العدد 1587 - الثلثاء 09 يناير 2007م الموافق 19 ذي الحجة 1427هـ

معركة الدستور بين الحرية والعدل الاجتماعي

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

الدستور في الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية، ليس مجرد هيكل خشبي مصمت، بنصوص جامدة صماء، يحتكر صوغها فقهاء القانون المحترفون وحدهم، وفق سرية المهنة، لكن الدستور وثيقة اجتماعية، تحمل في أحشائها كائنا حيا يعبر عن الحال الإنسانية والاجتماعية، ويتفاعل مع المواطنين كافة، ويترجم أشواقهم للحرية من ناحية ويكفل لهم ضمانات الخبز من ناحية أخرى.

ولذلك فإن الخطر كل الخطر ترك صوغ الدستور أو تعديلاته، في أيدي فئة من دون غيرها، سواء كانت قانونية بحتة أو كانت طبقية بحتة، إنما الأصح والأدق أن تساهم كل فئات المجتمع في الحوار بشأن الدستور، والإسهام بجدية في صوغ مبادئ ونصوصه، ليجمع في النهاية من حوله التوافق الوطني.

ولأن مصر على سبيل المثال تطرح الآن تعديل حزمة من مواد الدستور، هي 34 مادة، بعد أن أحالها رئيس الدولة إلى مجلسي الشعب والشورى، وسط مناخ اجتماعي اقتصادي، يهرول هرولة نحو الليبرالية الاقتصادية، بما يواكبها من سوق حرة وخصخصة وبيع متسرع لأصول المجتمع وثروة الدولة، ومن اعتلاء كلمة المستثمرين ورجال الأعمال والأثرياء منابر القيادة، والتأثير الغلاب على فلسفة الحكم، فإن الأمر يستدعي التمهل والدقة والحذر، خوفا من أن تأتي صوغ التعديلات بتغليب مصالح الأقلية الثرية على حساب الغالبية الفقيرة.

والواقع يقول إن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، قد تركت آثارا سلبية رهيبة، على القوام الرئيسي للمجتمع المصري، بالغلاء الفاحش والبطالة المتزايدة واتساع مساحات الفقر، التي أكلت معظم الطبقة الوسطى، عماد المجتمع، وركزت الثروة والسلطة في أيدي قلة القلة، التي تسعى بكل الجهد إلى تطويع الدستور والقانون، ومن ثم الدولة ونظامها السياسي، لإرادتها ولمصالحها على حساب الآخرين، وها هي الفرصة قد جاءتها عبر طرح التعديلات الدستورية الواسعة، لتحكم قبضتها على كل شيء يحقق لها مزيدا من الثراء، ومزيدا من النفوذ والسلطة.

ثم يقولون لنا، هذه هي قواعد الليبرالية، بينما الحقيقة أن النظم الليبرالية والديمقراطية، تقوم على توازن المصالح وعلى قاعدة الحرية المتكافئة لفئات المجتمع ومواطنيه، وإلا أصبحت ليبرالية متوحشة، ولننظر إلى قاعدة الليبرالية في الغرب، ونعني بريطانيا بل وأميركا، اللتين تحافظان على الحريات العامة وحقوق الإنسان، مثلما تعملان على ضمان الحياة الاجتماعية وكفالة حقوق العمل والغذاء والمسكن والرعاية الصحية والاجتماعية للجميع، من أصحاب الدخل المحدود!

من هنا نقول، بل نحذر، من أن تستولي مصالح ونفوذ رجال الأعمال والحلقة الضيقة المحيطة بصنع السياسات، على صوغ تعديلات الدستور، فنخضعها فقط لمصالحها الضيقة والمؤقتة على حساب غالبية الشعب المغيبة من الناحية العملية، عن كل ما يتعلق بصنع السياسات واتخاذ القرار وصوغ الدستور لأسباب كثيرة يعلمها الكل.

ولذلك قلنا ونقول إن تعديل الدستور، معركة بكل معنى الكلمة، لا يجب تركها لا لمجموعة محدودة العدد وربما الكفاءة من القانونيين، ولا لمجموعة أخرى من رجال الأعمال وأصحاب المصالح وطلاب السلطة ومحتكري الثروة، ولا لحزب وحيد، حتى لو أدعى أنه حزب الغالبية، لكنها معركة وطنية وديمقراطية بالأساس، تتطلب جهود كل فئات المجتمع وطبقاته ونخبه وأحزابه ومنظماته المدنية والجماهيرية، وإلا أصبحت معركة من طرف واحد، يفاوض نفسه ويتحاور مع ظله، ويدافع فقط عن مصالحه، ويدوس على الآخرين وهم الغالبية الساحقة، التي إن لم تشارك في وضع الدستور وصوغ مواده والتوافق على فلسفته... أسقطت شرعيته!

***

وعلى سبيل المثال، فإن التعديلات المطروحة، تلغى ما في الدستور القائم والصادر العام 1971، كل ما يشير إلى الاشتراكية وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وهذا طبيعي ومن تحصيل الحاصل، بحكم سقوط النظم الاشتراكية عالميا من ناحية، وبحكم التحولات الكبرى التي جرت في مصر، سياسيا واقتصاديا، منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، حتى اليوم، اتجاها للعودة إلى النظام الرأسمالي، من ناحية ثانية.

لكن التعديلات لم تقل لنا صراحة ما هو البديل وما هي الرؤية والبوصلة فيما يتعلق بدور الدولة والتنمية البشرية، وفي الإشراف على عدالة توزيع الثروة بين الطبقات والأفراد، وفي الرعاية الاجتماعية والتعليمية والصحية لعموم المواطنين، وفي إعانة ومساندة الفقراء الذين يزدادون فقرا، بسبب السياسات الاقتصادية الجديدة، وفي مكافحة الغلاء ووحش البطالة وظلام الأمية وتوحش الفساد المصحوب دوما بالاستبداد.

والمجاهر به الآن، هو ترك كل ذلك لآلية السوق ولكرم رجال الأعمال وسماحة أصحاب الثروة والنفوذ، هم يتحملون المسئولية، وربما يكون ذلك سائدا في بعض دول الرأسمالية فعلا، التي استقرت فيها المبادئ والقوانين وفلسفة العمل والإنتاج والحكم وأساليب تكوين الثروات ودفع الضرائب وأداء المسئولية الاجتماعية، لكنه حتما لا يصلح على إطلاقه لبلد مثل مصر، يعيش 48 في المئة من مواطنيها حول وتحت خط الفقر، ويبلغ متوسط دخل 43.9 في المئة من سكانها أقل من دولارين يوميا، وفق تقرير التنمية البشرية الدولي للعام 2006، ويسكن ما بين 16 و20 مليونا في العشوائيات والمقابر، ويجري في شوارعها مليونا طفل مشرد، ناهيك عن أعداد العاطلين، الذي تناقض أرقامهم الحقيقية صعودا وهبوطا.

مواجهة هذا العبء المخيف، لا يجب أن تترك لسماحة وكرم قلة الأثرياء، ولا لاحتكار بعض القوانيين المتخصصين في الصوغ المطاط حمال الأوجه، ولا لهواة السياسية المستجدين، ولا حتى لضغوط الدول الأجنبية والمنظمات المالية الدولية، بل إنها مسئولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، التي يجب أن يحددها الدستور الواضح المعالم، وإلا ساد حكم الغابة للأقوى... الأشرس!

يقول قائل، إن تعديلات الدستور لم تمس حقوقا اجتماعية وسياسية واقتصادية مكتسبة، مثل مجانية التعليم، ونسبة 50 في المئة للعمال والفلاحين، والعلاج الصحي، وهذا صحيح أيضا من الناحية النظرية، ولكن حين نتفحص الواقع، نرى أن السياسات الجديدة تخترق كل ذلك وتنقض عليه وتحاصره، فمجانية التعليم أصبحت وهمية، ونسبة العمال والفلاحين لم تعد للعمال والفلاحين الحقيقيين، والعلاج صارت أسعاره نارية كاوية لا يقدر عليها إلا كل ذي مال وفير، ومسئولية تشغيل الشاب تخلت عنها الدولة، وتركت لأريحية القطاع الخاص، وأسعار المساكن التهبت بما لا قبل ولا قدرة لغالبية المجتمع على الوفاء بها، بينما نقرأ يوميا عن مشروعات الإسكان الفاخر، يتخاطفها المليونيرات الجدد، من أملاك الدولة، التي تبيعها لكبار المستثمرين، من دون حساب لحق البسطاء والفقراء.

وعلى رغم أهمية تعديل الدستور، وعلى رغم إيماني العميق بضرورة أن يفضى التعديل إلى إطلاق الحريات العامة وإلى صيانة الحقوق الرئيسية للمواطنين، بما في ذلك حرية تكوين الأحزاب السياسية، وحرية الصحافة والرأي والتعبير وحرية تداول السلطة، فإننا لو سألنا جموع المواطنين المهمومين بظروف العيش القاسية وضغوط الفقر، أي الخيارات والأولويات أهم؟، حرية الأحزاب السياسية أولا، أم زيادة الدخل وتحسين الأحوال المعيشية ومكافحة البطالة وتثبيت الأسعار، لاختاروا حتما الأخيرة من دون تردد.

***

وهو اختيار لا يعني التخلي عن الحريات العامة، والتضحية بها تفضيلا للقمة العيش، إنما هو ترتيب للأوليات تحكمه الضرورات، فما جدوى الكلام عن الحريات النظرية، بل ما معنى الدستور والأحزاب والانتخابات والسلطة والديمقراطية، إن لم تكفل للمواطن البسيط المرهق المنهك، الحد الأدنى من حقوقه الرئيسية، حق الغذاء والكساء والمسكن والتعليم والعمل والعلاج، وحق الأمل في مستقبل أفضل.

والعكس في رأينا صحيح، فما معنى الغذاء الوفير والمسكن الفاخر والعمل المنتظم، من دون حرية حقيقية للمواطن، يعبر بها عن رأيه ويتمتع بحقوق الدستورية والقانونية، ويختار ممثله ونائبه ورئيسه ويسعى حتى إلى رئاسة السلطة وفق قاعدة عبر انتخابات نزيهة ونظيفة.

الخبز والحرية وجهان لعملة واحدة، والليبرالية الغربية أسست نظمها الديمقراطية، على قدمين هما الحرية السياسية والحرية الاقتصادية، والنظم الاشتراكية فشلت وسقطت لأنها كسرت قدم الحرية وحبست أنفاس البشر وتجاهلت آراء الناس ورغباتهم، باسم بناء الدولة وتقوية السلطة، فإذا بهذه تتحول على ديكتاتورية وحشية!

وأمام مصر في هذه المرحلة العاصفة، مهمة أن تقدم للعرب والعجم، مبادرة تاريخية، إن هي نجحت في إعداد دستورها على الوجه الذي يكفل الخبز والحرية، ويوازن بين الحقوق والحريات السياسية، والحقوق الاقتصادية الاجتماعية، ويصلح الخلل الخطير الذي أصاب المجتمع، فأذاب الطبقة الوسطى وضمها قسرا للطبقة الفقيرة والمعدمة، وراكم الثروة مع السلطة في أيدي القلة، تقودها مجموعة من المغامرين والطماعين والطامحين، من دون أن تكون لهم رؤية مستقبلية ولا مسئولية مجتمعية.

وربما تكون إحدى الوسائل العاجلة لإصلاح الخلل السياسي الاجتماعي تكمن في إطلاق حرية تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لكي تعبر تعبيرا صادقا عن التعددية في المجتمع، تعددية الفقراء والأغنياء، الفلاحين وأصحاب الكروش، العمال وأصحاب الأعمال، المثقفين والمهنيين والحرفين، وهي تعددية تقود حتما إلى تكريس تبادل السلطة بين كل أصحاب المصالح عبر انتخابات حرة، وإلا ما جدوى التعددية الحزبية، إن لم تؤدِ إلى تداول السلطة، وما جدوى تداول السلطة إن لم تعبر عن حرية الاختيار لجميع أبناء الوطن.

ها هي مصر يشغلها ضجيج 23 حزبا، من دون أن يتمكن واحد منها في الحصول على نسبة 5 في المئة من مقاعد البرلمان، كشرط للترشيح لرئاسة الجمهورية في المستقبل، كما تنص التعديلات الدستورية المطروحة.

حقا ما جدوى كل ذلك، وما مؤداه، إلا أن يظل الحزب الحاكم... حاكما!

***

خير الكلام: قال تعالى:

«والله يعلم المفسد من المصلح» (البقرة: 220)

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1587 - الثلثاء 09 يناير 2007م الموافق 19 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً