العدد 1644 - الأربعاء 07 مارس 2007م الموافق 17 صفر 1428هـ

أنا إسرائيلية لكن منعت من دراسة تاريخي

الجليلية تغني لآخر القتلى... كاميليا:

ضمن فعاليات مهرجان ربيع الثقافة 2007م، استضاف مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، المغنية والعازفة الفلسطينية كاميليا جبران، التي قدمت تجربة متميزة، حاولت من خلالها توظيف الإرث الموسيقي العربي، باحثة كما تقول «عن الجديد المتحرر والمتطور، غير آبهة بما جمد في الأذهان».

فلسطينية ولدت في العام 1963م، تحمل وجها جليليا، أخذ ملامحه من إحدى قرى الجليل، لأب مغموس بالموسيقى الشرقية، متخصص في خلقها، كان معلما بارعا لها، هو إلياس جبران، كان نبيها الأول، ووحيها الروحي في خطوتها، شغل ذاكرتها بالموسيقى العربية، لتنضم إلى فرقة «صابرين» المقدسية بعد ذلك، منذ العام 1982، وخلال عملها معها أنتجت أربعة أعمال، واشتركت في المغادرة الدائمة للعازفين «المتجولين»، لتزور عواصم مختلفة، وقرى فلسطينية، غير أن دافعا ما ضل يراود كاميليا، كانت في قلق أمام بحثها المستمر في ذاتها، ذاتها التي نضجت وحان أن تصل إلى المتلقي، فشقت طريقها في علاقة مختلفة مع الأغنية العربية والفلسطينية، فوصلت محطتها «محطات» في العام 2002م، وهو أول عمل فني لكاميليا خارج دائرة فرقة صابرين، فقدمته في مدينة بيرن السويسرية، ومنها أخذت طريقها خطواتها لعواصم أوربية مختلفة، كانت تلقي عليهم بقمصانها وموسيقاها، وفي العام 2004م أنجبت أبنتها الفنية الثانية «وميض»، مع الفنان السويسري فرنر هاسلر.

وبترك كاميليا القدس العام 2000، اتخذت فرنسا مسرحا لعملها الفني، ومازالت هذه العازفة المعنية تواصل بحثها الفني، محققة حضورا، من خلال غنائها ومزجها في أعمالها المقدمة بين الشرقي والجاز الغربي، كاميليا التي تتسلق جدار الجغرافيا كبنفسجة، تمتد ذاكرة شرقية على المشهد الكوني، في غنائية مختلفة ومتميزة، بشحنات عاطفية، وتماه بين النص والعزف والموسيقى، بحيث تشعر من ملامحها وحركة جسدها أنها كتلة واحدة، وجدت نفسها وحيدة لأن حلمها كان ينمو باكرا، كصفصافة تخرج إلى الحقل، وفكرتها عن الموسيقى تشعبت، فأخذت أبعادا وأشكالا مختلفة، بذلك أوجدت كاميليا نمطا خاصا بها، وبصمة ملتصقة بأدائها، سواء من خلال معالجتها للنص النثري غنائيا، أو عبر فهمها وترجمتها للنص.

أختباران نصية وفوض جميلة...

دائما ما يثار بشأن كاميليا اختياراتها «النصية» التي يمكن أن يصفها البعض بالصوفية، وإذا أصبحنا متشددين أكثر سنقول الفوضى الجميلة، إذ إنها لا تنتمي لقالب إيقاعى محدد وإن كانت في داخلها تمتلك إيقاعها الخاص، كالنماذج الصوفية، فهل هي محاولة لكسر المتوقع أم هو محاولة لنسخ النماذج التي صنعتها مخيلة كاميليا في اللحن، تلفت كاميليا برشاقة، وتقول: لا يمكنني فصل هاتين النقطتين فلدي هاجس داخلي يناديني ويدعوني لطرق جديدة يجب عليّ الذهاب إليها، هناك قوالب تعلمتها وتربيت عليها وأحبها كثيرا لدرجة إني أحب أكسرها. هناك الإيقاع البحت الإيقاعي جدا وفي الوقت نفسه فإن وجود الإيقاع يسمح بألا يكون هناك إيقاع، وأن يكون هناك عبث. وأخيرا كوني أطلق العنان لنفسي، أسير بحسب إحساسي الداخلي، وهو الفارق.

التراث... الصوفية وعبث اكتشاف الذات

أطلقت على التجربة أو اكتشاف التجربة عبث، ومن خلال لقاءات كاميليا، فيمكننا إدراك أنها لا تطلق كلماتها جزافا إذا صح التعبير، فبين صوفية أو ذاكرة طفولة وتربية في بيت ملحن وهو والدك، والدخول إلى أجواء هذا العالم من خلال ذلك ومن خلال أخويك، الدخول إلى سمة اللحن، في جانب منها جانب تراثي وجانب صوفي إذا صح التعبير، وهناك جانب متطرف جدا، حداثوي وما بعد حداثي في التجريب، وهو ما أسميته أو أطقلت عليه «عبث» في الذهاب لاكتشاف الذات، كيف تنسقي بين هذين في (لحن) واحد وآلة واحدة، كيف تنسقي بين كل جانب، ألا يوجد هناك تناقض، فترد: أنا لا أعرف إذا كنت استطيع التنسيق، ولا أتساءل إذا ما كنت أستطيع ذلك أم لا، هو ليس سؤال بالنسبة لي ما يهمني أكثر هو قبول التساؤل، وأن الأشياء ليست منزلة، نحن نصنع الأشياء هكذا تعلمت، فالموسيقى التي تربيت عليها هناك، من قام بعملها؟، من كتبها ولحنها وتعلم من أجدادنا؟، الإنسان هو الذي راكم هذه التجربة، وأنا لأني أعتبر نفسي إنسانا يحق لي ذلك أيضا بكل بساطة.

أولوياتي... التواصل ومباشرة الخطاب

واضح من اختيار الطبقات الصوتية، وكذلك الموسيقى نفسها أنها مرت بمجال الانتقال من الطبقات الصوتية المختلفة في العمل الواحد، بعض الطبقات تبدو عالية وأخرى منخفضة، بحسب الشعور إذا صح التعبير، بحسب الشحنة الدلالية لكل كلمة، التي تعطي انطباعها، ممكن كما حدث في (الحرب) أو في مجمل وميض إذا صح التعبير، تنتمي إلى الشحنة الدلالية للكلمة، بحيث ما هي تنطبع في ذات كاميليا، من هذا الباب والنقطة السابقة بشأن التمرد وكسر التابو أو كسر المتعارف عليه والانتماء للذات أكثر كما تشير كاميليا، هل يمكن اعتباره الهاجس والوحيد وراء هذا التجريب؟، وهل العبثية فقط هي التي تدفعك إلى اختيار نصوص نثرية مع وجود كل هذه الصعوبات التي تحيط بمثل هذه النصوص، تقول كاميليا: أبدا، أنا أبحث عن التواصل، يهمني أن يكون في حياتي أََناس أتواصل معهم، ليس فقط عن طريق الموسيقى، أحب أن أقرأ كتابا وأقول إن هذا الكتاب لغته معاصرة، ولا يهم معاصرة بالمفهوم التكنولوجي، بل معاصرة بمفهوم تصور حرية التعبير، والخوض في أماكن جديدة. الشعر كذلك، أنا أقرأ الكثير من الأشياء شعرا ونثرا، هذا كله مهم، ثم أقرر استخدام هذا النص أو ذاك، بناء على كون الخطاب موجه مباشرة إليّ حتى لو لم ألتق الشخص الذي كتب، أيا كان النص.

هل يمكن فهم تجربة كاميليا أنها غير ثابتة، فمن خلال تجارب عدة، ومن خلال ملاحقة كاميليا في أماكن عدة، نجد النص الذي يمكن أن تغنيه بطريقة يمكن أن تغنيه مرة أخرى بطريقة مختلفة، إذن هي ترتجل، بناء على الجو العام وعلى اللحظة التي تعيشها، ليس هناك ثابت وليس ذلك لاختلاف المكان والزمان بل كل ذلك يخضع للحال الشعورية عند كاميليا، فهل ترتجل أجزاء من النص اللحني؟

لتردف كاميليا: أنا لا أرتجل النص، ولا أكتب الشعر، ليس لدي ملكة شعرية، هناك ثوابت لأجيب عن سؤالك، فأنا أعمل على نص معين، ارتجالي من النص سيكون هو التفكير في الجملة، لكن ليس هناك ارتجال، لا اسمح لنفسي أن ارتجل في النص بقدر ما أعمل في الموسيقى، لا توجد أغنية أستطيع أن أغنيها بشكل مختلف، هذه مهمة شاقة وصعبة عليّ، وتبرز المهمة الشاقة في وقت العمل في الأستوديو، إذ عليك أن توفق بين تسجيل محدد وجودة تعجبك بحيث انك إذا سمعته عدة مرات لا تمل منه، وبين عفويتك، يعني التوفيق بين الأداء الحي والتسجيل الذي يكون فيه دائما صعوبة أكثر من العروض الحية. بما معناه أن أضع أولا الثوابت، وهي موجودة حتى لو خرجت عنها.

الاختلاف ضرورة... وأنا متصالحة مع نفسي

عند ما انتقلت كاميليا من القدس حملت حقائبها وحملت معها وطنا، الوطن هو ما نشعر به، قد لا يكون واقعا جغرافيا، والقضية ما نشعر بها سواء كانت متعلقة بالهم الإنساني أو غيره. كاميليا لديها مواقف واضحة وهي متصالحة مع نفسها جدا، كيف تتعامل مع المجتمع مثلا، وهي تختلف عنه في جوانب كثيرة اجتماعيا إذا صح التعبير، أو التابو الثلاثي، كيف تتعامل مع القضية، هل يمكن تصنيفها كاتبة ملتزمة للجسد، أو كاتبة ملتزمة للقضية، أو كاتبة ملتزمة للأيديولوجية الخاصة التي تمتلكها، يعني ألا توجد هناك أيدلوجيا عامة يمكن أن نصنف كاميليا من خلالها, هذا الوطن الذي انتقل معك هنا والقضية كيف تتعاملي معه، تبتسم قليلا وتقول: أتعامل معه كما تعاملت معه في مراحل حياتي، كما أن التعامل ليس واحدا، فأنا كبرت ومازلت أكبر وأتعلم أشياء، تعاملي معه أكثر بمعنى حتى التجربة الغنية جدا لصابرين والفرقة وكيف نتقبل الأغنية السياسية، إذا كان موضوع النقاش هو ما هي الأغنية الملتزمة؟، ما هو مسموح أن نغنيه، وما هو المطلوب، وما الذي نريد أن نغنيه نحن، هذا المطروح من البداية، أعتقد أن التخبط موجود لدى كل الفنانين الذين يغنون الأغنية الملتزمة، والذين يقولون حتى اليوم أفلت الأغنية الملتزمة، يجب أن نسأل ما هي الأغنية الملتزمة وتعريفها، أنا وصابرين كنا واعيتين أن الفكرة الفنية يجب أن تحترم إذا كان هناك عمق فني، فهو الهاجس، ليس هناك داع لأن أقول كل يوم أنا فلسطيني، لمن أريد أن أثبت أنني فلسطينية، الأمر لا يستحق ذلك، مختلفون نحن والصهاينة، وهذا الاختلاف يجب أن يكون موجودا، لا يمكنني أن أعيش في مجتمع أشبه فيه جاري أو أي أحد آخر، وأن أغني الأغاني التي يغنيها نفسها، إلى أين سيوصلنا ذلك، هذا التنوع وهذا الحوار وكل هذا جعلني أتصالح مع نفسي أكثر، وأقبل وأسمح لنفسي أن أقول أكثر ما هو الالتزام تجاه قضية؟

الهوية... رنات العيدان وحديث جيلين

وعند سؤالنا كاميليا عن مفهوم الهوية، إذ يحضر في جانب آخر ورق الجنسية الرسمية، قالت: هل الهوية ورقة، هل هي ختم لشخص يطابق في الجنسية والهوية الشكلية، والتي تخضع لقوانين القوى الحاكمة في العالم، هذا جانب وهناك تاريخ وإنسان وحضارة ولغة وتجارب وتراكمات إنسانية. وعندما سألناها «هل أنت إسرائيلية بالجواز»، أنا إسرائيلية بالجواز، بالهوية، وفي رخصة السياقة، وفي بطاقة الائتمان البنكية وفي كل ما تريد لا يعني ذلك شيئا.

يقول عزمي بشارة دائما، لأنني فلسطيني قبلت بهذا الورق الإسرائيلي كيف تقرأ كاميليا هذه المقولة، أجابت: في فيلم وثائقي قمت بالمشاركة في عمله وعرضته أول مرة في سويسرا الشهر الماضي والفيلم اسمه «Telling Strains» بمعنى الأوتار التي تحكي قصة وعنوانه بالعربي هو (رنات العيدان)، الفيلم هو عن شريحة عن عائليتي، أو بورتريه عائلي قصير 60 دقيقة، توثيقي، في الفيلم هناك حديث جيلين، جيل النكبة وهو جيل أهلي أبي وأمي، وكيف خلقوا الموسيقى، وهناك حديث الجيل الثاني نحن أنا وأخوتي الاثنين، من خلال الموسيقى، كيف صنع والدي العود ولماذا، ونحن لماذا الموسيقى. التوافق والاختلاف بين الجيلين تحت واقع الاحتلال الذي نعيشه، والدي مثلا يقول في الفيلم أنا في العام 48 واحد من الفلسطينيين الذين لم نقتل ولم نهجر، تهجرنا من قرية إلى قرية، لكني تمكنت من العودة إلى قريتي، وأنا سعيد جدا أني بقيت على أرضي، ولم أصبح لاجئا في أية دولة عربية أخرى. نعم أنا أعيش تحت مسمى درجة سابعة أو عاشرة في هذه الدولة، لكني على الأقل أعيش على أرضي وأنا أفصل نفسي عنهم.

أما الجيل الثاني، هناك عملية طمس ومحو للهوية، يتم العمل عليها وبإصرار من قبل التيار الصهيوني والدولة الإسرائيلية الحاكمة، لكي تواجه هذا التيار يجب أن يكون لديك عزم وإصرار غير اعتيادي وإلا فيجب عليك أن تنسى أو تتناسى. أنا شرفي أن أولد في عائلة مثل عائلتي، وأن أعيش مع أمي وأبي، وهما الاثنين ليسوا قوميين، لكن تاريخهم لا يزال «عايش»، ومن دون الكلام مباشرة ومن دون أن يأتي من يقص عليّ التاريخ، لم يخبرن أحد بقصص الاحتلال، ولم يكن لنا الحق في أن نتعلم تاريخنا في المدرسة، لكن كان هناك جو في البيت ،واضح أننا نعيش وضع غير طبيعي وأننا ناقمون، وأنا تربيت في هذا الجو. طبعا هناك أجيال جديدة ثانية لم تعط لهم هذه الفرصة، ضائعون، هناك شباب فلسطيني لا يعرف انه من فلسطين، عرب إسرائيليون ويتكلمون العربية. وهناك أشخاص مثل والدي الذي لايزال يعيش على أحلام الوحدة ... هناك كل هذه النماذج.

العدد 1644 - الأربعاء 07 مارس 2007م الموافق 17 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً