العدد 200 - الإثنين 24 مارس 2003م الموافق 20 محرم 1424هـ

هندسة التنظيم

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

«نظرية بيتر» كما يطلق عليها صاحبها الذي كتب كتابا عنها العام 1969 استحوذت على تفكير الكثير ممن اطلع عليها وعلى أساسها أنتجت أفلاما ومسرحيات، ودخلت في قاموس المصطلحات. تقول نظرية بيتر «The Peter Prin-ciple» إن حضارة العصر خلقت تركيبات هرمية في شتى مجالات حياتنا، وان الإنسان يسعى إلى الارتقاء من مرتبة هرمية إلى مرتبة أعلى منها لكي يصل إلى مستوى عدم كفاءته وسقوطه. وبحسب وجهة النظر هذه فإن بيتر لورنس يتحدى نمط الحياة في المدنية المعاصرة، لأنه يقول إن الإنسان يكافح للارتقاء ثم الوصول إلى مستوى فوق كفاءته لكي يسقط بعد ذلك، ترى هل هذه النظرية صحيحة؟

يقول بيتر لورنس إن عدم الكفاءة الوظيفية ظاهر للعيان في كل مكان. سياسيون مهزوزون يتظاهرون بالصلابة والتمكن من وضعهم، ولا يتوقفون عن القاء اللوم على الظروف وعلى الآخرين الذين لا يفهمون ما يطرحون لتبرير فشلهم... إداريون، موظفون، حقوقيون، يفعلون المنكرات ويخطئون أخطاء فادحة... كل هؤلاء بذلوا الجهد الكبير لكي يصلوا إلى مرحلة فشلهم... المرحلة النهائية التي يسعى إليها إنسان المدنية الحالية... والسبب - بحسب رأي بيتر ـ ان التركيبة الهرمية تفرض على الإنسان أن يسعى إلى الارتقاء بصورة مستمرة ولا يتوقف ذلك الإنسان في سعيه إلا إذا وصل إلى مرحلة فشله وسقوطه في المرتبة الهرمية التي سعى إليها. ولهذا السبب فإن الأشخاص قد يتخذوا أنماطا للتعايش مع هذا الفشل. فهناك الشخص الخاضع: هذا الشخص يخضع للأسس والقوانين والأعراف والأطر ذاتها التي نشأ عليها وتعلمها. هذا الإنسان الخاضع بإمكانه السير في حياته من دون السقوط من أعلى، شريطة أن تستمر الظروف المحيطة به على النمط نفسه الذي عايشه الشخص وتعلمه في السابق. ولأن هذا الأمر غير ممكن فإن الشخص الخاضع سرعان ما يصل إلى مرحلة فشله عندما يتغير ظرف معين لم يعهده من قبل.

الشخص محدود المهارة: قد يبرع هذا الشخص في إحدى المهارات بصورة متفوقة، وفي فترة ما من حياته قد يواجه فرصة أخرى أعلى تتطلب مهارته المتفوقة بالإضافة إلى مهارة أخرى تكون هي المدخل لإيصاله إلى مرحلة فشله.

الشخص الذي يرقى السلم الهرمي: وهذه حال الكثير من الناس الذين يلهثون وراء الرتب الوظيفية الواحدة تلو الأخرى، وفيما لو كان الطريق مفتوحا باستمرار فإن الكثير منهم يصل بصورة أسرع إلى مرحلة عجزه وسقوطه وفشله.

ولاحتواء هذه المشكلة فإن مدنيتنا اخترعت وسائل كثيرة للتخفيف من الفشل المحتوم. شخص تتم ترقيته بالاسم إلى منصب من دون وظيفة فعلية (وزير بلا وزارة، مستشار خاص، إلخ). الناس تختفي خلف البيروقراطية للتخصص في جزء محدود في تسيير شئون المجتمع من دون إعطاء الفرصة لتحديد الفشل النهائي (هذا ليس من شأني، انه مسئولية فلان... وهكذا دواليك).

ربما كانت هذه النظرية هي التي دفعت شخصا آخر إلى تأليف كتاب بعنوان «Up the Organisation» بمعنى «طز في التنظيم»، يطرح فيه طرقا مختلفة لمنع الهيكلية الضخمة للتنظيمات من تعطيل الأفراد وخلق الفشل. روبرت تاونزند يطرح ملاحظات وخواطر لإخراج من لا صلة له من ورطة العمل المنظم، الذي أصبح من ضرورات حياتنا المعاصرة. يتبرع صاحبنا بإرشاداته عن الأمور المختلفة، فيقول لك كيفية إعطاء وعد بتنفيذ المهمات: التزم بكل ما وعدت بالقيام به، عندما تعطي وعدا بتنفيذ أمر ما لا تنسَ ان تحصل على أطول وقت ممكن ثم نفذ الطلب قبل ذلك الوقت. قد يمكنك ذلك من الارتقاء إلى الأعلى، وهناك ستجد ان معظمهم لا ينفذون ما يعدون به، ولك الخيار في أن تنضم إليهم. وفي العام 1993 خرج علينا اثنان من علماء الإدارة الأميركيين (مايكل هامر وجيمس غامبي) ليطرحا نظرية أخرى قالا إنها الأولى من نوعها منذ أن استحدث آدم سميث (قبل قرنين) اسلوب تنظيم العمل في المصانع والأعمال التجارية، ذلك التنظيم الذي يرى ضرورة تجزئة العمل المعقد إلى أنشطة بسيطة يخصص عدد من الأشخاص للقيام بها بصورة تخصصية، ثم يكون ناتج جمع التخصصات في مكان واحد أو عمل واحد هو إنتاج ذلك الأمر المعقد. ولكن العالمين الأميركيين طرحا نظرية أخرى تعتمد على تقليل الهيكلية التخصصية وتنظر إلى الأمور بصورة أفقية... الخ. وجنّ جنون الشركات الكبرى التي سارعت للأخذ بمعظم الأفكار وطردت جيوشا من العاملين والمديرين تحت اسم «Reengineering» وهو المصطلح الجديد الذي اخترعه هذان العالمان، والذي ينص على ان تنفيذ المهمات لا يحتاج إلى تبسيطها إلى تخصصات على طريقة آدم سميث وهنري فورد، وإنما يحتاج إلى تبسيط الأمور إلى عدد من «العمليات» المحورية التي تجمع عددا من التخصصات في آن واحد... إلخ.

أحد ضحايا هذه النظرية، سكوت آدم، أقيل من عمله تحت ذريعة «إعادة هندسة التنظيم» ولكنه قرر الانتقام من خلال خلق شخصية وهمية باسم ديلبرت «Dilbert» وكتابة التعليقات الطريفة المصحوبة بالرسومات الالكترونية. وحصلت كتبه على أعلى أرقام المبيعات في كتب الإدارة، بحسب المجلات المتخصصة.

المسكين ديلبرت هو الضحية الذي يعمل في زاوية إحدى الشركات، ويمثل في مشاعره جميع الموظفين الذين يقعون بصورة مستمرة ضحايا لعالمنا المنظم بصورة معقدة، ويقعون ضحايا أيضا عندما يأتي مستشار إداري بنظرية جديدة لمنع العمل من السقوط. ديلبرت يشبه «حنظلة»، يعيش الإهانة من رؤسائه بصورة يومية، نظراؤه في العمل ينافسونه من دون رحمة، ولديه كلب صديق، يعتبره مستشاره الإداري. سكوت آدم المطرود من عمله، بالأمس، يدخل شركته التي طردته، إذ تبنت رسوماته لأنها تعطي المعنى المضاد والمقلوب لما يدعيه منظرو الإدارة والتنظيم، وحتى هامر وغامبي علقا رسوماته المضادة لهما في مكتبهما.

ترى، لماذا نجح بيتر لورنس وروبرت تاونزند وسكوت آدم في تحقيق الشهرة عندما قالوا: «طز في التنظيم الذي لا يسعد الإنسان»؟

يبدو لي ان الكثير من الحلول والتسهيلات التي يطرحها الإنسان لحل مشكلاته وإسعاده، قد تتحول مع الأيام إلى مشكلة بحد ذاتها تحتاج إلى جرأة وصفاء فكري ونفسي لإزاحتها من الطريق. فالإنسان هو الأساس، وكل ما اخترعه الإنسان يجب أن يكون في خدمة الإنسانية لا العكس، فالسيارة والقطار والطائرة اخترعوا لتسهيل حياة الإنسان، والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري خلق لخدمة الإنسان في تحقيق أهدافه ولإسعاده. وعندما تتحول تلك الأداة وتلك الوسيلة إلى معبود أو إلى سجن أو إلى مشكلة تقف أمام سعادة الإنسان، لابد أن يتجرأ أحدنا ليقول: «طز في التنظيم» و«طز في السيارة» وغيرها إذا تحولت إلى أداة خانقة ومحبطة ومركب غارق يغرق من يركبه. والإنسان الذي خرج من الحياة البدائية إلى الحياة المدنية المتقدمة لم يخرج إلا عندما انتصر على المشكلات والعقبات التي تقف أمامه، وكل ذلك بفضل نعمة العقل التي وهبها الله أعز مخلوقاته... فلا قدسية لأي شيء يحط من كرامة وعزة الإنسان، لأن الله لا يرضى بالذل للإنسان

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 200 - الإثنين 24 مارس 2003م الموافق 20 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً