العدد 1651 - الأربعاء 14 مارس 2007م الموافق 24 صفر 1428هـ

زمان لعبنا به

في الزمن الماضي وفي الثلاثينات كان هطول الأمطار مبعث فرح وسرور للأطفال وربات البيوت، وقد كانت الأمطار في مدن البحرين ولاسيما المنامة تخلف وراءها بركا من الماء الشحيح آنذاك في مناطق متعددة من الأحياء، وكنت مع أطفال الحارة ألهو وأمرح في تلك المياه الغامرة وبعضها يصل عمقها أحيانا إلى الكتف مثل البركة التي تتكون في براحة بيت الصيرفي في «فريق» المشبر من المخارقة، ولم يكن الناس يسمونها المستنقع، على رغم غضب آبائنا وتأديبهم لنا حين نعود إلى المنزل بثيابنا المبتلة.

وكنا نقيس اضمحلال تلك البركة كل يوم بالولوج فيها، وبعض الأشقياء كانوا يغطسون رؤوسهم فيها ويسبحون، ولم يكن فرح ربات البيوت بهذه البرك بأقل من الصبية فقد كن من ذلك في شأن عظيم. فالحصران المنزلية كانت تنشر وتغسل وكذلك الثياب وأواني المنزل، ولا تسأل عنئذ عن الصراخ والعياط وعراك الصغار، وأحاديث الكبار والهرج والمرج والكلمات اللاذعة حتى يرتفع صوت المؤذن في الظهر أو المساء ليعود الجميع إلى المنزل فرحين بما آتاهم الله من فضله.

فإذا جف ماء الأمطار تخلّف الطين والوحل في البرك وعلى جوانب الطرق إذ لم يكن بمقدور «البلدية» في الثلاثينات عمل شيء لإزالتها غير جرف ذلك الوحل إلى جوانب الطرق ليتراكم على شكل كتل كروية كبيرة أو صغيرة وتكون الأولوية عادة لطرقات السوق التجارية ومن بعدها للطرقات الموصلة إلى السوق إذ يجرفها عمّال «البلدية» على الصورة المذكورة.

أما الطرقات البعيدة عن السوق فتستمر معاناة المارة فيها من الوحل والمياه حتى تجف من ذاتها وتتحول إلى غبار تذروه الرياح، وقد عانى إبراهيم العريض الأمرين على ما يبدو من تلك الحال فنظم قصيدة عن البحرين والشتاء ختمها بقوله:

لا تصلح البحرين للسكنى

إذا حل الشتاء

وكانت لي في صغري هواية العبث بتلك الكتل الجانبية من الوحل لاختبار جفافها وذلك بالوقوف عليها وأنا ذاهب إلى السوق، وكم من مرة غصت فيها إلى الركب وعدت إلى البيت لتغيير الملابس غير عابئ بالعقاب.

ولم يكن بمقدور «البلدية» أيضا جمع النفايات كلها من المنازل فكان يفيض منها الشيء الكثير إذ يلقى في مجمع للنفايات سرعان ما يتحول إلى تل صغير عند كل حارة يطلق عليه اسم «السمادة»، فهناك سمادة «فريق» المخرق وسمادة أخرى على شارع الكنيسة وسمادات أخرى في مجمع كل «فريق» سرعان ما تتحول إلى ملاعب للأطفال، الذين يمارسون التزحلق من فوق «السمادات»... قبل أن تزال وتنقل فيما بعد إلى «فريق المقصب» لردم البحر.

وفي ذلك الزمن (زمن السمادات) كانت بيوت الحجر متشابكة مع بيوت السعف لذوي الدخل المحدود، وفيما كانت بيوت السعف الفقيرة عادية المظهر تتكون من «حضار» مربع أو مستطيل وبداخله حجرة أو حجرتان (برستج) ومطبخ بسيط مفتوح ومرفق بدائي، فإن بعض بيوت السعف كان محترما ذا طابقين وعريش على السطح تخفق فيه الرياح.

وكانت تلك العشش السعفية أكثر تعرضا للحريق وتلف الأمطار وتناوب الليل والنهار، فبعضهم يستأجر المختصين لصيانتها وبعضهم من غير القادرين يستعين برهط من فاعلي الخير والأصدقاء مقابل وليمة فاخرة، ومن هنا جاء قول القائل: «ذاهبون لتعديل حضار فلان»، أي لتناول الغداء عنده.

وكان من بعض شئوني في الصغر الوقوف عند المتطوعين لإصلاح تلك المنازل وتشجيعهم والإنصات إلى أحاديثهم وإلى تبادلهم النكات على صاحب الدار «نعدل حضارة ونسكر ظهره (أي بالإكثار من الأكل)».

ولكن أخطار الحريق لم تزل متربصة بتلك البيوت السعفية على مدار السنة، وفي كل «فريق» يوجد (رينغويل) أي جرس كبير مرفوع على بناء حجري مرتفع ذي درجات قليلة، يصعد إليه أول المارة حين يشب الحريق ليقرع الجرس فيتهافت الناس إلى الموقع لإطفاء الحريق بهوس جنوني.

كنت أطل وأنا صغير على بيت الماحوزي المجاور لنا أثناء الحريق بعد أن جاء والدنا بمن يساعده على تجميع الأثاث وإزالة المواد القابلة للحريق خوفا من امتداد النار إلى منزلنا وهو من الحجارة، وجدت شخصا أعرفه ويعرفه أهل الحارة بجرأته وبشجاعته راكبا على عريش يحترق، وبيده منشار وهو يحاول أن يقطع (الدنجلة)، أي العارضة الخشبية التي كان واقفا عليها، وصرخت به مع الناس المحتشدين محذرا، ولكنه استمر في عمله حتى سقط من فوق العريش ليتلقفه الناس، وهكذا أصبحت مناسبة إطفاء الحريق مجالا لإظهار الشجاعة والتطوع لنجدة الآخرين.

ثم تأتي مناسبة التبرع للمنكوبين فيجود عليهم كل جار وفاعل خير بما يستطيع...

ويمتد وعي الناس وسعيهم إلى الخير ومساعدتهم الآخرين في الضراء والسراء إلى مختلف جوانب المعايشة والجوار رجالا ونساء على السواء، وكم من مرة شاهدت وأنا صغير رجلا مارا يذهب إلى والد أحد الصبية أو امرأة تذهب إلى أمه للإخبار عن سلوك يعتبر غير لائق كالسب أو الشتم أو معاشرة أصدقاء السوء أو التعرض لفقير أو مشاكسة رجل ضرير أو إلقاء الحجارة على منزل، إلى غير ذلك.

وأخيرا... كانت تلك إحدى الذكريات الماضية بمناسبة هطول الأمطار الغزيرة في البحرين هذا العام وما يدور من شكوى الناس عن البرك والبحيرات التي تشل حركة المرور للمركبات والناس وتوقف كل مستعجل عند حده ومطالبتهم بتوفير الوسائل لمعالجتها، مرددا قول الشاعر:

فذاك زمان لعبنا به

وهذا زمان بنا يلعب

* اديب وكاتب بحريني

العدد 1651 - الأربعاء 14 مارس 2007م الموافق 24 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً