العدد 2507 - الجمعة 17 يوليو 2009م الموافق 24 رجب 1430هـ

الأزمة الإيرانية في أسبوعها السادس

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

دخلت أزمة الانتخابات الرئاسية في إيران أسبوعها السادس، وهي لاتزال مفتوحة على احتمالين: الأول عقد تسوية تصالحية تحت سقف القانون كما ذهب أمس رفسنجاني في خطبة الجمعة. والثاني تجويف الثورة وتفريغ الدولة من جيلها الأول المؤسس كما يطمح «تيار المحافظين الجدد» في النظام.

حتى الآن لم تتوفق السلطة السياسية في تشكيل اتفاق إطاري ينقذ الجمهورية من الانزلاق نحو المزيد من التوتر الداخلي وما ينتجه من تجاذبات أهلية ومواجهات بين الأجهزة والشارع. وهذا التأخر في التوصل إلى ابتكار آليات تعيد ترتيب العلاقات المتخثرة وترمم جسور الثقة يثير ذاك السؤال بشأن ما حصل ولماذا وصلت الأمور إلى هذه الدرجة من التدهور.

المسألة لاشك ليست من اختراع القوى الأجنبية، ولا يمكن أن تكون أيضا مجرد سحابة صيف تمر من دون مراجعة نقدية وإعادة قراءة لتلك المحطات التي مرت بها الثورة الإسلامية في تاريخها الذي امتد على ثلاثة عقود.

لابد أن يكون هناك مجموعة عوامل تراكمت زمنيا إلى أن وصلت الأزمة إلى إطار مفتوح على احتمالين. فالمسألة كما يبدو كبيرة وجاءت تفاعلاتها العنيفة لتشير إلى وجود تراكمات مزمنة أنتجت في سياقها ثغرات أفسحت المجال لظهور «طفيليات» في مسام السلطة لا تكترث للسمعة ولا تهتم لتلك المخاطر التي قد تتأتى من الإصرار على استكمال نزعة العسكرة والاستئثار بمفاصل الدولة ومصادر الثروة.

مرت الثورة خلال العقود الثلاثة في مخاطر كبيرة ونجحت في تجاوزها واستيعاب دروسها والبناء عليها لمواصلة المهمات المطروحة. في البدء كانت الحرب المفروضة وهي تلك التي بدأت فجأة ومن دون انتباه ونجح رئيس الوزراء آنذاك مير حسين موسوي في إدارة اقتصاد الدولة في أصعب المراحل.

في تلك الفترة المرة تعرض موسوي لحملات تشهير من قوى الاعتراض وأجنحة الدولة اتهمته باعتماد نزعة «يسارية» و «اشتراكية» في التعامل مع القطاعات المنتجة. موسوي رفض الاتهامات مشيرا إلى أن طبيعة الظروف (الحرب المفروضة) استوجبت تدخل الدولة والإشراف على ترتيب الاقتصاد حتى يتناسب الإنتاج مع حاجات الحرب. الأولوية في تلك الفترة (1980-1988) كانت تفرض على الدولة التدخل المباشر لتأمين متطلبات الحرب وما تحتاجه القطاعات العسكرية من دعم لوجستي يلبي الجبهة الأمامية لتلك العناصر الضرورية التي كان من الصعب استيرادها من الخارج بسبب الحصار.

السياسة التدخلية للدولة في عهد موسوي كانت مشروطة بالحرب ومتطلبات القطاعات العسكرية. فالظروف الصعبة فرضت عليه الانتباه إلى توظيف المال العام لتطوير مؤسسات التصنيع الحربي وتوسيع رقعة الاستثمار في المجالات العسكرية. وبسبب امتداد الحرب على ثماني سنوات تأسست قطاعات إنتاجية عسكرية ساهمت في منع انهيار الجبهة الأمامية وعززت قدرات الدولة على الصمود.

توقفت الحرب في العام 1988 ورحل الإمام المؤسس في العام 1989 وهذا ما وضع الدولة أمام مهمات إضافية اشترطت إعادة هيكلة المؤسسات وتراتبها الوظيفي من جانب (إلغاء منصب رئيس الوزراء وترحيل صلاحياته لرئيس الجمهورية) والدخول في مشروع إعادة بناء ما دمرته الحرب من جانب آخر.

تولى الشيخ هاشمي رفسنجاني مهمة الإشراف على البناء وهي مهمة كانت صعبة بسبب استمرار الحصار على إيران ما اضطرها إلى الاعتماد على الذات وتطوير مؤسسات الإعمار والذهاب أحيانا إلى السوق الدولية الحرة لشراء المعدات والأجهزة والأدوات بأسعار خيالية وتهريبها حتى لا تصادر أو تعطل.

نجح رفسنجاني في مهمة إعادة الإعمار بسرعة قصوى ولكن بكلفة عالية إذ وقعت الخزينة في أزمة سيولة (تراجع أسعار النفط) ما رفع حجم ديون إيران إلى 40 مليار دولار. وجاءت فترة رفسنجاني في إطار اهتزازات إقليمية ودولية كبرى (حرب الخليج الثانية، وانهيار الاتحاد السوفياتي) ما اضطره إلى تطوير الاستثمارات في القطاعات العسكرية وتوسيع رقعة التوظيف في مؤسسات التصنيع الحربي حتى يضمن عدم تعرض الجمهورية لضربات غير محسوبة كما كان الأمر في مطلع عهد الثورة.

شهدت مرحلة رفسنجاني (1989 - 1997) قفزة نوعية من التطور في مجالات الصناعة العسكرية ترافقت مع مهمة إعادة إعمار ما دمرته الحرب (مؤسسة البناء) وانتهت إلى توفير فترة استقرار تحسنت خلالها علاقات إيران مع دول الجوار العربية وتراجعت تلك المخاوف التي لعبت الحرب المفروضة دورها في تفعيلها وأثارتها في المحيط السياسي الخليجي.


تيار المحافظين الجدد

لم يختلف الأمر كثيرا في عهد محمد خاتمي (1997-2005). فالرئيس (الفيلسوف) تابع مهمة إعادة البناء وسدد ديون كلفة إعادة الإعمار وطور العلاقات مع المحيط العربي والإسلامي وأسس جسور ثقة مع دول الجوار بسبب تركيزه على الانفتاح والتواصل وإزالة كل الشكوك التي ترسبت خلال فترة بداية الثورة وتلك الحرب المفروضة التي تعرضت لها الجمهورية في مطلع عهدها.

إلا أن فترة خاتمي الثانية شهدت تجاذبات سياسية داخلية تمثلت في نمو قوى اعتراض من أجنحة الدولة ترفض نزعة الإصلاح والتسامح والانفتاح. فهذه الأجنحة تولدت من المجاميع العسكرية التي نجحت في تشكيل مراكز قوى أمنية تعتمد على شبكة من المصالح والاستثمارات والتوظيفات.

ونجحت قوى الاعتراض في تكوين لوبيات في مجلس الشورى أخذت تعطل قرارات الرئيس مستفيدة من تلك التحولات الدولية التي قادتها إدارة جورج بوش (تيار المحافظين الجدد) ضد العالم الإسلامي.

جاءت الفضاءات الدولية المضطربة لتصب في مصلحة «تيار المحافظين الجدد» في إيران وتغذي طموحاته السياسية باتجاه الانغلاق والعسكرة تحت مظلة الخوف من إقدام الولايات المتحدة على توجيه «ضربة استباقية» كما حصل في أفغانستان (العام 2001) والعراق (العام 2003).

لم يكن أمام خاتمي من خيارات أخرى. فالاحتمال العسكري (مواجهة غير متوقعة) كان واردا وهذا ما دفعه في السنتين الأخيرتين من عهده (2003 - 2005) إلى تقديم تراجعات لتلك الأجنحة المحافظة التي أسست مراكز قوى فاعلة في إدارات الدولة وأجهزة الأمن مستفيدة من التوظيفات المالية الاضطرارية في القطاعات العسكرية ومؤسسات التصنيع الحربي. وبسبب الخوف من الخارج والحاجة إلى الداخل واصل خاتمي تحسين علاقات إيران مع المحيط العربي ودول الجوار واتجه نحوهم في سياق ترتيب الفضاءات الإقليمية ضمن منظومة مشتركة لتحصين المنطقة ومنع الاختراق الأميركي والحد من نمو «الفوضى» وانتشارها بهدف تأمين الاستقرار وضمان نسبة معقولة من الهدوء والتكيف مع الصعوبات التي أنتجتها إستراتيجية التقويض الأميركية.

اتخذ خاتمي في السنتين الأخيرتين من عهده مجموعة إجراءات قاسية ولكنها كانت ذكية لتحاشي المواجهة العسكرية مع الثور الأميركي الهائج الذي طوق إيران بالقواعد ومهابط الطيران في أفغانستان والعراق. وأدت الخطوات الاضطرارية (تجميد تخصيب اليورانيوم لفترة سنتين) إلى تقليص مخاطر الحرب (العدوان الأميركي) وتطمين دول الجوار وحماية إيران والمنطقة من كارثة عسكرية جديدة. ولكن التجميد أنتج معارضة داخلية قادها «تيار المحافظين الجدد» الذي أصبح في موقع المستفيد مصلحيا من شبكة التصنيع الحربي والتوظيفات المالية في القطاعات العسكرية.

شكلت مراكز القوى أدوات ضغط عطلت على خاتمي القدرة على اتخاذ قرار أو تنفيذ إجراء واستمر الأمر بين أخذ ورد إلى نهاية عهده الذي شهد بداية تفكك جبهة قوى الإصلاح والتسامح والانفتاح والاستقرار لمصلحة نمو قوى «تيار المحافظين الجدد» في طهران.

نجاح محمود أحمدي نجاد في معركة الانتخابات الرئاسية في العام 2005 جاء في سياق تموج مواقع الإنتاج في الجمهورية وبدء نمو مراكز قوى في الدولة تضغط باتجاه مواصلة عسكرة الاقتصاد (اقتصاد حرب) وهي السياسة التي بدأها موسوي اضطرارا في عهده لتلبية حاجات الجبهة الأمامية.

الآن كما يبدو انتقلت سياسة العسكرة من الحدود إلى الجبهة الداخلية ولم تعد مجرد خطوة إجرائية لتغطية متطلبات الحرب المفروضة على جبهة صدام حسين في العراق وإنما أصبحت مصلحة اقتصادية تلبي حاجات الأجهزة الأمنية وتلك الشريحة من «الطفيليات» التي استفادت من التوظيفات والاستثمارات على امتداد 30 سنة في القطاعات العسكرية ومؤسسات التصنيع الحربي.

ما يحصل في إيران منذ 12 يونيو/ حزيران الماضي يتجاوز حدود «حادث مرور» عفوي يقع أحيانا على تقاطع طرقات. فالمسألة كبيرة وتتعدى الكثير من القراءات التي اختزلت الأزمة في إطار ابتكارات فنية وتقنية لجأ إليها وزير الداخلية لتدوير نتائج الانتخابات. هذا جانب من القصة إلا أن الجوانب الأخرى تشير إلى نمو قوى اعتراضية في مراكز الدولة لا تتردد في استخدام القوة لمنع الشارع من الاحتجاج سلميا ولحماية مصالح أخذت تنتشر لأحكام القبضة الحديد على مفاصل الجمهورية ومصادر الثروة.

دخلت أزمة إيران أسبوعها السادس وحتى الآن لم تتوفق السلطة السياسية في ابتكار اتفاق إطاري ينقذ الجمهورية من الفوضى الدستورية ويرفع الغطاء عن المراكز والمواقع التي أخذت تتدخل لتعديل مسار الثورة الإسلامية. وهذا الجمود يعني أن الأزمة لا تزال مفتوحة على الاحتمالين.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2507 - الجمعة 17 يوليو 2009م الموافق 24 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً