العدد 1627 - الأحد 18 فبراير 2007م الموافق 30 محرم 1428هـ

بورتريهات في زمن ممعن في لونه الأحادي

تحاول هذه الكتابة رسم بورتريهات بالكلمات. بورتريهات لأصدقاء وسواهم. أصدقاء كنت شاهدا على مشروعاتهم وهي تكبر وتتطاول وتمتد في المدن والعواصم العربية. وأصدقاء كنت قريبا من بعضهم، وبمنأى عن البعض الآخر. الجغرافية أحيانا تمارس أدوارا غاية في الفظاعة بلعناتها. واللغة هي الأخرى تمارس الفظاعات نفسها حين تنفلت كقنبلة يدسها أحدهم في حشر من الناس. البعض من أصحاب تلك البورتريهات ارتبط به بطريق غير مباشر، تتبعا وقراءة وفحصا لبعض ما تم الاشتغال عليه من مشروعات ونصوص. اتفقت مع البعض، واختلفت بحرية ومسئولية مع البعض الآخر. انها محاولة لرسم بورتريهات في زمن ممعن في لونه الأحادي. ممعن في رماديته. ممعن في جر كثيرين إلى فخاخ من النسيان والإهمال والإقامة الجبرية أحيانا.

الرطيان وتفكيك العالم من رفحا

أضع محمد الرطيان ضمن أهم عشرة كتّاب عرب. هو في الصدارة من هذا الفن. يتمتع بذكاء حاد، وقدرة عجيبة على صقل المهمل، ووضعه في الصدارة من التفاتنا واهتمامنا. كاتب طحنته الدنيا وحتى الجغرافيا، لأنه ببسيط العبارة مازال، وسيظل متشبثا بحريته وفضائه كطائر يخدش و"يجرح" و"يحرج" الحدود، خصوصا المصطنع منها.

ثري بمعرفته ونبوءته وطيبته ونقائه وطهْره. من رفحا في أقصى الحدود من شبه القارة السعودية، يعيد تركيب وتفكيك رؤيته للعالم من حوله. يبني علاقات معقّدة أحيانا، وواضجة وبسيطة أحيانا أخرى. معقّدة تبعا للبشر الذين يجد نفسه في قبالتهم. وبسيطة لأن ذلك ديدنه، لأنه بسيط كماء، لا يحتاج إلى أي تعريف.

عافت والإصابة بالحسد

هذا الصعلوك النبيل بامتياز، يحتاج إلى أكثر من وقفة وقراءة. هو الشاعر الظاهرة، فيما تراكم من أدبنا وشعرنا الشعبي. سيرته الشخصية بحاجة إلى أكثر من دراسة وتأمل. ومزاجيته بحاجة إلى أكثر من ملحق "ريضان" كي يلمّ بها ويحتويها. هذا الرجل لديه من الإمكانات في كتابة الشعر وصوغه بما يقارب المعجزة. بداهته يكاد لا يشبهها شئ. يمتح من قاموس ذي بعدين: شعبي وفصيح، وفي الإثنين ترى منه العجب العُجاب. كأنه يغرف من بحر لا ساحل له. لا شاعر في أدبنا الشعبي بإمكانه هز شئ من مفاصلي كما يفعل عافت، جنبا إلى جنب: عبدالمجيد الزهراني، ومسفر الدوسري، وبقدرة عجيبة على التجدّد والاستمرار بنَفَس تصاعدي ملفت للنظر، ويدعو إلى الإعجاب والغبطة. هو أكثر شاعر شعبي عرضة للحسد والغيْرة بما يطلع به على الناس.

صقر وإعادة النظر في "الهجايص"

حين تتيح لك الظروف والوقت أن تكون ثريا ومرفهّا، وفي الوقت نفسه، شاعرا له من الثراء ما يضاهي الثروة المادية، فذلك واحد من النعم الكبرى، ونادرة الحدوث.

نايف صقر لم يتكئ على تراث عائلة في ثرائها. لم ير نهاية العالم في تلك الحقيقة. ظل يستفز مساحة ومنطقة الشاعر فيه. الشاعر القادم بإرباك سيدفع ساحاتنا إلى إعادة النظر في "الهراء" و"الهجايص" بحسب تعبير الممثل سعيد صالح، التي تكتظ بها صفحاتنا الشعبية، وغير الشعبية من طنجة إلى رأس الخيمة.

هذا الشاعر يمتلك قدرة على أداء نصوصه تفوق بمراحل بعض نصوصه. شاعر مستفز على مستويين: النص بكل حمولاته الرؤيوية، والصوت بكل إمكانات "توصيله" النادرة في زمن يحترف "القطيعة"!.

الأمير بدر والتقاط العادي في ذروة الرفاهية

أظل أتساءل: لو لم يكن فردا من العائلة الحاكمة في العربية السعودية، ما الذي سيكون عليه مصيره؟ خصوصا مع المشروع الشعري التجديدي الذي قلب من خلاله معادلات مهزوزة في تاريخ التراث الشعري الشعبي العربي؟ قدره أن يكون فردا من العائلة المالكة، ولكن قدره الآخر أيضا أن يكون شاعرا صفته المغايرة والتجديد، وتحت عنون عريض: الاستفزاز. الاستفزاز لهيكل المشروع الشعري الذي توهّم كثيرون أنه غير قابل للمساس ببنائه، وأحيانا سذاجته وسطحيته وتقريريته ومباشرته. يوم أن طلع الأمير بدر بن عبدالمحسن، على الناس بملامح مشروعه الشعري الأول، توجّس كثيرون ريبة، فيما استهجن كثيرون تلك الجرأة التي لا أرضية مساندة لها، بعد قرون من الممارسة، ووهم التأصيل، لكنه نجح في أن يلتقط يوميات بشر عاديين وبسطاء، وهو في ذروة رفاهيته ومكانته.

حمّاد... حر يجد فضاءه في النص

كلما واجهني هذا الاسم، أو واجهته، أشعر بعمق وحقيقة الخلل الذي تعاني منه هذه الساحة.

هذا شاعر مورس عليه من التهميش والإغفال ما لم يمارس على شاعر آخر. وعلى رغم اتقاد موهبته، وعمق شاعريته، إلا أن جهات يعلمها كثيرون ظلت تعمل في السر والعلن من أجل تأكيد أن الرجل مجرد فقاعة سريعا ما ستنفجر، لكن "الفقاعة" التي توهموها سريعا ما أخذت مكانها اللائق بها، بحيث امتدت بصلابة ومتانة ملفتة، لتتسنّم مكانها في المشهد الشعري على مستوى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، على رغم زهد الرجل في ذلك الحضور، إلا انه يؤتى ولا يأتي، وذلك ما حدث.

عبدالله حمّاد، شاعر هو التعبير الحقيقي عن أنموذج الحرّ الذي يجد في فضاء نصه أكثر من سماء.

الرويحي وتطويع لافت للغة

منذ أن كان مراسلا لمجلتي "قطوف" و "حياة الناس" اللتين كانتا تصدران من إمارة دبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة، وهذا الشاعر يعمل على تخريب القوالب والأضرحة الشعرية التي باتت وصمة خزي على جبين الشعر.

في مشروعه الشعري المغاير الذي يشتغل عليه، أثبت بدر الرويحي قدرة وطاقة ملفتتين بتطويع النظام الصارم الذي كرّس من خلاله شكل القصيدة الكلاسيكية الشعبية، بقفز يكشف عن لياقة وطاقة خلاّقة عملت عملها في ضخ لغة مختلفة ومستفزة ومتجددة في شرايينها وعصَبها، بحيث باتت خيارا مستقلا، ووجها مختلفا في مضمونه. شاعر قادر على أن يفصلك عن حياديتك بقدرته المدهشة وتطويعه اللافت للغة التي يصوغ بها نصه. شاعر هو في الصفوف الأولى من شعراء المنطقة، لا الوطن فحسب.

بدر الدوسري وإحراج شيوخ الطريقة!

نحن إزاء شاعر طوّع تجربتين وبشكل ملفت: العامية بكل جنونه الاستثنائي، ومباغتاته اللغوية المختلفة، والفصحى بكل هدوئه وحكمته ورصانته. في التجربتين أثبت أنه من المبرزين فيهما. أشعر ومن دون أدنى شك، أن بدر الدوسري، يعاني من هوَس في انحيازين لكلا التجربتين، لكنه يظل يفضّل الحضور الأول على الآخر: العامي على الفصحى، ربما لأنه وفيّ لهواجسه واكتشافاته وقبضه الأول، لكنني - وضمن وجهة نظر شخصية - أجدني، وعلى رغم افتتاني بتجربته تلك، منحازا لتجربته الفصحى بكل انفلاتها، وجنونها، وخروجها على النظمية السائدة، وقدرتها على شحذ الانحياز إليها. تجربة تملك من العمق ما يتجاوز بمراحل أسماء ظلت مكرّسة "كشيوخ طريقة" في الكتابة، فيما هي تعاني من أكثر من انحراف وشذوذ!.

سيّار وملء المساحات

ثمة نزعة لا يحبذها كثيرون في هذا الشاعر. نزعة "الأنا" المتورّمة، والطافحة في الكثير من نصوصه، لكنه يظل واحدا من أهم شعراء المرحلة، إن لم يكن أهمهم. شاعر يعزف على وتر يترك كثيرين في مهب الإدهاش والإعجاب بما يترك في الدنيا من سحْر الشعر وسحَره. شاعر استطاع في بعض نصوصه الغارقة في المديح، وأحيانا المديح الذي لا يخلو من تنطّع واسترزاق، أن يترك كثيرين منحازين إليه بصدق بالغ. ثمة حكمة وتلاعب وتسخير للغة، والتحليق بأكثر من جناح من خيال، يذكّر بالكبار من شعراء العربية، وخصوصا الذين قدّر لهم أن يكونوا حراسا على اللغة الفصحى، فشغلوا الناس، لكن الى متى سيتاح لسيار أن يذهب واثقا من قدرته على ذلك الملء والإشغال؟ سؤال نتركه لفحص الزمن ومواجهته.

مسفر الدوسري ابن مفردة

الشعراء المتمردون والعصيّون على الإلجام، يظلون مدينين للشاعر مسفر الدوسري. لا أحد باستطاعته أن يكابر نفيا للتأثر بهذا الشاعر. كتلة ضخمة من حس. يحرج كثيرين، حتى المشغولين ببلاغات ومواقف فارغة. شاعر ينطلق مما أهمله ويهمله كثيرون. بسيط في عبارته ومفردته. عميق حد وضع كثيرين في خانة مساءلة جهلهم، وغياب حسهم، وانتفاء موهبة التقاطهم.

شهادات الكبار فيه وحوله لم تزده قامة، اذ ظل متطاولا في قامته، فارعا في نصه، ممتدا في إنسانيته. شاعرلم يعان عقدة لون ورثه، بل استطاع أن يوقظ عقد كثيرين، على رغم نصاعة ظاهرهم، وسدفة باطنهم. شاعر متورط بالصادق والحقيقي من البياض. شاعر "ابن مفردة" و"ابن حس" لا يكاد يشبهه فيهما أحد.

النَوَّاب ومسرحة الحياة والموت

لا شاعر في الدنيا استطاع أن يوقظ فينا مشاعرنا المنفلتة من "الريْل" و"حمد"، كما فعل مظفر النواب. شاعر يتقصّى الحدود المسنّنة. يبحث عنها كمن يبحث عن حتفه الذي فيه ولادته. تلك الطاقة الهائلة والمفزعة في مسرحة الموت والحياة، الحركة والجمود، المركز والهامش، السيرة والمستقبل، تكشف عن وحش حس، ووحش لغة، ووحش استفزاز، ووحش حضور لا يجاريه فيه أحد.

الذين قدّر لهم أن يحضروا أمسياته في عواصم عربية وغربية مفتوحة على التمرد والخروج: دمشق، بيروت، طرابلس الغرب، وأخيرا في البحرين، وبعض العواصم الغربية: باريس، لندن، براغ، نهاية السبعينات من القرن الماضي، سيكتشفون كم هي كمية الحس التي تراكمت لديه ليس لفرط الشتائم، وحُقَن من قاموس لا يخلو من بذاءته، ولكنه يظل أكثر اتزانا والتزاما من كثير من شيوخ طرائق النص!.

الأبنودي وفشل التوبة في الليلة المحمدية

كان شاعرا حرّا في أعمال تظل حاضرة في الذاكرة، أهمها على الإطلاق "الموت على الإسفلت". قامت قيامة جنرال عربي، بعد أن قرر محو دولة شقيقة من على الخريطة، فوجد في ذلك استثمارا طويل الأمد، فجاء نص: "الاستعمار العربي" واحدا من أسوأ النصوص العامية والأخلاقية في تراث حضورنا الإنساني والشعري. نص مزايدة، وشحاذة، وتنطّع، واستثمار! قرر التوبة من دون أن يعترف بفداحة أخطائه، فكان اختراع "الليلة المحمدية" بمشاركة عدد من "الردّاحين": المطربين العرب، فكانت النتيجة أن الأخطاء تطاولت، وامتدت وتراكمت.

الأبنودي: عملة بوجهين لمفهوم عامي: "اغنم زمانك" بغض النظر عن الطريقة والمدخل!.

الزهراني ومرحلة مصابة بالنسيان

ما الذي يمكن كتابته بشأن هذا الشاعر الذي لا يوجد له شبيه في تاريخنا الشعري بأسره؟ ما الذي يمكن تقريره بحق شاعر يدفعنا دفعا إلى الإيمان بالخرافات، وبجنيّات الشعر، ووادي عبقر؟ ما الذي يمكن كتابته بحق شاعر هو في الذروة من التحايل على قاموسنا الذي تعرض لأكثر من حرج وعطب أمام هول جنونه وانفلاته وتمرده؟.

شاعر يكاد لا يشبهه شاعر في تراث العامية العربية بعمقه الحاد والجارح، والتقاطاته الذكية، وإمساكه العصي على الرؤية.

شاعر هو بمثابة عنوان ومضمون في الوقت نفسه لمرحلة في الطريق إلى نسيان ذاكرتها، أو التبرؤ منها.

اللحدان فشل الإقامة الجبرية

لا شاعر في هذا الحيّز من الوطن فرضت عليه الإقامة الجبرية، من دون نص قانوني، كما فرض على الشاعر خليفة اللحدان. صمت لأكثر من عقود ثلاثة عن الثرثرة والنميمة وأكل لحم الأخ والجار ميتا.

ربما حاولت "ريضان" أن تكسر طوق العزلة والإقامة الجبرية تلك. ولا تدّعي أنها نجحت في ذلك، لأننا لم نصب بعد بمرض اختطاف الأدوار أو تقمّصها، ولكنه استطاع بعد عقود ثلاثة من الغصّة، والتهميش، والإغفال أن يكشف حقيقة هذه الساحة المصابة في رجولتها أولا، وأخلاقها وضميرها ثانيا. شاعر أصيب بالعزلة في درجاتها الحرجة والظالمة، ولكنه ظل منفتحا على العالم والناس والأمكنة والجنون والحكمة في صورها المحرجة والباعثة على الإعجاب.

خليفة اللحدان، شاعر أريد له أن يصمت كقبر، ولكنه أصرّ على أن يلهج بصوته من عمق عزلته، بما يكفي لدكّ أكثر من معبد وصنم.

فزاع وثنائية المفاجأة... المقلب

كان الظهور الأول لسمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم (فزاع)، مفاجأة ومقلبا في الوقت نفسه. مفاجأة لأن هذا الصوت جاء مُحمّلا بالخبرات وعمقها في نصوصه الأولى. تردد كثيرا في النشر لسنوات، وحين فعل ذلك، كانت المفاجأة في أن هذا الشاعر أعاد صوغ الكثير من النصوص التي بقيت متربعة على كراسي ظلت مع مرور الوقت علامة مسجلة لها. كشفت نصوصه التالية حجم المأزق الذي كان يعاني منه المشهد الشعري الإماراتي، خصوصا وانه يتكئ على خمسة أصوات فقط، هي من الأهمية بمكان، بحيث استقر في وعي كثيرين، أن الساحة الشعرية هناك لم تعد قادرة على فعل الإنجاب، ليخرّب سمو الشيخ حمدان كل ذلك بظهور يكاد لا يشبهه ظهور آخر في الإمارات منذ عقود من الزمن.

العدد 1627 - الأحد 18 فبراير 2007م الموافق 30 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً