العدد 200 - الإثنين 24 مارس 2003م الموافق 20 محرم 1424هـ

قراءة في ثقافة البَلَهِ السياسي!

بين خميس الكويت وخميس بغداد

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

كنت اود ان ارسل رسالة من هذا المكان الى صديق في بغداد، فهو استاذ جامعي ومستقل سياسيا، ولم يلوث نفسه بالانحياز لنظام القمع في بغداد، على رغم الضنك الذي عاش فيه وقد قضى جل حياته العملية الطويلة في معاناة. إلا انني ترددت في ان اذكر اسمه في هذه الظروف الحرجة، حتى لا يتعرض لأكثر مما هو فيه من محنة. الرسالة فيها تذكيره بنقاشنا المتكرر، عندما كنا نلتقي في المؤتمرات العامة، إذ كنت أقول له فيها ان الشعوب المضطهدة لا تحارب! وقد ثبت صحة ما ذهبت إليه.

ما نراه اليوم في سماء بغداد وحولها لا يسر خاطر عربي، ولكنه أكد النظرية، الشعوب تخنع للتسلط خوفا، ولكنها لا تهب للدفاع عن المتسلط عليها، بل تتركه لمصيره.

يوم الخميس الذي ابتدأت فيه الطلقات التي أذنت ببدء الحرب التي نشهد، هو امتداد طويل لخميس اسود آخر عندما دخلت قوات صدام حسين الى الكويت، وقتها اتخذت القرار في بغداد طغمة شديدة الغرور بنفسها، غافلة عمّا حولها، ثم استمرت هذه الطغمة بالاسلوب نفسه الذي تعودته من الغرور السياسي والبله.

حجر الزاوية في هذا الامر هو ان الحكم العراقي، حكم بالغ القسوة شديد البأس على شعبه ومواطنيه، إذ حوَّلهم الى مجرد أشباح من الناس يحوطهم العسسة في كل مكان حلوا فيه، ومن جهة أخرى خوار ما بعده خوار في ملاقاة الآخرين إلا بالكلام الحماسي وبعد ذلك كله إفلاس في مقارعة الحجج.

لم يكن مستغربا للمتابع ان يرى الرئيس العراقي في اول ايام الاشتباك مع القوات الدولية وقد لجأ الى قراءة الشعر الحماسي، في الوقت الذي تضرب فيه بغداد بصواريخ التماهوك وكل أنواع الأسلحة المتطورة التي اعتمدها العالم الحديث، وهي قائمة على نتائج علم وتقنية حديثة، وهو يتحدث من مكانه البعيد المنقطع عن العالم، عن الخيل والسرج، وكلام هو اقرب الى البله الثقافي والفلس السياسي، بل والهلوسة التي ليس لها معنى.

ثم يظهر وزير إعلامه محمد سعيد الصحاف في اليوم التالي لبدء القتال ليقول للرأي العام العالمي والصحافة الحاضرة أمامه، ان أم قصر لم تسقط، في الوقت نفسه الذي يُزال منها كل مظاهر السلطة العراقية، بل يذهب ووزير الداخلية العراقي وهو يلوح بمدفعه الرشاش الفضي اللامع إلى انهما على استعداد لأن يصطحبا بعض الصحافيين إلى الهاتف لمهاتفة آمر ميناء أم قصر!

أسوأ ما ألمني هو قول الصحاف عن بعض من استسلم من القوات المسلحة العراقية لجنود الحلفاء انهم غير عراقيين، ثم أردف: (شايفين سحنتهم) وهذا قول فيه الكثير من العنصرية المقيتة والاستعلاء المنكر، وهل للعراقيين الموالين من وجهة نظره سحنة، وللعراقيين الآخرين سحنة اخرى تختلف عن الباقي؟! ذلك قول لا يتفوه به حتى ابعد العنصريين عنصرية، ولكنه يدل على (الثقافة) السياسية التي يحملها هؤلاء الذين قادوا الشعب العراقي وموارده إلى التهلكة وتعاملوا مع القريب في الوطن والبعيد في اللحمة بفظاظة وكبر، وهي والامر ذاك، جماعة تبيح الكذب، كما تبيح القتل، والحقيقة بالنسبة إليها هي ما تعتقده لا ما يراه الناس جميعا.

قبل أن يكون فشل العراق (طغمة) هو بعد ذلك وقبله فشل (فكرة)، فكرة قائمة على قول ان الشعوب هم (غنم) يسوقهم من يستولي على السلطة في ليل بهيم كيفما أراد وإلى اي مكان أراد، حتى يحل همسهم بدلا من افصاحهم، وتطغي عاطفتهم بديلا عن عقولهم، وقد ساعدهم في ذلك عدد من العناصر، منها تكميم أفواه الاحرار وزجهم في السجون وحتى تصفيتهم الحقيقية أو المعنوية، واستيلاء الى حد الاستلاب على وسائل الاتصال المتاحة، مع ضجيج من الشعارات تخفي السرقات!

تلك الفكرة، سقوط النظام العراقي الآذن، يسقطها معه، لقد فشلت النخبة العراقية في أن تقول «لا» للدكتاتورية في الوقت المناسب، فجرى تصفيتها فردا فردا، وجماعة جماعة، كما فشلت في السابق في ان تلحظ مساهمة الفئات المتنوعة والجماعات المختلفة في تشكيل الوطن العراقي، فأصبحت السلطة كلها لدى (عائلة) الرئيس، التي تحكمت فيها وفي مقدراتها وأموالها كيفما تريد، وعندما تصبح السلطة في حد ذاتها هي البرنامج تصبح المغانم هي الاهداف، ولم يفاجأ غير السذج من الخبر المذاع أخيرا، أن الرئيس العراقي وعائلته، يمتلكون فقط سبعين مليار دولار في مصارف خارجية، في الوقت الذي يموت فيه الشعب العراقي من الجوع والقهر معا.

الخوف من الدكتاتور وبخس المواطنين حقوقهم القانونية والسياسية، التي بدأ العالم يحققها على الارض في أركانه الاربعة، سيجلبان لنا نحن العرب كوارث جديدة، ورحم الله من اتعظ.

المتابعون يصفون لنا احتلال الكويت بكارثة تماثل هزيمة العرب المنكرة العام 67، وما يحدث في العراق اليوم هو ثالثة الأثافي، فالحوادث التي نشاهدها هي ليست نهاية عصر، بقدر ما هي بداية لعصر جديد، ليس بالضرورة أن يكون فردوسا. النقلة الموعودة من (الجحيم) إلى (النعيم) هي فقط في مخيلة الشعراء والحالمين، كما ان الفردوس العربي الموعود لن يتحقق من نفحة من (الجندي) الاميركي، مهما حسنت النيات وصفت القلوب. الفردوس يحققه الناس على الارض بجهدهم وجهادهم، وقد تبين ان غياب الرؤية العربية الشاملة او الوطنية اوصلنا إلى ضعف القدرة.

غياب الرؤية مازال يلازمنا حتى اليوم، وفقط لننظر حولنا في التصريحات والتحليلات في الاسابيع الاخيرة، ونقارنها بما حدث ويحدث في العراق اليوم، لنستبين على وجه الاجمال كم من الضباب قد هيمن على عقول كثير من العرب الى درجة تفقدهم الرؤية؟

مجموعة من القضايا يجب علينا تشكيلها بإرادتنا الحرة، وإلا فستفرض علينا قسرا، من جملتها العاجلة والمركزية مستقبل العلاقات العربية/العربية، فعليها ان تنتقل من السياسي إلى الاقتصادي، لإيجاد معادلة واقعية تسعى إلى تعظيم الجوامع مع احترام الفروق. كما ان التشكيل الداخلي عليه ان ينتقل من الاحادية الى التعددية، وتعظيم حقوق الانسان، لننتقل من الاضطهاد والحرمان إلى الحرية والمشاركة. تلك بعض الملفات التي ستفتح عاجلا، ولنتذكر ان بين الخميسين، خميس الكويت وخميس بغداد، فقط 13 سنة، وهي في عمر الشعوب زمن قصير

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 200 - الإثنين 24 مارس 2003م الموافق 20 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً