العدد 1642 - الإثنين 05 مارس 2007م الموافق 15 صفر 1428هـ

ليو ستراوس... هل هو فيلسوف تيار «المحافظين الجدد»؟

من هو فيلسوف تيار «المحافظين الجدد» ؟ ومن أين استلهم هذا التيار الأميركي المتشدد أفكاره؟

حتى الآن هناك اختلافات في وجهات النظر. في العام 1999 كتبت شاديا دروري أطروحة عن ليوستراوس (توفي في العام 1973) وكشفت شبكة اتصالاته باليمين الأميركي المتطرف واتهمته بأنه استغل موقعة الأكاديمي في جامعة شيكاغو وقام بتدريس أشياء مختلفة لتلامذة مختلفين. هذا الرأي اليساري ينفيه ستيفن سميث من موقع مضاد. سميث يؤكد أن ستراوس لا علاقة له بالسياسة ولا يهتم بهذا القطاع من جهة النشاط العملي. وأكد سميث أن ستراوس مجرد باحث أكاديمي اشتغل على الفلسفة السياسية وقرأ تياراتها ومدارسها من جانب مختلف من دون أن يخطط سلفا لتأسيس فلسفة جديدة في العلوم السياسية.

رأي سميث يؤكده مفكر أميركي انتقد ستراوس من موقف يميني. فالباحث بول غوتفريد يتهم ستراوس بأنه ضد اليمين وأفكاره غير واضحة فهو خلط العداء للسوفيات في فترة «الحرب الباردة» بأفكار ميشال ليند وسان غوست وأعمال ليون تروتسكي. ومن مجموع هذه الأفكار شكل نظرية سياسية بعيدة عن منهج التفكير اليميني في الولايات المتحدة.

هذه الاختلافات في وجهات النظر بشأن أفكار ستراوس وموقعه ودوره دحضها تلامذة هذا الأستاذ في جامعة شيكاغو. فالسياسي ورئيس البنك الدولي حاليا بول وولفوفتز أكد أن ستراوس هو المؤسس. كذلك أشار إلى هذا الجانب تلميذه في الجامعة بيل كرستول.

إذا هناك وجهات نظر مختلفة عن أفكار ستراوس ودوره السياسي المختلف. البعض يراه مجرد أستاذ جامعي تأثر به تلامذته ونسبوا إليه أشياء لم يقلها أو يفكر بها. والبعض يراه فيلسوفا في علم السياسة ومؤسس نظرية حديثة جمعت بين فلسفة الأنوار الديمقراطية الليبرالية الغربية وبين الفكر الاشتراكي الديمقراطي الذي شق طريقه بعد الثورة الفرنسية وظهور تيار اليعاقبة المتطرف. وهذا الجمع بين فكر ديمقراطي ليبرالي منفتح وفكر يساري متطرف بدءا من الثورة الفرنسية وانتهاء بالثورة الروسية أنتج نظرية جديدة في عالم السياسية تقوم على فكرة العداء للشيوعية (السوفيات) والنازية (ألمانيا). وبسبب مصادر ستراوس المتنوعة التي شكلت روافد لتيار «المحافظين الجدد» اتهم هذا الأستاذ الجامعي بأنه أسس لمنهج يعتمد نظام «العقد الاجتماعي العظيم». وهذا العقد المستمد من أفكار الثورة الفرنسية تأسس على معادلة «يعقوبية جديدة» و «تروتسكية جديدة» أطلق عليه صمويل فرانسس وجورج وولس تسمية نظام «العقد الاجتماعي الجديد العظيم» الذي يتناسب مع الرأسمالية المعاصرة في الولايات المتحدة وبعض أوروبا.

بدأ هذا النوع من التفكير الايديولوجي الجديد ينتشر في أميركا في العام 1960، وأخذت أفكار هذا التيار تسجل نجاحات محدودة في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون وبرزت آنذاك في هذا الخط مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في العام 1970 السفيرة جين كيرباتريك. إلا أن هذا «الفكر الجديد» المتشكل من مصادر فلسفية مختلفة وأحيانا متعارضة لم يعرف الشهرة العالمية إلا في عهد الرئيس رونالد ريغان الذي يعتبر من المعجبين والراعين له. فالرئيس ريغان تبنى الكثير من مقولات هذا التيار السياسي واستلهم منه مجموعة شعارات متطرفة خلال فترة المواجهة الباردة مع الاتحاد السوفياتي إذ أطلق عليه تسمية «إمبراطورية الشر» وقاد ضده معارك اختلطت فيها الجوانب الدينية بالرؤية السياسية.

أدى هذا الالتباس الريغاني بين الديني والسياسي إلى خلط أفكار «المحافظين الجدد» باجتهادات الأصولية المسيحية ومصالح الامبريالية العسكرية. وتشكلت من الالتباس المذكور خطابات «الحرب الباردة» التي انتقدت السياسة الأميركية الخارجية المعتدلة والتقليدية ودعت إلى اعتماد لغة ساخنة تناسب المعركة النهائية التي تقودها «قوى الخير» ضد إمبراطورية «الشر» السوفياتية. ودعمت هذا التيار الأصولي المتطرف والمتحالف مع المحافظين الجدد مؤسسات بحث ومراكز ومعاهد استراتيجية ومجلات فكرية. وبرزت في هذا النشاط مجموعة أقلام اجتهدت في صوغ نظريات سياسية للموقع الأميركي الجديد ودور الولايات المتحدة في صنع مستقبل البشرية. واشتهر ايرفنع كريستول ونورمان بودهرتز في كتاباتهما التثويرية في هذا المجال.

كل هذا النشاط الذهني حصل في السنوات الأخيرة من عمر ستراوس لذلك اختلفت الآراء بشأن دوره في تشكيل هذه النظريات الجديدة المتصلة بالسياسة الأميركية وموقعها الكوني في صوغ «المجتمع الحديث». فهناك من يعتبره الأستاذ المؤسس وهناك من يراه مجرد باحث أكاديمي تخرجت بإشرافه الجامعي مجموعة من الأجيال ثم رجال الدولة في فترة لاحقة.

ليوستراوس

بغض النظر عن صحة دوره يبقى السؤال: من هو ليوستراوس؟ ولد ستراوس في العام 1899 في ألمانيا من أسرة يهودية محافظة وتربى في طفولته على تلك الآداب الاجتماعية المغلقة. وفي فترة شبابه درس الفلسفة السياسية في جامعة ماربورغ وتأثر بأفكار هيرمان كوهين. وخلال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) خدم في الجيش الألماني لمدة سنة. بعدها دخل جامعة هامبورغ وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة السياسية في العام 1921. وتأثر في هذه الفترة بأفكار هاسل وهايدغر والمستعرب بول كراوس.

بسبب علاقاته العامة ساعده كارل سميث على الحصول على منحة من مؤسسة روكفلر في العام 1932. فعاش فترة في أميركا وعقد صداقة مع المفكر ريمون آرون. وخلال وجوده في الولايات المتحدة زار باريس ثم ألمانيا وكانت الزيارة الأخيرة لموطنه الأصلي. ومن هناك توجه إلى بريطانيا وعمل مع جامعة كامبردج في العام 1935 لمدة سنتين. وفي العام 1937 انتقل نهائيا إلى أميركا بمساعدة من صديقة المفكر هارولد لاسكي. في الولايات المتحدة اشتغل في قسم التاريخ في جامعة كولومبيا، ثم حصل على وظيفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك وعمل هناك لمدة عشر سنوات (1938 - 1948). وانتقل في العام 1949 إلى شيكاغو ليصبح أستاذ العلوم السياسية في جامعتها.

استمر ستراوس يدرس الفلسفة السياسية في جامعة شيكاغو إلى العام 1970 لينتقل بعدها للتدريس والبحث في كلية سان جون في انانبوليس إلى وفاته في العام 1973.

عاش ستراوس 74 عاما متنقلا بين ألمانيا وأميركا وفرنسا وبريطانيا وأخيرا الولايات المتحدة. وخلال هذه الفترة اتصل بالكثير من المفكرين والفلاسفة السياسيين في عصره وتعاون معهم واشتهر من خلال علاقاته العامة معهم. فقد عرف ستراوس بعلاقاته الجيدة مع المشهورين وأقام علاقات مميزة مع الأساتذة والتلامذة ومجموعات أخرى تتميز بالشهرة السياسية أو الفكرية أمثال آلان بلوم (صاحب كتاب العقل الأميركي المغلق) وهاري جافا (خدم المترشح اليميني المتطرف للرئاسة باري غولدوتر وكتب خطاباته). إلا أن الأهم في حياة ستراوس كانت تلك الشلة من التلامذة التي نجحت في اختراق المؤسسات واحتلال مواقع مهمة في الدولة ومن ابرز هؤلاء: بول وولفوفتز، البرت ولشسيتر، ابرام شولسكي، هارفي مانسفيلد، اندروسولفين، اليوت ابرامز، الان كيز، ريتشارد بيرل، بيل كرستول، دوغلاس فيث، وفيلكس روهاتن.

هذه الشلة من الأسماء صعدت إلى السلطة في عهد جورج بوش الابن واحتلت مواقع مهمة في «البيت الأبيض» ومكتب نائب الرئيس ديك تشيني، و « البنتاغون» ومكتب وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد.

أهمية ستراوس إذا ليست في أفكاره السياسية التي تركزت على قراءات مختلفة للفلاسفة وإنما جاءت من علاقاته الخاصة مع أصدقاء مميزين ومفكرين مشهورين وتلامذة مخلصين حاولوا تطبيق ما نسب إليه من نظريات في عالم تقوده الولايات المتحدة منفردة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي وفترة ما بعد «الحرب الباردة» وما تركته من فراغات سياسية في الفضاء الدولي. فهؤلاء التلامذة اخذوا يبحثون عن عدو جديد يشكل ذاك الهدف السياسي/ التاريخي لإسقاطه فوجدوا في الإسلام ضالتهم المنشودة. ولكن هل تحتوي أفكار ستراوس على مثل هذه التوجهات المضادة للإسلام؟ لا دليل حسيا على ذلك في مختلف كتاباته. ترك ستراوس 15 كتابا في الفلسفة السياسية وتركزت مؤلفاته على معالجة قضايا عامة تطرق لها معظم الأساتذة في كتبهم. فهو درس سقراط وأفلاطون وأرسطو وميكافيلي وبيكون وكانط. كذلك اشتغل على بحوث ماكس فيبر الاجتماعية، وفلسفة مارتن هايدغر، وتوماس هوبس، وجون لوك، وجان جاك رسو، وادموند بورك، واوغست كونت. واهتم أيضا في قراءة فريديرك نيتشه وسيرين كيركيغارد وفريديرك هيغل محاولا تأويل بعض بحوثهم التي تطرقت إلى حقول معرفية مختلفة ومتناقضة من دون أن يتحول إلى صاحب نظرية مستقلة في الفلسفة السياسية.

ستراوس في كتاباته كان اقرب إلى التجميع والتركيب والمقارنة وهذا ما فعله حين درس فلسفة سبينوزا. وسبينوزا فيلسوف هولندي يهودي اشتغل على فلسفة الفقيه موسى بن ميمون ومنهجه في «دلائل الحائرين». وابن ميمون الذي عاصر صلاح الدين الأيوبي تأثر بالفقه الإسلامي وكان يعتبر من انصار ابن رشد وشجع أتباعه على حضور محاضراته ودروسه في مسجد قرطبة في الاندلس.

اشتغال ستراوس على سبينوزا فتح عليه باب الاطلاع على الفلسفة العربية والفقه الإسلامي. وفي العام 1952 صدر له كتاب عالج فيه فنون الكتابة ومناهج البحوث عند الأقدمين وعقد في هذا الإطار مقارنة بين ابن ميمون والفارابي. الفارابي كما هو معروف كان من المتابعين للفلسفة الإغريقية (اليونانية) ومن المعجبين بكتاب «السياسة» لأرسطو وكتاب «الجمهورية» لافلاطون. وقام الفارابي بنسج مؤلفة عن «المدينة الفاضلة» على منوال افلاطون لكنه اختلف معه في الكثير من النظريات وخصوصا تلك المتصلة بالصانع وبالحكماء وتنظيم المدينة.

من كل كتب ستراوس يصعب الخروج باستنتاجات صارمة عن دوره في تأسيس تيار «المحافظين الجدد». فهو باحث وصاحب آراء واجتهادات وخلاصات ليس بالضرورة أن تكون متطابقة مع روايات تلامذته عنه. وبصفته دارس للفلسفة السياسية حاول تأويل بعض المحطات الزمنية لتطور الفكر السياسي فهو مثلا يعتبر محاكمة سقراط الخطوة السياسية الأولى في الفلسفة. وفي ضوء استنتاجه هذا درس فلسفة القانون وفلسفة الحق الطبيعي وعلاقة المدينة بالإنسان ومحطاتها التاريخية كما ظهرت في الفلسفة الكلاسيكية القديمة وتلك المدارس الفلسفية التي ظهرت في أوروبا في عصر نهضتها وصعودها.

الآن تحول ستراوس بعد وفاته إلى فيلسوف تيار «المحافظين الجدد» بحسب ما يقول تلامذته المخلصون. هذا التأويل يحتاج إلى تأكيد وحتى الآن ليس هناك من ثوابت وإنما إشارات صغيرة لا يمكن البناء عليها لتأكيد الفرضية بشكل نهائي وحاسم.

العدد 1642 - الإثنين 05 مارس 2007م الموافق 15 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً