العدد 247 - السبت 10 مايو 2003م الموافق 08 ربيع الاول 1424هـ

بوش للمنطقة: احتلال قراركم أو احتلال أرضكم

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

في أعقاب غزو العراق، سارعت إدارة الرئيس بوش إلى طرح صيغة جديدة في التعامل مع المنطقة، تقوم على وضع هذه الأخيرة أمام خيارين: إما احتلال قرارها - أو ما بقي منه - أو احتلال ارضها.

ويجري هذا الطرح عن طريق التبليغ، وكأنه خلاصة حكم غيابي، غير قابل للاستئناف، صادر عن حاكم بأمره ومطلوب تنفيذه من جانب مدعى عليه مزعوم، في غضون فترة وجيزة لا تقبل التمديد.

على الأقل هذا ما اوصت به زيارة الوزير باول الأخيرة وما تبعها من تصريحاته امام الكاميرا وخلال جلسة عقدها مع احدى لجان الكونغرس المختصة، فضلا عن تصريحات باقي اطراف الخطاب الأميركي الجديد في هذا المعنى.

اذا لم تتأخر الادارة في اعلان بداية موسم حصاد غزوتها العراقية. الافتتاح كان في دمشق وبيروت. ومن خلالهما كانت رسالة واشنطن واضحة لا تخطئ: على جوار العراق بشكل خاص، الاستعداد للبدء في تسديد الفاتورة الطويلة والمكلفة لسقوط بغداد. والعملة الوحيدة المقبولة اسمها «رضوخ» مع التنفيذ، وإلا فالويل والثبور وعظائم الامور.

في السابق كانت الولايات المتحدة بعد كل حرب تشنها هي أو حليفتها «اسرائيل» على المنطقة، تقوم باستدراج هذه الأخيرة إلى دهاليز دبلوماسية الضغوط والمساومات والوعود، بغية انتزاع أكبر قدر من التنازلات وأفضل صيغ من الاتفاقات المكبّلة التي تهيئ لحروب لاحقة، واستطرادا لتنازلات مكملة.

من خلال هذا النهج تحقق لواشنطن هدفان: توريط المنطقة وادخالها في دوامة المراهنة على الوهم - والمنطقة شهيتها مفتوحة بقوة على مثل هذه المراهنة - وثانيا، الاستفراد بالدول العربية المعنية وسلخها عن محيطها بصورة أو بأخرى، وبما ساهم في إلحاق المزيد من التآكل والتدهور والتردي في الموقف العربي الذي بات يفتقر الى الحد الأدنى من مستلزمات «التضامن» - عبارة صارت غريبة بقدر ما هي بعيدة عن الواقع العربي - ازاء القضايا القومية.

الآن، بعد احتلال العراق، لم يعد هذا النهج كافيا بالنسبة إلى إدارة بوش، على رغم المكاسب التي حققها. نشوة الحسم السريع وهشاشة الساحة العربية المجوّفة، حملت واشنطن على تغيير قواعد اللعبة. ألم يعلن الرئيس بوش ان «اللعبة انتهت»؟ واعلانه لم يكن موجها الى النظام العراقي فقط، عشية الحرب. كان برسم المنطقة برمتها. فاليوم ترى الولايات المتحدة ان زمن التراجع العربي بالمفرق وبالتقسيط قد انتهى. صارت تريد التعامل بالدفع نقدا. كما صارت تمارس الاملاء بالجملة. والخطاب الأميركي لم يعد بالاشارات. صار «بالعربي الصريح». والامور لم يعد يجري الاخذ والرد بشأنها بدبلوماسية المكوك. لا. زيارة واحدة يحصل خلالها تبليغ المطلوب ثم تليها موجة تهديدات وتحذيرات فجة من العواقب الوخيمة، اذا حصل تلكؤ في الرضوخ والتنفيذ، فالاستباحة طريقها سالكة، على الاقل حتى الآن. وفريق الكواسر في الإدارة يصر على توظيف احتلال العراق وجعل المعنيين في المنطقة «يدركون ما يعنيه هذا النصر»، على حد تعبير احد رموزه المتلهفين إلى الاستمرار في حملة كسر العظم في المنطقة، لما في ذلك من مردودات تصب في تزخيم استراتيجية اعادة صوغ المنطقة التي تسير على هديها ادارة بوش، كما في خدمة المصلحة الاسرائيلية، في آن.

باكورة هذا التوجه تمثلت في زيارة الوزير باول لدمشق وبيروت قبل ايام. من جهة كانت مليئة بالدلالات: تعمدت واشنطن ان تكون محصورة بالعاصمتين فقط ومنفصلة عن جولته المقرر ان تبدأ الاسبوع المقبل، في المنطقة، وكأنها بذلك ارادت توجيه الاصبع الى الملف التالي المرشح للتسخين بعد بغداد، مع اعطائه صفة الاستعجال. كما تعمّدت الادارة نزع السرية عن مضمون مهمة الوزير، قبل وأثناء وبعد وصوله، الى سورية ولبنان، وذلك لحشر وإحراج البلدين وكشف الطابع الاملائي للخطوات المطلوبة أميركيا منهما.

ومن جهة ثانية اخذت طابع الانذار السافر. التلويح باستخدام القوة لم يكن يتطلب كبير عناء لالتقاط ملامحه في كلام الوزير، ناهيك برئيسه ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، وذلك على رغم نفي باول وجود خطة عسكرية ضد سورية. نائبه ريتشارد ارميتاج كان ادق عندما قال ان مثل هذه الخطة ليست على الطاولة «في الوقت الراهن». يعني أنها مطروحة وغير مستبعدة لكن فقط ليس في اللحظة الراهنة، بعدها كل الاحتمالات واردة.

صحيح ان هناك، على ما يبدو، خلافا او جدلا لم يحسم بعد، داخل الادارة، بشأن صيغة التعاطي المطلوب مع سورية. وصحيح ان فريق الخارجية اخذ المبادرة لترجيح الخيار الدبلوماسي. لكن ألم نشهد السيناريو نفسه في الحال العراقية؟ ولم تكن الغلبة في النهاية لفريق البنتاغون؟

الملف السوري يختلف تماما عن الملف العراقي! لا جدال في ذلك. الفوارق كثيرة وجوهرية لكن ادارة الرئيس بوش اعتمدت منذ 11/9، التعامل مع المنطقة عموما بمعايير على نقيض تام مع اعتبارات الجدارة والتسويغ المشروع. اعتباراتها انتقائية ومفصّلة على قياسات سياستها «الاستباقية» الاستنسابية. نهجها قام على افتعال الذرائع وتكبيرها مع تعجيز المستهدف ثم الانقضاض عليه. هكذا تصرفت مع العراق، وهكذا تصرفت حليفتها «اسرائيل» في الاراضي الفلسطينية المحتلة وتحت غطاء من الدعم والمباركة الأميركيين.

ثم ان الادارة الأميركية تتعمد التذكير، بين الفينة والاخرى، بأن الحرب - تحت لافتة الارهاب - لم تنته بعد. الرئيس بوش كرر ذلك في خطاب اعلانه انتهاء العمليات القتالية في العراق، قبل ايام. وبالتالي فإن واشنطن لابد وانها منهمكة في التمهيد للجولة التالية وفي تركيب وتوظيب المقدمات والمزاعم لها. ووفق المنطق الاستدلالي فإن التسخين الاميركي المفاجئ العلني والحاد مع سورية، يضع هذه الاخيرة في خانة الاستهداف المباشر للجولة الجديدة، أو الاستهداف بالوكالة عن طريق «اسرائيل». وها هو وزير دفاع العدو يدلي أمس بتصريحات استفزازية ويذكر سورية بتفوق آلته العسكرية.

الغيوم السوداء الكثيفة تتجمع مرة اخرى في أفق المنطقة. والمشهد العربي نفسه: في الظاهر رفض للتصعيد الأميركي ضد سورية ولبنان. وفي الكواليس دعوات ونصائح موجهة إلى دمشق وبيروت «للتجاوب» مع المطالب الأميركية بغية تفويت الفرصة على الصقور في واشنطن و«اسرائيل» وكأنهما عاجزان عن فبركة وتلفيق المزاعم! او كأن درس العراق مرَّ مرور الكرام. والمفجع اكثر ان هذا المشهد لا يقتصر فقط على الساحة الرسمية، بل يضم ويشمل شريحة كبيرة من أهل النخبة الثقافية العربية، فقد اندفعت عناصرها تبشر عبر اعمدتها في الصحف او جلساتها في الحلقات التلفزيونية بضرورة التسليم «بالواقعية» والتعامل مع الهجمة الأميركية كأمر واقع وقدر حتمي ينبغي عدم مواجهته بل «التحاور» معه، وكأن ادارة بوش تطرح التحاور مع المنطقة!

طبعا ليس المطروح مناطحة اميركا في ساحتها وبشروطها... لكن التسليم المكشوف والمفضوح بإملاءاتها وخياراتها على طريقة الواقعيين، بالاحرى الوقوعيين، لا يؤدي سوى الى المزيد من الوقوع. والسوابق خير شاهد

العدد 247 - السبت 10 مايو 2003م الموافق 08 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً