العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

أثناء الحرب، هل شعرت بالخوف؟

لا. ليس لأنني كنت شجاعا، لكن بالأحرى لأنني لم أكن أعرف الحرب في مظهرها الوحشي، في رعبها، في ما تمارسه من قتل جنوني. لكي أعلل فتور هذه الإجابة على نحو أفضل، دعني أشرح وضع وحالة جيلي.

منذ أن كنا في روضة الأطفال، الحرب بالنسبة لنا كانت ذات بُعد ميثولوجي، كانت تبدو الطريقة الوحيدة للحياة. لسنوات طويلة تعلمنا من الكنيسة ومن الفاشية أسطورة الرومان، الصلب، الموضع الذي صُلب فيه المسيح، لا جدوى الحياة، جلال البطولة، التضحية من أجل الوطن، الجنود المجهولين المبتورة أطرافهم، «ليس ضروريا أن تعيش، عليك أن تحارب فحسب» أو شيء من هذا القبيل.

كان الوضع هذيانا محيّرا ومستمرا، إنكارا للحياة ومظاهرها اليومية الرقيقة والبسيطة. «عاشت الحرب» و»ذلك الذي يموت في سبيل الوطن، عاش حياته بشكل جيد».

كيف يمكن للمرء أن يلمح شيئا مختلفا من خلال ذلك الضباب المشؤوم؟ الحرب كانت تبدو أشبه بمهرجان، عيد بُشّر به منذ عهد بعيد والذي حان أخيرا. من جهة أخرى، فعلت كل ما بوسعي لأن أتجنب الدعوة. وقد نجحت في ذلك عن طريق رشوة الأطباء والتظاهر بإصابتي بأمراض غامضة.

أمضيت ثلاثة أيام في مصحة مرتديا لباسا داخليا وبمنشفة حول رأسي أشبَه بأمير هندي (مهراجا). لكن ذات يوم حلّ طبيب ألماني محل الإيطالي، وعلى نحو محتوم، ألغى سلسلة الإجازات الممنوحة لي لمدة ثلاث سنوات كفترة نقاهة. هذا الطبيب الألماني، الذي تفشي عيناه عن مدمن على الكحول، قدّم لي رزمة من الأوراق المخيفة وطلب مني الالتحاق فورا بالفوج المتواجد في اليونان.

في تلك اللحظة، أثناء صياحه، انفتحت أبواب الجحيم: قصف الأمريكان مدينة بولونيا، وحتى المستشفى الذي كنت متواجدا فيه تعرّض للقصف، فبدأت أجري كالحصان بفردة حذاء واحدة، وغبار الجص يغطيني. كنت أجري عبر أروقة المستشفى المكتظة بأناس يصرخون ويبكون ويتعثرون فيما تعوي صفارات سيارات الإسعاف والأرض ترتعد وتهتز.

منذ ذلك اليوم فصاعدا لم أعد أسمع عن ملفي العسكري. وربما من الأفضل ألا تدوّن هذا، فمن يدري، قد يخطر ببال أحد الجنرالات الآن أن يفرض عليّ التجنيد الإجباري ويضمني إلى المشاة.

صيانة التوازن

في العام 1943 تزوجتَ الممثلة جولييتا ماسينا، وفي العام التالي كتبتَ سيناريو «روما مدينة مفتوحة»... كيف انتقلتَ إلى مجال كتابة السيناريو؟

السيناريو هو الذي جاء إليّ ليغويني. في تلك الفترة ظننت أن السينما الإيطالية قد انتهت. لقد تحررت إيطاليا وكل شيء صار تحت سيطرة الأمريكان: الصحف، الإذاعة، المسارح. وعلى الشاشة لم تظهر سوى أفلامهم، وهذا كان مصدر سعادة للجمهور الذي لم ينس أبدا نجوم هذه السينما الحقيقية، السينما التي جلبت لهم التسلية والأحلام والمغامرات والهروب. أما نحن، فمن كان لدينا من النجوم؟ بيسوزي، فياريسيو، ماكاريو، جريتا جوندا (التي كنت أحبها كثيرا، كما أحببت ليدا جلوري كثيرا)... كيف كان بإمكان نجوم السينما الإيطالية آنذاك أن ينافسوا جاري كوبر، كلارك جيبل، الإخوة ماركس، شارلي شابلن، وكل النجمات الحسناوات مع مخرجيهم وكتـّاب سيناريو أفلامهم؟ كنت واثقا من أن السينما الإيطالية قد انتهت ولن نسمع عنها ثانية.

لقد انتهت اللحظات السحرية من الأجر المدفوع مقدما بعد توقيع عقد لكتابة سيناريو فيلم. آنذاك كان من الصعب أن تحافظ على هدوئك وتتظاهر باللامبالاة بينما المنتج يكتب شيكا باسمك. كاتب السيناريو مانيوني، الذي شاركته الكتابة، لم يكن يستطيع التحكم في مشاعره في أوقات كهذه. كانت عيناه تتألقان وهو يضع الشيك أفقيا بين يديه خشية أن يفقد الشيك قيمته إذا تجعّد.

ظننت أن تلك الأوقات سوف لن تعود أبدا. افتتحت محل «الوجه المضحك» مع عدد من الأصدقاء القدامى الذين عملت معهم في مجلة مارك أوريليو. المحل خاص برسم وبيع البورتريهات والرسوم الكاريكاتورية. كنت المدير الفني للمحل الذي يموله ويشرف على إدارته صديقي فورجيس دافانزاتي، وهو شاب سمين يشبه فاروق ملك مصر. وجهه أبيض مثل لوز مكسو بالسكـّر، بشاربٍ نامٍ صغير وأنيق. كان الجنود الأمريكان الذين يرتادون المحل يحبونه، ربما لأنه في نظرهم يبدو أشبه بالممثل الذي يظهر في شخصية الشرير وهو يسيء معاملة السكان الأصليين ويجعلهم يفركون ظهره بينما هو جالس في حوض استحمام وسط الغابة.

عليّ أن أعترف بأنني لم أكسب من قبل قدر ما ربحته من عملي في المحل. كان للمكان جو أفلام الغرب الأمريكي، شيء بين الصالون وغرفة الانتظار في ماخور. قمنا بتوظيف ثلاث بائعات جميلات يتقن التحدث بثلاث لغات. وغالبا ما كنا نجعل الفتى العامل في المحل يركض عابرا الشارع ويقوم بإيماءات ذعر أمام الشرطة العسكرية المتمركزة مباشرة قبالة محلنا. عندئذ كانوا يأتون إلينا تسبقهم صفارة الإنذار ويقتحمون المحل... أربعة أو خمسة من العمالقة المتوحشين، يدخلون برشاقة وسلاسة، وبدون محاولة معرفة من هو المخطيء ومن هو البريء، بدون الاستفسار عما يجري، يبدأون في ضرب كل من يصادفونه بالهراوة. أنا وأصدقائي كنا نتدبّر أمرنا جيدا، إذ نختبئ تحت الطاولات. لكن دافانزاي، المشهور بثباته وجموده، غالبا ما ينال حصته من الضرب الشديد والرهيب... ربما لأنه يشبه شخصية السمين الشرير في أفلامهم والذي يجلد الحمالين السود.

الجنود الأمريكان كانوا عنيفين، كرماء، وثملين على الدوام تقريبا، لكن يمتلكون حس دعابة تجعلنا نشعر بالارتياح. عندما يشاهدون أنفسهم في أوضاع كاريكاتورية مرسومة في محلنا، كانوا يستغرقون في ضحك متواصل لا ينقطع. وقبل أن يغادروا المحل، يتركون على الطاولة، إلى جانب المدفوعات بالليرة لقاء أسعارنا المضاعفة، شيئا من لحم البقر المملّح، الفاصوليا والخضروات، علب بيرة، وتلك العلب الملوّنة على نحو زاه من السجائر الأمريكية، الطيّعة وناعمة الملمس مثل ذراع امرأة. لو أُتيح لنا أن نتلمّس ونتحسّس علب السجائر تلك، قبل الحرب، لأدرك الجميع بأننا سوف لن نربح الحرب أبدا.

كان ذلك في غمرة الاضطراب والاهتياج، عندما جاء روسيلليني ذات يوم باحثا عنك...

كان واهنا جدا، بذقن بارز وقبعة عريضة ملساء. كان هادئا، رابط الجأش، مطمئنا وذا نزوع تأملي. ربما كان يظن بأن من الأفضل له أن يصبح شريكا لي في المحل بدلا من العرض الذي جاء يقترحه عليّ: أن أكتب له سيناريو فيلم مع سرجيو أميدي... عمل تراجيدي-كوميدي عن حياة دون موروسيني، المشروع الجنيني الذي سوف ينمو ليصير «روما مدينة مفتوحة»... لكن سبق لي أن تحدثت عن هذه الأشياء في مناسبات كثيرة.

هذا يكشف عن مظهر مثير للاهتمام من شخصيتك: الخوف من تكرار نفسك. أنت تفترض أن كل شخص يعرف كل شيء عنك... أو ربما أنك كسول. على الأقل، أخبرنا كيف عملت مع توليو بنيللي...

كان ذلك أشبه بالذهاب إلى المكتب من الصباح إلى الليل. في الصباح كنت أذهب إلى منزله ونكتب سيناريوهات الأفلام الأكثر أهمية. عصرا كان يأتي إلى منزلي. وفي المساء كان كل منا يمكث في منزله ونكتب لمخرجين أقل أهمية: ماتارازو، ريجيلي، فرانسيوليني. في الواقع، بعض هؤلاء المخرجين لم يكونوا سيئين: جينارو ريجيلي كان متقد الذهن، ساحرا في رواية القصص. بعين توسّعها نظارة أحادية الزجاجة (مونوكل) وصوت جميل (ينتسب إلى نابولي) كان يتحدث عن ماتيلدي سيراو وعن الشاعر سلفاتوري دي جياكومو، جاعلا نابولي الخرافية تعيش ثانية... مثل بغداد الأسطورة أو مثل فيينا تحت حكم فرانز جوزيف. كنا، أنا وبنيللي، نصغي إليه مفتونين وعلى ركبة كل منا تستقر آلة كاتبة خرساء. بعد ذلك كان يكافئنا بأن يعد لنا بنفسه السباجيتي مع صلصة فاخرة في مطبخ غرفته بالفندق. ذات يوم باغتنا المنتج كولامونيشي بدخوله ونحن نأكل، فبدأ يعوي كالحيوان قائلا بأنه يدفع فاتورة الفندق منذ خمسة شهور دون أن يقرأ سطرا واحدا... بعدها أصيب بمرض ما.

شيء رائع أن تكون كاتب سيناريو. لم أكن أتحمـّل أي مسؤولية فكل ما أكتبه يخضع لإعادة الكتابة من قِبل آخرين تتعرّض كتابتهم بدورها للتغيير. وإذا احتوى الفيلم على شيء جيد، كنت أنسبه إلى نفسي.

كنا ثمانية أشخاص نشتغل على سيناريو Document Z3، نلتقي في بيت المنتج ألفريدو جواريني، ونقضي كل الوقت في شرب الويسكي وتناول الآيسكريم والتدخين بشراهة. أحيانا تظهر آيزا ميرندا، سيدة البيت، وسط ضباب من دخان السجائر جالبة معها الكعك. أما جواريني فقد كان يراقبنا بحنان ومودّة، بعينين طافحتين بالعاطفة... كان يدنو من أريكة ينام عليها أحدنا فيلاطف رأسه برقة ويطلب منا أن نخفف قليلا من الضجيج.

يف تحولتَ من كاتب سيناريو إلى مخرج؟

بعد نجاح «روما مدينة مفتوحة» في أمريكا وفي مختلف أنحاء العالم، طلب روسيلليني منا -أنا وأميدي- أن نكتب سيناريو فيلمه الجديد Paisan . أثناء مراقبتي له وهو يعمل، اكتشفت لأول مرّة، بوضوح وعلى نحو مفاجئ،أن بإمكان المرء أن يحقق فيلما بنفس الحميمية الشخصية والمباشرة التي بها يكتب الكاتب أو يرسم الرسام.

تلك الآلة على ظهره، تلك الجلبة من الأصوات والنداءات والحركات والرافعات وأجهزة العرض والمؤثرات الخاصة والإكسسوارات والأبواق، التي كنت أراها في الأستوديو أثناء استدعائي لكتابة مشهد أو إعادة كتابة حوار، كانت تبدو لي مهددة، مربكة، مؤذية جسمانيا.

روسيلليني قلـّل من أهمية كل هذا، ألغاها، أبعدها إلى ركن ضاج لكن مفيد في المنطقة المحايدة حيث يقوم فنان السينما بتركيب صوره بالطريقة التي يرسم المصمم تخطيطاته على الورق. لقد حوّل تلك العلاقة المتبادلة المعقّدة، الأشبه إلى حدٍ ما بجيش في المناورات، إلى اتصال مباشر مع التعبير الإبداعي... هذا الشيء الذي كان مخفيا عني سابقا كما لو تحت حجاب.

بما أن تصوير فيلم Paisan تم خارج الأستوديو، فقد جنّبنا التشوّش الذي لا يمكن وصفه والذي يسببه الأستوديو. لكن الفوضى كانت أكبر في الشوارع الحقيقية، في المدن، والواقع الذي كنا نتحرك فيه. كان أمرا رائعا أن نراقب روسيلليني وهو يقف ثابتا في الطابق الأول، زاعقا عبر البوق، موجها الممثلين بينما السيارات تزأر من خلفنا وأهالي نابولي يطلون من النوافذ صارخين، مساومين، مولولين بين بعضهم البعض، إذا كان الفيلم يتحقق هكذا، إذا كان بالإمكان تنفيذه في الشارع بتلك الطريقة، وإذا كان بالإمكان ممارسته كحدث مستمر بين الحياة وتصوير الحياة، فإن الإخراج يعبّر عن حقيقتي أكثر من الكتابة أو تصميم المناظر. في صنع الفيلم سوف أواجه نفس الصراعات والتوترات،التجربة والخطأ، التي أواجهها أثناء نقل الأفكار من ذهني إلى السيناريو.

روسيلليني يعمل على نحو غريزي، بدون أفكار مسبقة، متقيدا قليلا بالقوانين النظرية أو التقاليد الصارمة والفارغة. لقد كان يتـّبع أسلوبه الخاص، دقة تعبيره الخاص. أنظر فحسب إلى الخاتمة المذهلة لفيلم Paisan حيث الجنود الألمان في مستنقعات نهر البو يتخلصون من رجال المقاومة برميهم في المياه. مارتيللي، عامل الإضاءة، كان يشد شعره بانفعال وهو يصيح: «لا يمكن تنفيذ هذا، لا توجد لدينا إضاءة كافية».

روسيلليني، الذي كان مضطرا للعودة إلى روما لأسباب لا يعلمها أحد -ربما بسبب شهادة إيداع مستحقة الدفع أو كان لديه موعد مع خادمة عجوز- تولـّدت لديه فكرة رائعة. بكاميرتين فقط وبدون تفاصيل تصويرية، صوّر المشهد من مسافة بعيدة، واللقطات المتتابعة اكتسبت قوة لا تقاوَم. إنك لا ترى رجال المقاومة، فقط تسمع صوت سقوطهم في المياه الواحد بعد الآخر.

هل عثر صدفة على تلك الخاتمة لأنه كان مضطرا لإنهاء العمل والعودة سريعا إلى روما، أم العكس؟ هل خلق الشرط أو الحالة التي لا مفرّ منها ولا غنى عنها، حالة الاحتكاك التي فيها تشتعل الشرارة ويتبدّد الضباب الذي كان يحتجز الفكرة؟ ألم يكن تعبيره الدقيق عن تلك الفكرة هو التأويل الأكثر وضوحا، الأكثر قوة، وربما بيانه الحقيقي الوحيد بين الاحتمالات التي لا تحصى؟

قد يقول المرء -و بعض النقاد لم يفوتهم ملاحظة- أن روبرتو روسيلليني كان يميل إلى التطرف، يطلق تلك المؤثرات الغامضة على نحو آلي جدا. مع ذلك أظن أن من روسيلليني تعلمت أخيرا القدرة على صيانة التوازن وتحويل التعارضات والأوضاع المعاكسة إلى أحداث متحركة، إلى مشاعر، إلى وجهة نظر.

لكن الفيلم لم يُفهم جيدا حين عُرض للمرّة الأولى...

تعرّض الفيلم لنقد سلبي، ساخط، وأحيانا بغيض. في إحدى الجرائد قرأت: «العقل الغائم للمخرج لم يشهد الصفاء ولو للحظةٍ في أيٍ من الأجزاء الستة الطويلة». مع ذلك، كان فيلما مهيبا، جليلا، جميلا، ومحركا للمشاعر.

شاهدته مرّة أخرى منذ وقتٍ واستعدت المشاعر نفسها التي اختبرتها قبل سنوات طويلة في نابولي، عندما في صمت وعتمة غرفة صغيرة، وجدت روسيلليني يعمل أمام جهاز المونتاج. كان شاحبا، متشابك الشعر، يحدّق بثبات في الشاشة الصغيرة حيث كان يقوم بمونتاج تمهيدي لأحد أجزاء الفيلم. الصور صامتة ونحن نسمع فقط خشخشة البكرات. مكثت هناك أراقب، مسحورا، وما رأيته بدا لي يمتلك ذلك الابتهاج، ذلك اللغز والجمال والبساطة التي بمقدور السينما أن توحّدها كلها معا في مناسبات نادرة.

تتحدث بحماسة مثيرة للمشاعر عن فيلم Paisan وعن روسيلليني... لابد أن هذا كان حاسما في تطورك...

تصوير الفيلم في أماكن مختلفة أتاح لي فرصة اكتشاف إيطاليا. قبل ذلك لم أشاهد سوى مناطق قليلة في بلادي: فلورنسه، روما، وبعض الرحلات الوجيزة في الجنوب عندما كنت أتجول عارضا الأفلام. مدن صغيرة مغلقة في ليل القرون الوسطى، أشبه بتلك التي عرفتها في طفولتي قرب ريميني. فقط اللهجة تغيرت. الآن، مع هذا الاكتشاف، المثير للمشاعر، لبلادي أدركت أن السينما توفـّر هذا المظهر المزدوج والإعجازي: إنك تروي قصة وفي الوقت ذاته تعيش قصة أخرى، مغامرة مع أناس رائعين وغير عاديين كما أولئك الذين يظهرون في فيلمك الذي تحققه... أحيانا يكونون أكثر فتنة وجاذبية، وجديرين بتصويرهم في فيلم آخر... إنه التناغم بين الابتكار والحياة، الملاحظة والإبداع، المتفرج والممثل، محرّك الدمى والدمية. Paisan كان مغامرة أساسية في حياتي.

من الجميل أن تكمل جزءا ما، توضّبه، تنطلق به داخل الشاحنات، باحثا عن مواقع جديدة. ذات يوم تجولنا من الصباح إلى الليل على طول دلتا نهر البو الموحل بحثا عن منزل صيفي يتذكر روسيلليني أنه رآه عندما كان صغيرا، قبل ثلاثين أو خمسا وثلاثين سنة. كان دليلنا رجلا من المنطقة يضع رقعة سوداء على عين واحدة، والسبب كما أخبرنا أنه أراد ذات ليلة أن يسرق سمك الإنكليس من ممتلكات سيدة نبيلة (كونتيسة) هي التي أطلقت عليه من النافذة.

هذا الدليل الأعور، الذي يعرج قليلا أيضا، جرجرنا وراءه عبر الوحل والمياه طوال اليوم دون أن نعثر على المنزل الصيفي. عند الشفق، خرّ الدليل على ركبتيه أما روسيلليني متضرعا إليه أن يطلق النار على عينه السليمة، لكن لم نكن نحمل مسدسات. بدأ روسيلليني يضحك، ثم صار دليلا لنا، وبعناد جعلنا نستمر، ساحبا المجموعة كلها خلفه عبر ريف بدا كأنه طالع من أحد أفلام كوروساوا. الشاحنات كانت، بين الحين والآخر، تغور في الوحل بينما الطيور السوداء الكبيرة تحلـّق في مستوى منخفض أكثر فأكثر. الأمور بدأت تزداد توترا والحمالون قرروا العودة، عندئذ قفز روسيلليني على سيارة الجيب وألقى خطبة واعدا الجميع بكأس من الرّم (شراب مسكر).

هبط الليل ولم نعد نعرف أين نحن ولا ماذا نفعل في هذا المستنقع. فجأة، ومن دغلٍ من القصب، خرج مندفعا طفل صغير في الثالثة من عمره تقريبا، وتحدث بلهجة أهالي فينيسيا، ثم قادنا وعلى عجل إلى المنزل الصيفي الذي لم يكن يبعد إلا خطوات قليلة منا، إذ كان قريبا جدا من المكان الذي تحركنا منه ذلك الصباح.

تناولنا سمك الإنكليس، ارتدينا ملابس زاهية، طبخنا بنار أغصان مقطوعة... وهبط الليل.

عند اكتمال الفيلم، أهجره ببغض

أعرف أنك لا ترتاد صالات السينما كثيرا... لكن من هم المخرجون، في المشهد العالمي، الذين لفتوا نظرك، أو أي الأفلام أثارت اهتمامك؟

مع مرور الوقت تخليت عن عادة الذهاب إلى السينما. لا أستطيع أن أقدم تفسيرا مقنعا لهذا التغيّر ما عدا أنني، حتى في طفولتي، لم أكن أدمن على ارتياد الصالات. كنت أستمتع بالوقوف طويلا أمام ملصقات الأفلام والصور الهائلة المعلقة على الجدران وقت الإعلان عن العروض القادمة. ربما كنت أحب تخيّل الطقس الآسر الذي يحدث داخل الصالات أكثر من مشاهدة الأفلام.

صالة السينما في ريميني كان اسمها فولجور، وقد سبق أن حكيت عنها في كل أفلامي تقريبا. كانت هناك صورة فوتوغرافية كبيرة لي معلقة في الردهة، فوق شباك التذاكر مباشرة، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من تخيل حال المتفرجين وهم يخرجون من الصالة بعد تفرجهم على فيلم لم يثر إعجابهم وقبل مغادرة دار السينما سوف يوجهون إلى صورتي نظرة مترعة باللوم وخيبة الأمل كما لو إنني المسئول عن سوء الفيلم.

قبل سنوات طويلة، كان مالك صالة سينما فولجور يقف قرب شباك التذاكر مقتنعا بأنه شبيه الممثل الأمريكي رونالد كولمان، والحقيقة أنه لم يكن يشبهه كثيرا، ربما قليلا، عندما يقف في وضع جانبي فيما قبعته تحجب إحدى عينيه. لكن يشبهه فعلا عندما يقف ساكنا بلا حراك ويمسك السيجارة بين أصابعه، إلى اليمين قليلا من ذقنه بحيث يرتفع الدخان مباشرة في موازاة وجهه. وهو يعرف ذلك، لذا كان يتخذ تلك الوقفة حابسا أنفاسه، ساكنا بلا حراك، بين المدخل وشباك التذاكر... بينما خلف النافذة، كانت زوجته تقطع التذاكر فيما طفلها السمين يرضع الحليب من ثديها، وهي مغطية صدرها بشال مزين برسوم زهرية، ومن خلف الشال بوسع المرء أن يسمع صوت الرضع... ومن حين إلى آخر يمكن سماع صيحات الطوقان (طائر ضخم المنقار).

كان مالك الصالة يذهب إلى بولونيا لمشاهدة الأفلام التي سوف يعرضها في صالته. وعندما يعود، كان يحب أن يبدو غامضا... فقد اعتاد أن يقول لنا: «أوه لا، لن أتحدث عن الفيلم» لكن بهزّة رأس معبّرة توحي بأنه شهد في بولونيا أحداثا استثنائية ورائعة. كان يرفض أن يجيب عن أسئلتنا عن الفيلم وشخصياته، وكنا ننظر إليه بإعجاب شديد وحسد بالغ، ونسأله: متى سوف تأتي جين هارلو لزيارتنا؟... فيعلن بثقة تامة: ستكون هنا في الكريسماس...

و نسأله ثانية: وماذا عن والاس بيري؟... فيرد:ربما في نهاية يناير، لست متأكدا.

ثم هناك زوجة الصيدلي التي تحضر إلى صالة فولجور ليتحسس جسمها كل من يجلس إلى جوارها. كانت تشاهد الفيلم ثلاث أو أربع مرات بينما تجتمع حولها حلقة كبيرة من الشباب، أما نحن فنخوض المغامرة الكبرى بالاقتراب شيئا فشيئا من الحلقة مغيّرين مقاعدنا على مهل وفي حذر حتى نصل لننال شيئا من اللذة. وهي لم تكن تلتفت إلى أي واحد منا، بل تدخّن بتلذذ عبر خمار قبعتها، جالسة في هدوء بشفتين نديّتين وعينين نصف مغمضتين، مثبتتين على الشاشة بينما نحن نتنفس بصعوبة وبقلوب على وشك التفجّر، جاعلين من ملامسة فخذها أمرا عظيما.

ثم هناك باغينو الذي كان يقف في جزء معتم من الصالة، خلف الستائر، لكي يتجسس على أي تعبير من الضيق والانزعاج قد تفصح عنه وجوه الجمهور عند ظهور الزعيم موسوليني على الشاشة في شريط الأنباء. ثم يهرع باغينو خارجا ليكتب تقريره إلى الفاشيين. ذات مرّة، قام أربعة شبان بتقييده ووضعه داخل ستارة بحيث بدا أشبه بالسجق، ثم علـّقوه من السقف من كاحليه فيما هو يصرخ مثل حيوان متوحش، وظل بهذا الوضع فترة دون أن يجرؤ أحد على الذهاب إليه وتحريره.

إني أود أن أحقق فيلما عن صالة السينما فولجور، أن أروي كل ما حدث هناك. إن جيلا بأسره تكيّف وصار محميا إلى حدٍ ما، خلال سنوات الفاشية، من قِبل الظلال والأشباح المتّقدة على الشاشات والتي تروي حكايات ساحرة عن البلاد الأغنى، الأكثر حرية، الأكثر سعادة وابتهاجا: أمريكا.

الأفلام الأولى التي شاهدتها كانت في صالة فولجور. الفيلم الأول؟ أستطيع أن أتذكره بدقة لأن صوره أثـّرت فيّ بعمق إلى حد أنني حاولت أن أعيد خلقها في كل أفلامي. كان الفيلم بعنوان «ماشيست في الجحيم»... شاهدته وأنا بين ذراعيْ أبي، فيما كان يقف بين تجمّع حاشد من الناس المبللة معاطفهم بفعل المطر الهاطل في الخارج. أذكر المشهد الذي تظهر فيه امرأة ضخمة عارية البطن بسرّة مكشوفة وعينين تومضان. وبحركة مهيبة من ذراعها، تجعل دائرة من النار تنبجس حول ماشيست، الذي كان أيضا شبه عارٍ .

ثم هناك جريتا جاربو: بيضاء ومأساوية، بأهداب تشبه المروحة. وفي كل مرّة تغمض عينيها، كانت أمي تتنهد وتهمس بصوت خفيض: «يا له من تمثيل رائع».

كذلك توم ميكس، رن تن تن، وشارلي شابلن الذي جعلنا ننتحب في بعض الأفلام على الرغم من أسنانه القارضة الحادة التي جعلته غير محبوب لدينا، بعكس ذلك الرجل السمين الضخم، ذو اللحية والشنب، الذي كان يلاحق شابلن وساقه ملفوفة بقالب من الجص. كنا نحبه. وأذكر أن مدرّس الكيمياء يشبه الممثل السمين إلى حد كبير، وكلما عُرض فيلم جديد لشارلي شابلن، منحنا هذا المدرّس إجازة. في الفصل، كنا بصفاقة نطلب من هذا المدرّس أن يقلـّد الممثل السمين عندما يتلقى ضربة على رأسه أو على الأصابع، وهو لا يتضايق من هذا الطلب بل يستمتع به ويباشر في التقليد محركا حواجبه على نحو سريع وينفخ الهواء تجاه أصابعه التي ضربها الصبي الجالس إلى جواري والذي يحاكي شابلن بإتقان. كنا نصفق في استحسان وحماسة، قاذفين الكتب في الهواء، حتى جاء يوم شاهدنا فيه المدرّس وهو يدخل الفصل حليق اللحية والشنب، حتى حواجبه مخفّفة. وقد اتضح أن المدير، الذي كان قلقا بشأن مقام وهيبة المدرسة، قد وبّخه وخيّره بين أن يزيل لحيته وشنبه أو يغادر المدرسة بلا عودة.

أنت تستطرد وتنحرف عن الموضوع الرئيسي دون أن تجيب على سؤالي... أي الأفلام أثارت إعجابك أكثر من غيرها؟

يجب أن أعترف، بخجل، أنني لم أشاهد كلاسيكيات السينما... مثل أفلام مورنو، دراير، إيزنشتاين... حتى عندما عشت في روما وصرت ارتاد الصالات أكثر من قبل. العديد من مبدعي الأفلام قد حرّكوا مشاعري وأثاروا عواطفي ومنحوني البهجة والمتعة بما صنعوه من عجائب، وجعلوني أصدّق كل ما يقولونه.

كوروساوا الخرافي، بطقوسه وسحره. أفلامه أشبه باحتفال فاتن ومذهل. كان من المفترض أن نشترك معا، إضافة إلى بيرجمان، في تحقيق فيلم بحيث يقدم كل منا جزءا. وقد بعث إليّ كوروساوا برسالة جميلة من اليابان حافلة بالاحترام والكياسة... لكننا لم نستطع أن نحقق الفيلم.

أما إنجمار بيرجمان فأعتبره الشقيق الأكبر... أكثر جديّة، أكثر حزنا أو ربما أقل بما أن تعاسته تبدو مجمّدة في مباراة لا يمكن حسمها مع تخيلاته... ولا أحد يعلم من سيفوز في النهاية. في غضون ذلك، هناك أفلامه التي تسيطر بوضوح على المباراة.

أحب الأخوة ماركس الذين يكتبون أفلامهم. كذلك لوريل وهاردي... المهرّجان المترعان بالبراءة. وكنت دائما مأخوذا برؤية بستر كيتون المستقلة والحيادية للناس والأشياء والحياة، والمختلفة تماما عن رؤية شارلي شابلن الوجدانية، الرومانتيكية، المزخرفة بالنقد الاجتماعي.

سينما جون فورد هي السينما في حالتها النقية، الخفيفة، اللاواعية لذاتها. أحب قوته وبساطته الملطّفة، المجردّة من التعليق الاجتماعي العقيم والمبهم. إنه الفنان الذي عشق السينما وعاش من أجلها، وجعل من الفيلم حكاية خرافية متاحة للجميع... حكاية خرافية عن الحياة ذاتها.

و من الطبيعي هنا أن أشيد بروسيلليني، باقترابه الحر والسلس من الواقع. هو يقظ دائما، واضح، متوهج. أيضا قدرته على وضع نفسه بين أماكن محدّدة بإحكام وأخرى غائمة، بين الحياد الموضوعي والالتزام العنيد... كل هذه الأمور تتيح له أن يأسر الواقع في كل مظاهره، أن ينظر إلى الأشياء في الداخل والخارج في آن، أن يصور عبير الأشياء، وأن يكشف ما هو سحري ومحيّر وغير قابل للإمساك والإدراك في الحياة.

أحب ستانلي كوبريك، أورسون ويلز، جون هيوستون، جوزيف لوزي، فرانسوا تروفو -لا أريد أن أنس أحدا- فيسكونتي، هتشكوك، فرانشسكو روزي، ديفيد لين... كذلك تعجبني علاقة أنتونيوني الصارمة والعفيفة بالفيلم، مثل ناسك-عالم.

و لكي أكون صريحا تماما، يجب أن أضيف بأن بعض سلسلة أفلام جيمس بوند تبهجني كثيرا. هنا، وراء السطح المصقول والمزخرف، والسلسلة المتألقة من المغامرات، أسمع حفيفا منذرا لعالم بغيض ومؤلم... إنه عالمنا الآسر والمروّع. هذه الأفلام غالبا ما تنجح، ضمن شكل تقليدي، في تقديم رسالة عن انحراف وجنون الإنسان المعاصر.

ثم هناك بونويل: شاهدت له فيلما واحدا فقط فهيّج حماستي وجعلني أرغب في مشاهدة كل أفلامه. كان ذلك فيلم «سحر البورجوازية الخفي»... يا له من فيلم فاتن وعظيم.

لقد تحدثت طويلا وفي أحوال كثيرة عن أفلامك، وأنا لا أريد أن أجعلك تكرر أشياء سبق أن قلتها... في هذه الحالة أريد أن أشير إلى شيء ما... أنت صرحت مرارا بأنك أبدا لا تشاهد أفلامك مرة أخرى، لكن ألا تحتفظ بصلة ما معها؟ كيف تنظر اليوم إلى أفلامك... التي تشكـّل «عائلة»؟

يبدو أنني دائما أنتهي بإنتاج الفيلم ذاته. الفيلم يتعامل فقط مع تلك الصور مستخدما المواد ذاتها... ربما من وجهات نظر مختلفة من وقت إلى آخر.

صلتي بأفلامي تحددها كيفية تنامي وتطور الفيلم، واقترابه من الاكتمال. إنها الصلة نفسها مع كل أفلامي. في الأستوديو أكون محاطا بجمع غريب، أنظر إلى حضورهم كنوع من التطفل، الانتهاك، التدنيس. إنهم «مفسدون». هكذا فإن نهاية العمل تبدو أشبه بحالة تشتت، تعطّل. وفي غضون ذلك يظهر شيء والذي يبدو مثل البدء من جديد، من البداية: إنه طور المونتاج. عندما أكون في غرفة المونتاج فإن الصلة مع فيلمي تصبح سرية وشخصية، ولا يعود هناك تشوّش أو دخلاء آو زوّار أو أصدقاء، والذين بطريقة أو بأخرى يؤلفون مزيجا صحيا أثناء التصوير. يتعيّن علي الآن أن أبقى وحيدا مع فيلمي والقيام بتركيبه (مونتاجه).

بعد ذلك تأتي المشاهدة الأولى في غرفة العرض: إنه يظهر على الشاشة مختزلا بفعل المونتاج، حيث لا يزال يحتفظ بدلالات سارة لي فيما يظهر على الشاشة في شكل مناسب ولائق. لكن عندئذ يكون الفيلم قد أحرز استقلاليته، وصوره تنتسب إليه وحده... تلك التي التقطها بنفسه، وتلك التي غرستها بنفسي.

هل لا يزال فيلمي؟ هل أستطيع التعرف عليه ثانية؟ إنه الآن يبدو واقعا في الوسط بين الأخ والمبتز. حبل المشيمة لا يزال يربطنا، وهو ينتظر مني أن أقطعه. في هذه المرحلة الحاسمة أبدأ في التراجع عنه، في تفاديه، في كره النظر إليه مباشرة. المزيج الذي أردت أن أستقطر منه قد تحوّل الآن إلى وعاء آخر، ومن الآن فصاعدا يأفل اهتمامي به على نحو سريع.

أكمله؟ بالطبع أكمله... وبجلبة متزايدة لكي أبتعد عنه أكثر فأكثر، ناكرا صداقتي له وتضامني معه. حين يكتمل الفيلم تماما، أهجره ببغض.

لم أشاهد قط فيلما لي في قاعة عامة. أشعر أن الاحتشام المتطرف يهاجمني بعنف. ذلك أشبه بشخص لا يريد أن يرى صديقه يفعل أشياء هو لا يرغب في فعلها. وعندما أقول أنني لا أشاهد أفلامي مرّة ثانية ولا أراجعها فإن حتى الأصدقاء يبتسمون غير مصدقين، لكنها الحقيقة. ربما يعود ذلك لإحساسي بأن أفلامي لا تقع هنا أو هناك، إنما هي معي، بداخلي... هي أنا، ولست بحاجة إلى تأكيدات أو إثباتات موسمية أو فحوصات مستمرة. إن مواجهتها على الشاشة أو في التلفزيون تسبب لي نوعا من الذعر... كما لو تسير في شارع وترى فجأة وجها ينظر إليك عبر نافذة أو مرآة، فتكتشف في رعبٍ أنه وجهك.

حسنا، لكنك لم تجب على سؤالي. وبما أنك ترفض بشدة التحدث عن أعمالك فيلما فيلما، فدعني إذن أقترح نوعا من اللعب... أنا أطرح عنوان الفيلم وأنت، كما في اختبارات التداعي الحر، تقول ما يخطر ببالك. لنبدأ... أضواء حفل المنوعات (و هو إخراج مشترك مع ألبرتو لاتوادا)...

الفجر الشاحب. انتظار «الفجر الشاحب». أيضا بيبينو دي فيليبو في اصطبل مزرعة كبيرة حيث كنا نحتشد فيما هو يتحدث إلينا عن نابولي في مرحلة طفولته: مسرح سان كارلينو، أنتونيو بتيتو المهرّج الأسطوري، عالم المتشردين حيث الأمجاد والأسمال البالية وحيث مغامرات بينوكيو ودون كيخوته. قصص خرافية عن ممثلين مبهجين لم نعد نجدهم بيننا، هؤلاء الذين لا نظير لهم. كنا نصغي مفتونين بينما ذلك المهرّج العجيب يسلـّي حتى نفسه بقصصه، ضاحكا بخبث على الأشخاص الكسولين، المتعجرفين، حتى يأتي شخص من قسم الإنتاج مندفعا وهو يصيح: «الفجر الشاحب... ها هنا! ليخرج الجميع! إنه الفجر الشاحب».

هكذا أصبح «الفجر الشاحب» جزءا من تصميم المشهد. وكل شخص، حتى الأكثر فجاجة بيننا، تبنّى ذلك التعبير الأدبي إلى حدٍ ما. يوما بعد يوم، كان العاملون يهزّون رؤوسهم في قلق مبالغ فيه، ويقولون لنا -أنا ولاتوادا- «أتريان، لم يعد لدينا ما نفعله هذا الصباح. نحتاج ذلك الفجر الشاحب المبارك. الشهر الماضي كان حافلا بالفجر الشاحب».

الفجر الشاحب صار «شيئا»، مثل سلـّة، مثل سكة حديد، مثل شيء مادي وحقيقي يمكن تلمسّه وتذوقه.

هذه، جوهريا، القصص التي أفضـّل أن أتذكرها عن الأفلام، بل أنها الأشياء الوحيدة التي أتذكرها: عاصفة غير متوقعة، الريف يصير عاصفا فنبحث عن أفضل مأوى نستطيع العثور عليه: تحت شجرة، في شاحنة تابعة للكهربائي، أو نلجأ إلى أحد بيوت المزرعة بطريقة تشبه غزوا عسكريا، وفي غطرسة غير واعية نأمر المزارعين أن يعدّوا لنا عجّة البيض.

هذه اللامبالاة، هذا الطيش، أو -على نحو أكثر تعاطفا- هذا اللعب، هو جزء من عزلة واختلال مهنتنا كسينمائيين. إنها تجعلنا ننظر إلى الناس والأشياء كما لو أن العالم بأسره مجرد موقع تحت تصرفنا، أو هو قسم هائل للأثاث والملابس التي نصادرها دون إذن أو تصريح. نحن نشبه الرسام الذي يتعامل مع الأشياء والوجوه والبيوت والسماء بوصفها أشكالا منذورة لخدمته والتصرف بها كما يشاء.

من أجل السينما، كل شيء يصبح منظرا طبيعيا بلا تخوم، حتى مشاعر الآخرين موضوعة تحت تصرفنا. إحساسنا بامتلاكنا السلطة يجعلنا في حالة من الهذيان، من الثمالة. هذا الإحساس، الذي يوحّد المغامرين والغزاة والنهّابين والمتشردين، يخلق روابط وثيقة وصداقات حميمة. العمل في الفيلم هو العقدة السحرية التي تربطنا جميعا معا. لكن حين يخبو ضوء السطح العاكس الأخير وتنتهي الرحلة، تتحول مشاعر الود والصحبة لينتابها الفتور، ويعود الإحساس بالانفصال والحياد واللامبالاة. لا نعود نتعرّف على بعضنا إلا بجهد، ويستمر هذا حتى دنو الفيلم المقبل حين نجتمع من جديد ونتعانق مطلقين الصيحات الحماسية ومحررين فيضا من الذكريات الجميلة

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً