العدد 218 - الجمعة 11 أبريل 2003م الموافق 08 صفر 1424هـ

زيارة مستشفى بغداد زيارة للجحيم؟!!

إنه مشهد من مشاهد حرب «القرم». مستشفى يسوده صراخ الجرحى وتتدفق فوق بلاطه الدماء. عندما اقتحمت المبنى المكتظ بالمرضى، دهشت لملابس الأطباء الملطخة بالدم في غرف الطوارئ، بينما أصبحت الممرات مستنقعات، هذا بغض الطرف عن البطانيات والملاءات المقززة والملوثة هي الأخرى بآثار الجروح.

لقـد أحضر المدنيون العراقيون الضحايا إلى مستشفى «عدنان خيرالله للشهداء» في الساعات الأخيرة لنظام صدام حسين، وقد رُضّتْ أعضاء بعضهم، وهي صورة قاتمة للنصر والهزيمة، وبروفة أخيرة مثلهم مثل الموتى الذين دفنوا حالا بعد وفاتهم. إن هذه الحرب تعتبر فشلا ذريعا وتاما للروح الإنسانية.

وعندما تجولتُ وسط الأَسِرّة، ووسط الرجال والنساء الجرحى، شعرت وكأنني أقوم بزيارة لدوائر جهنمية، فاعترتني عدة أسئلة نتيجة هذه الصورة البشعة: هل كل هؤلاء الضحايا من أجل الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول؟ أم من أجل حقوق الإنسان؟ أم من أجل أسلحة الدمار الشامل؟

في دهليز ضيق، مررت برجل في منتصف العمر على عربة المستشفى المهلهلة، إذ أصيب في رأسه بجرح يصعب وصفه. ووضع منديلا عريضا على محجر عينه اليمنى، بينما يقطر الدم منه على البلاط. وهناك بنت صغيرة اسمها رؤى صبري ملقاة على سرير قذر، كسرت إحدى رجليها بينما تهشمت رجلها الأخرى بشكل بشع بواسطة شظية صاروخية أثناء هجوم جوي أميركي. ثم واصلت جولتي خلال هذا المكان المرعب، وقد بدأ دوي القصف الأميركي يشق أرجاء نهر دجلة خارج المستشفى، محدثا ومذكرا الجرحى بذعر الموت الذي مازالوا يعانون منه.

عندما عبرت الجسر في طريقي راجعا كان المستشفى عرضة للنيران وسحب الدخان، تغطي المبنى تماما. وهزت الانفجارات القوية أجنحة ودهاليز المستشفى، بينما أزاح الأطباء الأطفال المصابين عن النوافذ.

ويبدو أن فلورنس نايتينجل لم تصل إلى هذا الجزء من الامبراطورية العثمانية القديمة. ولكن نظيرها مدير وكبير الجراحين، خلدون البعيري ينام ساعة واحدة لمدة ستة أيام، إذ يحاول إنقاذ أكثر من مئة روح يوميا، وذلك من خلال مولد كهربائي واحد، بينما نصف غرف عملياته أصبحت لا تعمل ـ إذ لا يستطيع المرء أن يحمل المرضى على ذراعه ليصعد بهم إلى الدور السادس عشر بينما يتقيأون دما.

كان الطبيب البعيري يتحدث وكأنه نائم، محاولا وصف صعوبة وقف اختناق رجل جرح أو امرأة جرحت في الصدر، موضحا أنه بعد أربع عمليات لإخراج معدن من أدمغة هؤلاء المرضى، أصبح لا يستطيع التفكير.

وفيما كنت أودعه، أخبرني أنه لا يعلم مصير أسرته حتى الآن. «لقد قصف منزلنا وأرسلت إلى جيراني رسالة بذلك، وقالوا إنهم أرسلوا أبنائي إلى جهة ما. لا أعرف عنها شيئا، لدي بنتان صغيرتان... إنهما توأمتان... أخبرتهما في آخر اتصال لي بهما أن تكونا شجاعتين، لأن أباهما يعمل ليل نهار في المستشفى، وألا يصرخا لأنني أعمل من أجل الإنسانية»، ثم اختنق البعيري بكلماته وبدأ يبكي ولم يستطع أن يقول لي مع السلامة.

هناك رجل آخر أصيب في رقبته لم يستطع الأطباء وقف نزيفه، لقد دخل معدن حاد إلى بطنه ووضعت ضمادات في مسافة ست بوصات في مكان الجرح، ولكن لم توقف تدفق الدماء، وقف أخوه إلى جانبه وهو يتساءل: لماذا؟ لماذا كل هذا؟.

هناك طفل صغير يرقد على بطانية، وضعت في أنفه محقنة أوردة. إنه ينتظر أربعة أيام لإجراء عملية له. تبدو عيناه ميتتين. لم أستطع السيطرة على قلبي لأسأل أمه إن كان الطفل ذكرا أو أنثى. كانت هناك هجمة جوية أخرى على بعد نصف ميل من المستشفى ارتجت لها دهاليز المستشفى وعمت الفوضى والصراخ من جانب الأطفال والنسوة من هولها.

هناك رجل آخر أحضر للتو، حسبته جنديا لأنه كان متين البنية وقوي، ولكنه يصرخ جراء ألمه كالطفل المولود «يُمه... يمه... يمه»، كلما اقترب منه الطبيب ليساعده ارتفع عويله.

غادرت هذا المستشفى الكئيب لأجد القذائف الأميركية تتساقط على النهر في الخارج. لاحظت أيضا بعض الخيم العسكرية منصوبة في حديقة صغيرة بجوار مبنى إدارة المستشفى ـ قلتُ في نفسي: سترك يا رب.. إحمِ المرضى ـ هناك مركبة مدرعة وضع عليها مدفع مختفية تحت فروع وجذوع الأشجار، وهي تبعد أمتارا قليلة عن أرضية المستشفى. ولكن يستخدم المستشفى لإخفائها. كان عدنان خيرالله الذي يحمل المستشفى اسمه، وزير دفاع صدام حسين، وهو الذي سقطت به مروحية لقي فيها حتفه ولم يوضح سبب سقوطها حتى الآن. حتى في الساعات الأخيرة لمعركة بغداد، فإن ضحاياها كان يجب عليهم أن يرقدوا في بناية يحمل اسمها شرف رجل اغتيل

العدد 218 - الجمعة 11 أبريل 2003م الموافق 08 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً