العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

ثمة وحيد قرن في فيلمي

قبل إرسال فيلمك (السفينة تبحر) إلى مهرجان فينيسيا السينمائي، هل أتيح لك أن تعيد مشاهدته عدة مرات؟ هل قمت بتصحيح أو تنقيح أو تشذيب أي تفصيلة فيه، أم - وهذا ما يحدث غالبا- تم انتزاع الفيلم من يدك ليصل قبل الموعد النهائي؟

كما قلت في مناسبات أخرى، بودي أن أتمكن - حال اكتمال الفيلم- أن أدعه شهرا على الأقل دون مشاهدته، دون التفكير فيه، دون التحدث عنه، بحيث أستطيع بعد ذلك أن أعاينه وأفحصه بهدوء أكثر، بصفاء أكثر، وتكلف وارتباك أقل بسبب الاستعجال. لكن ذلك لا يحدث أبدا.

مع «السفينة تبحر» سارت الأمور كما الحال دائما. بعد المونتاج، قمت بعرضه مع شريط الصوت المؤلف من صوتي، زعيقي، اقتراحاتي. هذه النسخة نسميها «نسخة عمل»، والتي هي، صدقا، النسخة الأكثر جمالا لأنها لا تزال مشوشة، مضطربة، كثيرة الأخطاء. بتلك الطريقة تنظر إلى فيلمك متوهما أنه في ما بعد سوف يصبح الفيلم الأكثر فتنة وإغراء وسحرا... لكن هذا نادرا ما يحدث.

عادة، بالنسبة لهذا النوع من العرض، الأضواء تكون باهتة أو معتمة، والصوت معدّلا. إني أترك الصديقين أو الثلاثة الذين دعوتهم (نفس الأشخاص دائما لأنني أثق بهم وأعرف أنه مهما بدا العمل فسوف يخبرونني بأنه قد أعجبهم) وأمضي متشمما وأنا أذرع حجيرة العرض، أتحدث مرتين مع مشغل جهاز العرض (البروجكتر)، ألقي نظرات سريعة عبر الزجاج متجسسا كما لو مصادفة. وفيلمي هناك، بعيد جدا عني، يتحرك على الشاشة التي تبدأ في تأدية مهمتها الإغوائية. أو، بينما العرض يستمر، أخرج وأجلس على درجات السلـّم المؤدي إلى غرفة العرض في استوديوهات شنيسيتا، حيث يشم رائحتي من بعيد قطيع من الكلاب التي تحتل الأستوديو في الليل.

أحد الأصدقاء أخبرني بأن فيلمي «فظيع»... نحن نفهم بعضنا البعض، هو لا يشير إلى خاصية الفيلم بل يعني بالأحرى أنه تأثر به كثيرا. مبدع الفيلم، المبتهج بفكرة أنه رأى شيئا فظيعا، يشعر أن الفيلم مهم وذو شأن. لكنني في هذه الحالة لا أتفق مع صديقي. إني أجده مبهجا. يبدو لي أشبه بالفيلم الذي يجعلك ترغب في تنفيذ فيلم آخر مباشرة وفورا.

كنت دائما تشعر ببغض شديد للمهرجانات السينمائية العالمية، مع ذلك فقد ذهبت إلى مهرجان فينيسيا... لا تقل أنك كنت مضطرا لحضور المهرجان... .

لنكن صريحين. كل شخص، كما تعلم، يرغب في حضور المهرجانات، حتى أولئك الزملاء الذين هاجموا في الماضي مهرجان فينيسيا على نحو غير مسؤول ثم وجدناهم يهرعون صوب مهرجان كان مرتدين السترة الخطافية والقبعة العالية.

ثمة مجازفة في حضور المهرجانات، هذا صحيح، لكن ذلك ينطبق على كل حلبة تجري فيها منافسة ما. في النهاية، حتى عدم المشاركة هو مجازفة. من جهة أخرى، عندما يكون المنتج سعيدا، والموزع فرحا، والممثلون والممثلات يشعون بهجة، فلماذا نفسد كل هذا الفرح واللهو؟ كما أن مدراء المهرجان يستقبلونك مؤكدين أن لا مجازفة في المسألة ما دمت خارج المسابقة. ويبدو أنك، حين تبلغ سنا معينة، تكون أكثر تميّزا وأنت تقدم فيلمك خارج المسابقة.

تحفظاتي، ومن بينها رغبتي في التنافس، لأنني أعتبر ذلك أكثر تميّزا، غالبا ما تؤخذ -هذه التحفظات- كملاحظات عابرة. في الحقيقة، إذا هم ضمنوا لي الجائزة فسوف أتنافس برغبة واستعداد أكثر. ومادمنا نتحدث عن الجائزة: ألا يقولون دائما أن المهرجانات تشجع وتدعم الفيلم الذي، في النيّة على الأقل، لا يتردد على شباك التذاكر؟ إذن لماذا لا يقررون منح جوائز نقدية؟ أنا واثق بأن المهرجان الذي سوف يبادر إلى دفع شيكات قيّمة إلى أكثر الأفلام تميّزا سيكون من أكثر المهرجانات أهمية في العالم.

لقد حققت حوالي عشرين فيلما، وهذه هي المرّة العشرين التي توجّه إليّ الدعوة لحضور المهرجان. كان ينبغي للتجربة أن تجعل مني شكوكيا بعض الشيء، أو بالأحرى أكثر استرخاء. بدلا من ذلك، يجب أن أعترف بأن الأمر لا يزال مثيرا بل ومزعجا قليلا: الوصول إلى مقر الإقامة عبر زورق مزود بمحرّك أو عبر مرسيدس مكيّفة الهواء. أعلام من كل أنحاء العالم ترفرف على المباني التي تُعرض فيها الأفلام. حالات الذهاب والإياب في اهتياج أو استرخاء. الموظفون العصبيون المبللين بالعرق في ردهات الفنادق الكبيرة. الالتقاء بمنتج يتعذر اجتنابه، ذي لكنة غريبة، بوجه زيتوني ولباس أبيض تماما، والذي يدعوك لصنع فيلم لحسابه. وهناك أيضا المؤتمرات الصحفية.

آه نعم... المؤتمرات الصحفية. لا يبدو أنك تحبها كثيرا. لكن أ ليست هي جزء من مهنتك؟

أن أجد نفسي محتجزا خلف طاولة مع ميكروفونين أو ثلاثة تحت أنفي، شارحا سبب وجود وحيد قرن في فيلمي، ليس هو الوضع المفضل لدي. أشعر بانزعاج تام وأنا أتحدث عن ما فعلته. ينتابني الإحساس غير المريح عندما أدافع عن نفسي بتزيين فيلمي، تلوينه، زخرفته بالكلمات، مخترعا المبررات في محاولة يائسة لمنحه عمقا فكريا وجدّة بصرية. وأنا أتعامل مع كل هذا بجدية تامة. لا أحاول أن أكون موضوعيا. لست مفعما بالحيوية والنشاط: الخلاصة... أنا مريض.

أحيانا أحاول تفادي المؤتمرات الصحفية، لكن تصرفي هذا قد يبدو للبعض غطرسة وفظاظة، حتى بعض الأصدقاء يشعرون بالانزعاج والضيق. لكن ذلك في الواقع مجرد جبن مني، إحساس بالانسجام، ولأنني لا أريد أن أكون مضجرا. إذا قلت أن ثمة وحيد قرن في فيلمي لأن اختصاصيين بحريين أكدوا لي أن في 1914 كان على كل سفينة أن تحمل وحيد قرن في عنبر السفينة، فإن الأصدقاء في الصحافة سوف يعتقدون، وهم معذورون، بأنني أحاول أن أروي نكتة. ولو قلت لهم، عوضا عن ذلك، أن في أحشاء السفينة، في أعماقها، يكمن ألهذا (الجانب اللاشعوري من النفس الذي يعتبر مصدر الطاقة الغريزية أو البهيمية)، يكمن لا وعينا، الجزء الحيواني منا والذي يتخطى الزمن والمكان، ومع ذلك يساند ويعزز وجودنا، مرغما إيانا بالضرورة على التعايش معه، لو قلت هذا لشعر الجميع بالسعادة مع مثل هذه الإجابة، لكنني حتما سأشعر بشيء من السخف.

أنا أميل إلى أن يكون المؤتمر الصحفي صامتا بحيث نتطلع إلى بعضنا البعض، نتبادل الابتسام، نحيي بعضنا البعض بالتلويح بالأيدي، بل ونتبادل الهدايا، كل هذا دون أن ننبس بكلمة، بعدئذ يذهب كل واحد منا ليباشر عمله.

بمشاهدة فيلمك مرّة أخرى في مهرجان فينيسيا، هل تكوّن لديك شعور مختلف عما توقعته؟

في هذا الموضع أيضا سوف أكرر ما سبق أن قلته. إنها عادة قاسية والتي تجعل سينمائيا ما يشهد كيفية مضغ وازدراد وابتلاع فيلمه في معدة صالة سينما هائلة. فيلمك على الشاشة له نبضه الخاص، وأنت تلاحظ أن للجمهور نبضا مختلفا. قلبان يخفقان على نحو غير متناغم إيقاعيا. هذه الثنائية، هذا الافتقار إلى التزامن، يخترق كيانك، يقلقك ويزعزعك، يعذبك، يجعلك عليلا.

لكن كيف تنقذ نفسك من هذا التعذيب عندما تجد نفسك جالسا قرب وزير أو امرأة جميلة أو الدوق الأكبر، ولا تستطيع أن تتسلل خارجا؟

إني أغمض عينيّ وأبدأ في تذكّر أحداث سابقة، لقاءات سارّة، مغامرات مغوية، كما أقوم بإجراء عمليات حسابية مثل: كم مرّة في السنة فعلت شيئا معينا. أيضا أتخيل أني أرد على نحو فوري على رسائل موجودة في جيبي. باختصار، أهرب بكل وسيلة ممكنة من عرض الفيلم الذي يدور أمامي بلا شفقة، ولا ينتهي أبدا.

من حين إلى حين أفتح عينا واحدة وأتطلع إلى فيلمي، الذي يجعلني حزينا بعض الشيء، متروكا لمصيره الغامض أمام آلاف الأعين التي لا أحد يدري إلى ماذا تنظر وكيف تنظر. حتى بالنسبة إلى عينيّ، أفلامي أحيانا تبدو مختلفة. هذا يعتمد على المدينة التي أشاهد فيها أفلامي، وصالات السينما، والأفراد الذين أكون برفقتهم. الأفلام متحولة، متقلبة، غير مستقرة، وفقا للأوقات والمواسم التي فيها تُعرض هذه الأفلام. إنها تعكس مزاج صالة السينما: هل هي مضجرة؟ الفيلم بدوره يصبح مضجرا. الجمهور لا يفهم الفيلم؟ عندئذ يصبح الفيلم غامضا ومتعذر الفهم أكثر من أي وقت مضى.

لهذا السبب أنا لا أرغب أبدا في مشاهدة أفلامي مرة ثانية، أو ربما فقط عندما أبلغ سنا متقدمة، حيث أكون قد نسيتها تماما، بإمكانها حينذاك أن تظهر لي كما هي حقا للمرّة الأولى.

الشيخوخة مرة أخرى: هل تريد أن ننهي هذه المقابلة كما بدأنا؟ فلليني في الثمانين، فلليني في التسعين... كيف ترى نفسك؟ ما هي مشاريعك المستقبلية؟

الذاكرة... إنها تضعف ويعتريها الوهن. إني أعاني من مشكلة عدم تذكر أسماء الأفراد، إضافة إلى كلمات معينة أحيانا. قبل سنوات طويلة ظننت أنني، خلال شيخوختي، سوف أقرأ الكتب التي لم أقرأها وظلت تنتظرني بإخلاص. سوف أتجول في أنحاء المتاحف التي لم أزرها قط: الهند، التبت. لدي صديق في بنارس، غالبا ما نتبادل الرسائل. ذات مرّة أخبرني أنه استطاع بطاقة ذهنه أن يجعل ذاتي الثانية تتجسد في حديقة منزله... هذا العمل الفذ بدّد رغبتي في زيارته.

إني أعزّي نفسي بالتفكير في الشيوخ العظام الذين تحدثت عنهم سيمون دي بوفوار في كتابها الجميل. لقد قرأت، وأعدت قراءة، الصفحات المخصصة لتولستوي، فيردي، فيكتور هوجو. كنت آمل أن أجد بعض التماثلات بيني وبينهم... لكن، لا شيء.

قرأت في مكان ما أن الكاتب دانونزيو، عندما تقدم به العمر، أخذوه ذات أمسية لمشاهدة عرض مسرحي لإحدى تراجيدياته. العرض كان على شرفه، وكل الشخصيات الرسمية كانت هناك، إضافة إلى شخصيات اجتماعية بارزة. دانونزيو، الجالس في الصف الأول، طوال الوقت كان يضحك في استهزاء، يقاطع الممثلين، يوجه لهم الإهانات، وكان يريد أن يعرف من هو مؤلف هذا العمل السخيف السيئ، منتقدا الجميع بقسوة. وكلما اعترى العبوس الوجوه المحيطة به، وارتسمت عليها أمارات الفزع والاستنكار، ازداد الكاتب استغراقاذ في الضحك.

سؤال أخير: ما الذي هو متروك لك لكي تقوله في فيلمك القادم؟

لا أعرف. بعد الكثير من الوفيات، بعد نيل الكثير من المتعة في تصوير الأنقاض والتفسخ، فإنني أرغب في إسعاد الناس... النسوة خصوصا اللواتي، بنبرات محبطة برقـّة، وبترقـب مفعم بالأمل، يرددن بعد عرض كل فيلم لي: لكن لماذا لا تصور قصة حب جميلة؟

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً