العدد 197 - الجمعة 21 مارس 2003م الموافق 17 محرم 1424هـ

بغداد تستجمع قواها للأسوأ

في شارع ياسر عرفات، وفي صيدلية سناء نمر الإبراهيم، منحني «رياد» لفافتين من الضمادات مجانا. اخبرته أنه من الأفضل أن ادفع ثمنهما بما أنني أعلم أن الطائرات الاميركية والبريطانية تقوم بقصف المدينة الآن، فأجابني بابتسامة عريضة لا استحقها.

وبما اننى بريطاني، فإن شراء مؤن الطوارئ من المحلات التجارية مساء الأمس في بغداد كانت تجربة تعليمية لي. كانت «صيدلية رياد» مزدحمة، وزبائنه لا يشترون الضمادات فحسب، بل والجبائر للكسور أيضا، ومسكنات الألم، والملاقط الصغيرة، والقطن الطبي، المطهرات، وكحول التدليك، كان هذا من الساعة الخامسة مساء وحتى العاشرة ليلا.

وعلى طول شارع ياسر عرفات في بغداد، حتى الان لا توجد لعنات أو كلمات نابية ضد البريطانيين، اذ اسمع دائما بأنني «مرحب بي» في العراق - اذ يأمل قليل من الصحافيين منا أن يبقى الحال هكذا حتى بعد بدء المعركة - وانه لأمر سار للمواطن العراقي أن يرى الصحافي يجازف بنفسه متعرضا للمخاطر نفسها التي يتعرض لها الناس في الشوارع. وقد حان الآن ومع بدء الحرب أن أذكر لكم أنني أمتلك كنزة مضادة للنيران بينما هم لا يمتلكون، وانني أملك قناعا واقيا من الغاز السام بينما هم لا يمتلكون بل وامتلك الخوذة التي يمكن ان تلائم أيا من رؤوسهم، ولكن يبدو أنها الوحيدة الموجودة على رأسي.

ورب ضارة نافعة، فالتجار حصلوا على زيادة 100 في المئة في اعداد زبائنهم. في بقالة الاسترباك، اشتريت 25 لفافة من ورق اللعب، ومقدارا كبيرا من البسكويت وحزمة من الشمع الأحمر والأخضر. أخبرني «عباس» أنني زبونه رقم 200 في هذا المساء. عادة ما يكون عدد زبائه أقل من 100 شخص في اليوم بكامله.

وفي متجر «البركة»، وضعتُ نحو 24 كيسا من رقاقات بطاطس مقلية، وصناديق من الجبن طويل الصلاحية، و30 علبة من سفن أب على الكاونتر. بعد حصار أو حصارين اذ كان الحصار الاسرائيلي لبيروت في العام 1982 التجربة الأولى لي والمرء يطور براعة خارقة في معرفة ما يحتاج إليه في مثل هذه المواقف.

اشتريتُ أيضا وصلة كهربائية من محل «سامي الصغير» لكمبيوتري على رغم أننى قد لا استخدمه إذا استهدفت القنابل الأميركية شبكات الطاقة العراقية. أما شراء الخضراوات واللحوم فإن شراءها من أي نوع فإنه يعتبر هدرا للمال ما لم تكن معلبة. وهذا ما أقبل على شرائه العراقيون. واشترى الطبيب محمد، في مستشفى كرمة، موسى حلاقة لعله يتزين في الماء البارد إذا كانت هناك كهرباء لضخ المياه.

في هذه اللحظة تم اغلاق غالبية المحلات التجارية في شارع عرفات بواسطة مالكيها خوفا من السرقات، ولا ترى على الأرصفة الكئيبة إلا المتسوقين والجنود في آخر الليل.

هناك رأيت منتسبا إلى الحرس الجمهوري وهو ملتحٍ يمسك بيد ابنه الصغير في آخر زيارة له لأسرته، ربما قبل اشتداد المعركة، وهو يقول: «بات من الصعب التنبؤ حتى الآن بما تبقى لنا من مؤن في المتاجر».

هناك أيضا مدفعان مضادان للطائرات قديمان من صنع سوفياتي وقد وضعا على بوابة تذكارية للقصر، وتمت اضاءتهما بواسطة الاضواء الكاشفة في اسفلهما. اكوام المتاريس الترابية في زوايا الطرقات ومن ورائها يثرثر الجنود وبعض المتسوقين المتأخرين. هل هذا ما تفعله الحرب دائما بالناس؟ هل تحولهم إلى رجال ونساء يعيشون فقط الآن لأنهم نجوا أخيرا من حرب سابقة؟

أخيرا دعاني «الطبيب محمد» إلى عيادته لأننا جميعنا يفترض أن نكون هناك من خسائر بشرية مع المدنيين. التلفزيون العراقي عرض مشاهد الدمار للقذائف الاميركية والبريطانية في أول جولة من الحرب، وتصريحات وزير الاعلام بالصمود وراء «القائد المجاهد صدام حسين». وقال الوزير للصحافيين الاجانب: «إن هذه الحرب لن تكون مرعبة» - اذ لا يستطيع أحد أن يعارض حديثه في هذه اللحظة، واضاف «ان الأميركيين والبريطانيين يقتلون دائما في أية حرب عراقية». ربما يكون ذلك صحيحا على رغم أن العراقيين كانوا مشفقين بالأمس لمعرفة كم منهم سيقتل على يد الاميركيين والبريطانيين

العدد 197 - الجمعة 21 مارس 2003م الموافق 17 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً