذه الدروس، لكنني تعلمت أن أنمّي روح الملاحظة، أن أصغي إلى صمت الزمن العابر، أن أتعرّف على الأصوات والروائح البعيدة القادمة عبر النوافذ مثل سجين يعرف المدة التي يستغرقها ذلك المثلث الصغير من شعاع الشمس حتى يصل إلى سريره، أن أميّز جرس كنيسة دومو عن جرس كنيسة سانت أغوستينو.

لدي ذكريات سارة عن كل الصباحات وفترات ما بعد الظهيرة التي كنت أبددها في كسل، دون فعل أي شيء، ممدِدا ساقيَّ تحت المقعد، منظفا أظافري بطرف القلم، ومستغرقا في أحلام اليقظة عن فولبينا التي تمارس الحب مع البحارة خلف سلسلة من صخور الشاطئ.

إذن المدرسة بالنسبة لك كانت مكانا للرصد والملاحظة...

ربما في المدرسة اكتسبت تدريجيا ذلك النزوع الكاريكاتوري، الهزلي. تلك الطريقة الخاصة في النظر إلى الناس بتهكم... هذه النزعة التي غرسها فيّ أولئك المدرسون طوال مراحل الدراسة. كانوا حقا مضحكين ومثيرين للشفقة رغم صراخهم المتواصل، عيونهم البرّاقة خلف نظاراتهم، إهاناتهم وتحقيرهم لنا، تمزيقهم لواجباتنا المنزلية كما لو أنها تتضمن هرطقات شائنة، تهديداتهم الزاعقة بلهجة مجهولة: «يتوجب أن تكونوا في السجن، في مصح عقلي، لا في مدرسة».

على الرغم من تلك المواقف والسلوكيات العصابية، الفصامية، أو ربما بسبب ذلك، كنت أشعر بميل كبير تجاههم. كانوا يتكلمون بنبرات ولهجات لم نسمع عنها من قبل، إلا ربما في بعض السجون من شرطي «جنوبي». والجنوبيون، بالنسبة لسكان ريميني، هم القادمون من ماتيرا، ريجيو كالابريا، سيراكوسه، نابولي.أحد زملائنا في المدرسة جاء من أنكونا، وكنا نسميه الجنوبي، وفي كل مرّة يسمع منا هذه الكلمة ينخرط في البكاء. في الحقيقة، عندما نتحدث نحن بلهجة ريميني كنا أيضا نتعرض لسوء الفهم، ونثير سخرية الآخرين الذين يشبّهوننا بالصيني الذي يتكلم بلغته ورأسه تحت الماء.

لكننا كنا ننفجر في ضحك وقحٍ عندما يقرأ لنا الأستاذ دي نيتيس شيئا من جحيم دانتي، جاعلا الفصل يدوّي بإيقاع لهجته المنتسبة إلى بارليتا. ربما في المدرسة أيضا تعلمت بأن هناك أنواعا من الإيطاليين، وأجزاءَ صغيرة عديدة من إيطاليا، كل جزءٍ يختلف عن الآخر.

بما أنك ذكرت جحيم دانتي، أود أن انحرف قليلا عن المسار وأسألك إذا كان صحيحا أنك تلقيت العديد من العروض، من قِبل المنتجين الأمريكان تحديدا، لتحويل «الكوميديا الإلهية» إلى فيلم؟... السينما كانت دائما ترى في قصيدة دانتي إغواء لا يقاوَم...

نعم، هذا صحيح. لقد تلقيت هذا العرض في ثلاث أو أربع مناسبات، ودائما كانت وجوه الأطراف المشاركة في الاجتماع تتمدد في خيبة أمل، عاجزين عن فهم موقفي الرافض. إنه أمر خطير، خطير جدا ولا يمكن اغتفاره، أن أقول لا لمشروع شامخ كهذا. آخر مرّة، حاول منتج أمريكي ضخم، وجدير بأن يُحب، أن يقنعني بأنني الوحيد القادر على جعل الأمريكان يفهمون ما كان دانتي يفعله في الجحيم.

المشروع مغرٍ. وأود أن أحقق نصف ساعة من الصور المجنونة والفصامية، الجحيم بوصفه بُعدا ذهنيا يتسم بالاضطراب العقلي، الاشتغال على أعمال سابقة مستمدة من دانتي: سينوريلي، جيوتو، هيرونيموس بوش. أيضا اسكتشات المجانين، جحيم صغير، مقفر، غير مريح، محكم، غامض تماما.

لكن، عادة، المنتج الذي يقترح «الكوميديا الإلهية» يريد: مشاهدا مفعمة بالدخان، مؤخرات عارية، وحوشا كالتي نراها في الخيال العلمي.

العمل الفني يملك تعبيره الاستثنائي الخاص به. التحويل من شكل فني إلى آخر أجده شديد البشاعة، سخيفا، لا شأن له. إني أعطي الأفضلية للموضوعات الأصلية المكتوبة مباشرة للسينما. أعتقد أن السينما لا تحتاج إلى الأدب، تحتاج فقط إلى كتّاب سينما، أعني الأفراد الذين يعبّرون عن أنفسهم وفقا للإيقاعات الجوهرية للفيلم.

الفيلم شكل فني مستقل بذاته، لا يحتاج إلى ترجمات أو تحويلات إلى مستوى والذي في أفضل الأحوال، سوف يكون دائما وإلى الأبد مجرد توضيح. كل عمل فني يزدهر في البُعد الذي يتصوره والذي من خلاله يجد تعبيره. ما الذي بوسع المرء أن يحصل عليه من رواية ما؟ الحبكة. لكن الحبكة نفسها لا أهمية لها. ما يهم هو الإحساس الذي يتم التعبير عنه، الخيال، الجو، الإضاءة. التأويل. التأويل الأدبي للأحداث لا علاقة له بالتأويل السينمائي للأحداث ذاتها. إنهما منهجان للتعبير مختلفان كليا.

مع أنك تتحدث بتعاطف وتفهّم عن أيام الدراسة، إلا أنك على ما يبدو تشعر أن النظام التعليمي كان مقصّرا في التزامه بتعليم الأطفال... لو عُينت وزيرا للتعليم، ماذا كنت ستفعل لإصلاح النظام التعليمي؟

لا أبناء لدي. ونظرا لانشغالي الدائم في تحقيق الأفلام فإنني أجهل طبيعة الدراسة اليوم وكيف تبدو المدارس. أستطيع أن أخمّن بأن الدراسة، بصرف النظر عن المظهر الخادع للواجهة وارتخاء الانضباط الصارم، لا تختلف كثيرا عن الدراسة في مراحل سابقة من جهة واقعها كمجال ضيق وناقص وغير مؤهل لتحمّل مسؤولية تنمية وتطوير الطالب.

الطفل يبدأ في تلقي التعليم حين يبلغ السن الذي فيه تكون التخوم بين الخيال والواقع، بين عالم المعرفة المفتوح والعالم اللاعقلاني الأكثر اتساعا، عالم الحلم، عالم المعنى الباطني، هي من أكثر التخوم رقة وهشاشة. مع ذلك، هي أشبه بغشاء ذي مسامات من خلالها قد تتدفق روح التغيير. هذه المرحلة، الحالة السامية، سرعان ما تختفي مع مرور الوقت. وبدلا من التعرّف عليها والتسليم بها وحمايتها كشيء ثمين، كعصر ذهبي للمعرفة والقدرة على العيش، فإن المدارس تهملها وتتجاهلها كليا. تنظر إليها في ريبة، في كراهية، لكونها تتعارض مع النظام التقليدي الذي فيه ينبغي أن يوضع الطفل.

لا ذنب لأحد في خلق هذا الوضع، إنه جزء من الكسل الذهني، القصور الفكري، الذي به نحن، بوجه عام، نخاطب مشكلات التعليم، مقتنعين بأن الطفل عبارة عن خطأ تام يجب إخضاعه للعلاج.

من جهة أخرى، نحن نتعامل مع كائن غريب وفريد، لديه الوسيلة الخاصة (التي هي بدائية لكنها محتفظة ببكارتها) والتي من خلالها يحقق اتصاله بالواقع. هو، مثل العناصر الطبيعية، يحتفظ بالمعرفة التي فقدناها. إنه يعرف الكثير من الأمور المنسية أو المجمّدة على نحو فعال من قِبلنا.

لو كان لدي ابن لحاولت قبل كل شيء أن أتعلم منه. الآباء والأمهات عادة يفعلون النقيض، إنهم يفرضون على أبنائهم ما يعرفونه من التوافه ولا يسألونهم عن أي شيء على الإطلاق. لم أر قط أبا ينحني على ولده ويسأله عما يفعله، عما يريده، كيف تبدو له القطة، كيف ينظر إلى المطر، بم يحلم في الليل، أو لم هو خائف. نحن ممتلئون كليا بمشاكلنا الخاصة، برؤيتنا القاصرة للواقع.

كنت دائما مفتونا بهذا الكائن الصغير الغريب، بوجوهه الهزلية الساخرة، باستبداديته، بضراوته، بمظهره المتسم بالبراءة الحيوانية.

الفيلم الذي أندم كثيرا على عدم تحقيقه - والذي هو مستحيل عمليا- يحكي قصة ثلاثين طفلا تقريبا، تتراوح أعمارهم بين عامين أو ثلاثة أعوام، يعيشون في منزل كبير يقع على حافة المدينة. ما يأسرني ويثير اهتمامي ذلك الاتصال التخاطري، الغامض، بين الأطفال. النظرات التي يتبادلونها عندما يلتقون على السلالم أو خلف باب أو في المهد أو حين يُمسك بهم مثل حزم من النباتات. إنه فيلم عن الحياة داخل منزل ضخم، وجميعهم يعكسون وجهة نظر الأطفال وتخيلاتهم. إن قصصهم عن الحب المطلق، الضغائن، التعاسة، مروية كلها على السلالم وفي الممرات وفي الحدائق الصغيرة... في النهاية يأتي من يصطاد هؤلاء الأطفال، كما لو كانوا مجرمين مطاردين، يضعونهم في روضة أطفال وهناك، في اليوم الأول، يقومون بإخصائهم.

من بين كل المشاريع التي لم تنفذ بعد، تتكرر هذه القصة في البروز مع حالة من التأنيب. سيكون فيلما محركا للمشاعر وهزليا على نحو لا متناهٍ. هؤلاء الأطفال لديهم مستودعات غنية جدا. لديهم الكثير من الأسرار التي سوف تختفي شيئا فشيئا.

لنعد إلى ذكريات طفولتك... أي صنف من الأطفال كنت؟

يحدث أحيانا أن أتأمل بعض الصور الفوتوغرافية القديمة لي. ثمة صورة لي وأنا في زي بحار، واقفا إلى جانب أخي، خلف أبي وأمي الجالسين على كرسي من المخمل. أذكر أنه كان علينا أن ننقل الكرسيين من بيتنا إلى ستوديو المصور الذي كان اشتراكيا وتحت مراقبة الشرطة. أمي أصرت على التقاط الصورة وهي جالسة على ذلك الكرسي وفي حجرها كلبها الصغير تيتينا... وقد اختارت له هذا الاسم تيمنا باسم الجنرال الذي كان وقتذاك يواجه مشاكل وهو على طوف جليدي في القطب الشمالي.

في صورة فوتوغرافية أخرى، أكون محشورا وسط حشد من زملاء الدراسة، فيما أؤدي دور المهرج بقامة متقوسة وظهر محدودب مثل الممثل لون شاني في «أحدب نوتردام».

في صورة أخرى، أنا وحدي، نحيل جدا، لابسا ثوب سباحة باللون الأحمر والأزرق والذي يصل إلى ركبتيّ. كنت أبتسم والعينان متجهتان إلى السماء مثل فتى غرّ بريء، وشعر الرأس ملتصق ببعضه بمستحضر زيتي لتلميع الشعر... ولا أعرف من الذي أقنعني أو بم وعدوني لكي أقبل الظهور في هذه الصورة بهذا الشكل.

عند تأمُل هذه الصور: هل بإمكان أي شخص أن يفهم أي صنف من الأطفال يوجد في هذه الصور؟ هل كان طيبا؟ هل كان مخلصا؟ هل كان سعيدا؟ وما الذي بقي من ذلك الطفل الرقيق، الأنثوي تقريبا؟

قلت في مناسبات أخرى إنني، على الرغم من وصفي غالبا بـ «مخرج الذكريات»، إلا أنني لا أتذكر إلا القليل جدا من طفولتي. لكن لكي أسعدك، سوف أسرد لك حادثة عرضية والتي، على يد محلل نفساني، يمكن أن توحي بطبيعة الشخصية، بالتوجه المهني، وحتى التلميح إلى المصير.

آنذاك كنت أحب أن أثير الشفقة، أن أبدو غامضا ومحفوفا بالأسرار. كنت أحب أن يُساء فهمي ولا يجد الآخرون سبيلا إلى معرفتي بوضوح، وأن أنظر إلى نفسي كضحية. ذات مرة، استحوذت عليّ فكرة انتقام لا أحد يعرف دوافعها. هيأت نفسي لمشهد انتحار: لطخت جبيني ويديّ بحبر أحمر سرقته من مكتب أبي، ثم تمددت على الأرضية الباردة جدا عند أسفل السلـّم. هناك مكثت في صمت، حابسا أنفاسي، منتظرا أن يأتي شخص ما ويطلق صرخة الرعب الأولى. قلبي كان يخفق بشدّة، والأرضية باردة إلى حد أنني أصبت بتشنج في ربلة ساقي وصارت الساق كلها ترتجف... وكنت أفكر:»هكذا أفضل. أن أهتز في ألم». لكنني أيضا كنت أخشى أن تراني أمي في هذا الوضع فترمي نفسها من أعلى السلـّم حزنا عليّ... رجوت ألا يحدث ذلك، وبقيت مكاني بلا حراك، منتظرا، مغمورا بالمصير البائس. بعد وقت، سمعت صوت انفتاح الباب ووقع أقدام تدنو مني، ثم شعرت بضربات خفيفة على الركبة بطرف عكاز. كان عمي بوجهه الذي يخلو من أي تعبير. ومن ارتفاع ستة أقدام، هي طوله،قال لي:»إنهض أيها المهرج الصغير، إذهب واغسل وجهك»... ظننت أنني سوف أموت حقيقة من الغيظ ومن الحرج، ولسنوات طويلة كرهت ذلك العم الذكي، الذي بلا قلب.

ظل يشطر الميدان إلى نصفين

عندما اندلعت الحرب الأثيوبية، كنتَ في السنة الأولى من المرحلة الثانوية... ما الذي تتذكره من تلك الأيام؟

رحيل المتطوعين للخدمة العسكرية من ريميني، وسط أعلام ودوارق النبيذ، والناس ينظرون إليهم في ذهول. كنا نشاهد وجوه شبان ببزات عسكرية وعلى رؤوسهم الخوَذ. لم نستطع أبدا أن نتخيلهم والحقائب مشدودة إلى ظهورهم وفي أيديهم بنادق ذات حراب. كان معهم جيجن مصارف المياه، وقد سُمي كذلك لأنه كان على الدوام يقضي حاجته في مصرف للمياه يقع خلف السجن مثيرا غضب غاسلات الملابس اللواتي كن يرشقنه بالنعال وكتل الصابون التي بحجم القرميد.

وكان معهم شيابالوس، الذي لا يمكن ترجمة لقبه لأنه فاحش جدا. وهناك أيضا ابن مدير الشرطة، وشارلي شابلن الذي كان مؤهلا لأن يصير قسيسا لولا أنه وقع في غرام فتاة كانت تبيع الآيسكريم. وهناك رودريغوس بطل الملاكمة للوزن المتوسط، والشاب الذي فقد أسنانه نتيجة اللطمات العديدة التي تلقاها بعد أن غنى «الفتاة الصغيرة ذات الوجه الأسود».

كانوا يمضون إلى الحرب وهم يرموننا بنظرات حادة وضارية كما لو يتهمون من بقي بالتخاذل والجبن. مضوا وسط خليط من الأغاني الجماعية والصرخات الهائجة الوحشية والأعلام السوداء التي ترفرف. كان الموكب يتحرك وسط سحابة كبيرة من الغبار. ومن نافذة ما، برز شخص استبد به الانفعال، إما فرحا أو غضبا، ورمى برتقالة مباشرة في وجه عامل التلغراف الذي دفعته الروح الوطنية إلى التلويح بعلم أحمر وأبيض وأخضر.

أذكر تلك الملصقات على جدران ريميني والتي تُظهر عضوا في رابطة المحاربين القدامى يحمل فأسا يحطم بها سلاسل تقيّد عائلة من السود بأكملها. وأتذكر تلك البطاقات السياحية الأولى لنسوة سوداوات بأثداء عارية.

أيضا أتذكر كيف كنا نتصرف كمهرجين أثناء الدوام المدرسي، حين نذهب في مجموعة مؤلفة من ثلاثة أو أربعة تلاميذ لرؤية مدير المدرسة، وبأصوات ترتجف من فرط الحماس والانفعال، نطلب من الرجل الطيب أن يعطينا العلم لكي نحتفل بانتصار جنودنا البواسل الذين نجحوا ليلة الأمس في الدخول منتصرين... «أين دخلوا؟»... تساءل المدير الخنوع، الليبرالي سابقا، ذو الأنف الشاحب الكبير الذي يجعله يبدو أشبه بأرنب. ونحن، بنبرة تحذير، أجبناه:»في وافانكول، أيها السيد المدير، بالقرب من تولينتيساك.»

و لابد أن المسكين كان يرتاب في أسماء تلك الأماكن التي نختلقها لكنه لم يجرؤ على الاعتراض. ذات مرّة، قال سكرتير الحزب، في خطاب له في بداية السنة الدراسية: نعم، ليوباردي شاعر جيد، لكن اقرأوه بتحفظ وارتياب، لأن هناك شعر أفضل، أعني الشعر الوطني.

والمدير، الذي كان يعتبر ليوباردي إلها، شعر كما لو أنه خاضع لمراقبة جدية. هذا هو السبب الذي منعه من الاعتراض، والذي جعله يعطينا العلم دون نقاش. ونحن، المفعمين ببهجة شيطانية، انطلقنا للتظاهر تحت نوافذ المدرسة العلمية، المدرسة التقنية، مدرسة القانون، محررين الطلبة، ومعا ننحدر صوب البحر للاحتفال بانتصار جنودنا ودخولهم وافانكول

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً