العدد 2246 - الأربعاء 29 أكتوبر 2008م الموافق 28 شوال 1429هـ

مذكرات عبدالرحمن النعيمي...السباق على الترتيبات السياسية بعد إعلان الانسحاب البريطاني

تمكن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان من السيطرة على الحكم وإزاحة أخيه شخبوط بحركة سلمية يوم 8 أغسطس/ آب 1966. لقد كان من الضروري للبريطانيين والأسرة الحاكمة في أبوظبي تغيير الشخصيات والعقلية التي كانت تحكم بها الإمارة، وكان الشيخ زايد من ألمع الشخصيات التي حكمت منطقة العين (وهي إحدى واحات البريمي المتنازع عليها بين السلطنة وإمارة أبوظبي والسعودية في تلك الفترة) لسنوات، وعمق علاقاته بالناس، وشكل استيلاؤه على السلطة مرحلة جديدة في تاريخ الإمارة، بل يمكن القول مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، سواء بالنسبة إلى عمان، أو بالنسبة إلى الخليج أو بالنسبة إلى الصراعات الحدودية التي تفننت بريطانيا في خلقها وتعميقها. كما كان من الضروري أن يأتي الى الإمارة حاكم يعرف كيف يستفيد من الثروات النفطية التي بدأت تتدفق عليها منذ مطلع الستينات، بعد أن تكاثرت القصص المضحكة عن الشيخ شخبوط وطريقة تعامله مع الأموال والبنوك.

منذ بداية عهده، كان الشيخ زايد ينظر بمحبة وتقدير إلى شعب البحرين، وفي الوقت ذاته، كانت لديه محبة كبيرة لكل أبناء عمان، سواء من السلطنة أو أولئك الذين تعرضوا للاضطهاد في زنجبار (شرق افريقيا) بعد الانقلاب الثوري الذي أطاح بحكم أسرة البوسعيد هناك العام 1966 ووحد زنجبار مع تنجانيقا في جمهورية تقدمية (جمهورية تنزانيا) يحكمها الرئيس نيريري، بالاضافة الى العمق القومي الذي تمتع به الشيخ زايد، وحرصه الشديد على أن تحتضن الامارة الكثير من القبائل العربية من اليمن بشكل خاص، وليس غريبا بعد عقود أن يعيد هذا الأمير بناء سد مأرب في اليمن، فالتاريخ العربي متواصل منذ مملكة سبأ. وبالتالي كان من الطبيعي أن تجد في الامارة الكثير من البحرينيين الذين ذهبوا للعمل في سلك التعليم أو الموانئ أو الجمارك او البريد او غيرها من مرافق الامارة الفتية، بالاضافة الى آلاف من العمانيين الذين تخرجوا في جامعات البلدان الاشتراكية او من تنزانيا، اضافة الى الاخوة المصريين.

جالية بحرينية كبيرة تدفقت على أبوظبي، من خلال الحكومة التي لبت طلبات الشيخ الطموح الذي لم ينس حتى لحظاته الأخيرة أن يقف مع البحرين في جميع محنها التي سببتها السياسات الخاطئة للحكم في مرحلة أمن الدولة أو مع أبناء البحرين الذين نظر إليهم نظرة محبة وتقدير ولم يتردد في تقديم ما يمكن من المساعدة والدعم إليهم، داخل الامارة وخارجها. وبالتالي كانت هناك تجمعات كبيرة من البحرينيين الذين يجتمعون على (المكبوس) يوم الجمعة أو الحفلات الاسبوعية التي يقيمونها في أحد البيوت في المنطقة الشعبية.

أبوظبي في تلك الفترة كانت بكرا، بها شارع واحد، ورمال متحركة في جميع مناطقها تحتاج الى ترويض، وعمارتان، احداهما لكبار الموظفين من المهندسين والاداريين والاخرى للمخابرات، بالاضافة الى القصر القديم او الديوان الاميري، وبالقرب منه مركز للشرطة وسجن بناه مقاول عراقي في عهد شخبوط، وعندما افتتحه سأل الأخير عمن بنى السجن، ففرح المقاول ظانّا ان الشيخ سيعطيه جائزة كبيرة، لكن شخبوط، طلب من الشرطة ان يودعوه السجن ليلة واحدة ليرى حصيلة عمله! وكان ذلك موضع تندر السجناء حتى مطلع السبعينات بعد أن تطورت الامارة، وتطور الوضع الأمني وبات واضحا أنه لا يصلح سجنا، وخاصة بعد أن تمكنت مجموعة من السجناء من شق نفق صغير وهروب مجموعة كبيرة في نهاية العام 1969 أمكن استعادة أحدهم من دبي أما الآخرون فقد بعثوا برسائل الى أصدقائهم في السجن من حانة في اأوشهر يشربون نخب نزلاء السجن الذي تحرروا منه! وأصبح السجن الكبير الجديد في العين، بالقرب من البريمي، بديلا عنه.

كانت أبوظبي ورشة عمل حقيقية، من المحطة الكهربائية التي هي في طور الإنشاء والتي كنا ننتظر الانتهاء من بناء التوربين الأول فيها، الى الشوارع والمطار والميناء والعمارات، وبالتالي كان من الطبيعي أن (تغرز) السيارة في الرمال التي يريد الشيخ تطويعها، بل ورفع مستوى سطح أبوظبي عن البحر عدة أمتار عبر الدفان، وكنا مجموعة من المهندسين في شقة واحدة: العراقي والعماني والبحريني، في تلك العمارة الزرقاء، وحولها بيوت من الطين والسعف للمواطنين أوآلاف من العمال الهنود الذين تدفقوا للمساهمة في بناء هذه الإمارة النفطية التي برزت بقوة وجذبت إليها الكثير من عشاق المال والجاه، وبعد فترة أمكن الحصول على شقة مجاورة في العمارة نفسها، فقد كانت الأولى للمهندسين العزاب، وبالتالي انتقلنا الى شقة كانت بالنسبة إلينا كبيرة على عائلة من أربعة أفراد، لم تستقر فيها أكثر من شهرين، لمتابعة مسيرة أخرى في الصراع بعد الاعتقال في شهر أغسطس 1969.

بين الهندسة والسياسة... بين الامتيازات المادية والامتيازات المعنوية، بين التفتيش عن مستقبل شخصي او مستقبل للمنطقة... بين العائلة والرفاق ... بين ابوظبي ودبي... بين العمال الذين بمحض الصدفة من مختلف مناطق عمان، الذين يجب التوجه لبناء صداقات معهم وتنظيمهم ان أمكن، وبين المهندسين من مختلف المشارب، وخاصة الاوروبيين الذين سيكونون معنا مهندسي نوبة بعد الانتهاء من بناء المحطة، وبالتالي كانوا جسرا بين الأجهزة الأمنية البريطانية بقيادة ضابط الامن البريطاني: هينسن، وبين متمرد لم يتردد في مناقشتهم في السياسة البريطانية، الى الدرجة التي قال احدهم قبل ايام من اعتقالي لم نكن نعرف من أنت قبل فترة!! وكان ذلك مؤشرا لم اعطه الاهتمام الذي يستحقه، حيث كانت الهموم باتجاهات أخرى.

***

كانت غالبية أعضاء المكتب السياسي للحركة الثورية الشعبية في دبي، بالاضافة الى كادر كبير من الطلبة العسكريين العمانيين الذين تخرجوا في الكليات العسكرية العراقية أو السورية، وكانوا يعدون انفسهم للعمل المسلح في عمان الداخل او ظفار، وكان من الضروري ترتيب اوضاع كل هؤلاء المتفرغين من قبل المكتب السياسي او اللجنة المختصة بذلك.

في المؤتمر الاستثنائي الذي عقدته الحركة في يوليو/ تموز 1968، اتخذ المؤتمرون عدة قرارات من بينها بناء التنظيم على أساس وحدة المنطقة من ظفار الى الكويت، وتبني النظرية الماركسية اللينينية كمنهج فكري، واعتماد الكفاح المسلح كوسيلة أساسية لتغيير الأنظمة الحاكمة في المنطقة، ولم يجد القرار بشأن تبني الماركسية الصدى الايجابي وسط الغالبية الساحقة من ابناء الامارات (او ساحل عمان، كما كان يطلق عليه في تلك الفترة)، من الشخصيات القومية التي ارتبطت بحركة القوميين العرب لإيمانهم بأن معركتهم تتركز في الحفاظ على عروبة المنطقة، بالاضافة الى الولاء العميق للخط الناصري، وبالتالي فقد ترك الحركة الكثير منهم بمحبة، وبقي عدد من الشخصيات التي بذلت الكثير من الجهود لترتيب كل ما يحتاج اليه العمل الحزبي في الساحل أو عمان الداخل من بيوت ومخازن وتأمين أوضاع الرفاق القادمين والعابرين الى (البؤر الثورية) واقامة علاقات خاصة سياسية مع تجار الساحل، ولولا هذا النفر القليل الذي لم يعط حقه في التقييم من قبل المكتب السياسي، لما أمكن القيام بالكثير من الأمور في تلك الفترة بالنسبة إلى الحركة الثورية الشعبية.

كان غالبية أعضاء المكتب السياسي متفرغين، باستثناء ثلاثة، وكنت أحدهم، انتقلت براتب متواضع في البحرين قدره (96) دينارا الى راتب اولى قدره أربعة آلاف درهم في تلك الفترة مع سائق وبيت من طابقين، وبالتالي كان التقييم بأننا برجوازيون، واننا لا نستطيع معرفة هموم الفقراء، في الوقت الذي كان الجزء الاكبر من رواتبنا يذهب الى التنظيم، وهي اشكالية لم تدرس بعمق من قبل المكتب السياسي، وخاصة أننا في مرحلة التحولات المادية الكبيرة لأبناء المنطقة (عدا عمان السلطنة)، ولم يكن ممكنا الاعتماد على الاشتراكات الشهرية للأعضاء والتي كانت اشتراكات تصاعدية، بحجة أننا لا نريد ان يكون بيننا عناصر برجوازية يمكن ان يشكل المال اغراء لها للانحراف عن خط الثورة.

وكان من الطبيعي ان تعاني الحركة من اشكاليات مالية، وهي تخطط لعمل كبير كتفجير الثورة في عمان الداخل وبالتالي كان لابد من الاعتماد على مصادر مالية خارجية، واقامة مشاريع للتنظيم اذا اردنا الاعتماد على انفسنا، لذلك كانت التحالفات الطبقية ضرورية بالنسبة لنا، وكذلك المساعدات المالية، وهذا ما تحقق مع عدد من تجار الساحل، وتحديدا مع المرحوم التاجر الوطني الكبير، سلطان العويس.

تعود مسألة العلاقة بين حركة القوميين العرب والتجار الوطنيين الى منتصف الستينات من القرن الماضي، عندما ارادت القيادة الناصرية فتح معركة مع البريطانيين في ساحل عمان، بعد ان تمكنت من فتح جبهة في ظفار(جبهة تحرير ظفار التي فجرت الكفاح المسلح في 9 يونيو/ حزيران 1965 بقيادة حركة القوميين العرب)، وبقاء امامة عمان كحركة تحرر مناهضة للوجود البريطاني والسلطان سعيد بن تيمور، وهي معركة (في ظفار) يمكن اعتبارها امتدادا للمعركة التي كانت تخوضها القيادة الناصرية في اليمن، لتدعيم وتعزيز الصف الجمهوري في مواجهة الملكيين المدعومين من المملكة السعودية والتحالف الغربي عموما، وامتدادا للمعركة التي تخوضها الجبهة القومية وجبهة التحرير في جنوب اليمن، وفي الوقت الذي تمكنت مصر من اقناع الجامعة العربية خلال رئاسة عبدالخالق حسونة بارسال وفد من الجامعة العربية برئاسة سيد نوفل لكسب ود أمراء الساحل وإبعادهم عن البريطانيين وتقديم المساعدات لهم، كانت القيادة الناصرية وحركة القوميين العرب (عبر الأمانة العامة في بيروت، والقيادة في الكويت) ترتب العلاقات بين فرع الحركة في ساحل عمان والشخصيات الوطنية القادرة على تقديم الدعم المالي لأية حركة مسلحة تقدمية في عمان، وترتيب صفقات السلاح من الدول الاشتراكية، وفي الوقت ذاته كان هؤلاء التجار الوطنيون المؤمنون بوحدة عمان الطبيعية يفتشون عن القوى السياسية التقدمية التي تتجاوز عقلية الامامة وتفكر بطريقة عصرية، وتسهم في خلخلة الوضع الراكد في السلطنة. وبعد مجيء الشيخ زايد الى سدة الحكم في أبوظبي، لم يقتصر دور هؤلاء التجار على القوى السياسية الراديكالية (حركة القوميين العرب ولاحقا الحركة الثورية الشعبية، وحزب العمل العربي في عمان بقيادة المرحوم عبدالله عيسى) وإنما أيضا مع الوضع الجديد في أبوظبي الذي بدأت تتدفق عليه القبائل ورجالاتها من عمان الداخل، وتنظر اليه كمنقذ من الاوضاع المتخلفة في تلك المنطقة الاستراتيجية من الخليج.

العدد 2246 - الأربعاء 29 أكتوبر 2008م الموافق 28 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً