العدد 1712 - الإثنين 14 مايو 2007م الموافق 26 ربيع الثاني 1428هـ

التوافق داخل الدولة والفشل المركّب

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يتطلب التوافق داخل الدولة تحرير الخلاف فيما يتعلق بمسألة الولاء، وهي مسألة ترتبط بصلة قوية بنموذج الدولة - الأمة؛ وذلك لأن الولاء هو ناتج هذه العلاقة المفترضة بين النظام السياسي والهوية الثقافية. بل هو أساسا ناتج حاجة القادم الجديد - أي الدولة - إلى ولاء سياسي جديد وموحّد يتقوّم به. وقد نشأ مأزق الولاء حين اصطدم هذا الولاء السياسي الجديد للدولة المستحدثة بولاءات الأهالي الأولية والراسخة لطوائفهم. وبهذا المعنى، فإن استئصال ولاءات الأهالي الأولية لم يكن لصهر الطوائف في أمة موحدة منسجمة فحسب، بل لصهر كل هذه الولاءات في ولاء موحد لموقع سياسي جديد اسمه الدولة. كانت المهمة الأولى هي مهمة الوطنيين، فيما كانت المهمة الثانية هي مهمة الدولة ورجالاتها.

ويرجع أصل حاجة الدولة إلى الولاء إلى حاجتها إلى تأمين التضامن الجماعي الذي يحمي كيانها من عوامل التدمير الداخلية والخارجية. وهذه - في حقيقة الأمر - علامة على ما تمتاز به الدولة الحديثة من هشاشة، وإلا فإن الدول القوية لا تحتاج إلى تضامن جماعي يحمي كيانها. وبحسب جون جراي، فإن «الأمثلة الناجحة على قدرة النظم السياسية على تجاوز الحاجة إلى التضامن الأخلاقي والجماعي كانت هي النظم الامبراطورية (كما هي حال الرومان والهابسبورغ)، أو المؤسسات الدينية (مثل مؤسسات العالمين المسيحي والإسلامي في العصور الوسطى إبان فترات اتسامهما بأكبر قدر من التسامح) أو غير ذلك من المَلَكيات كما في حال المملكة المتحدة» (ما بعد الليبرالية، ص 414). أما في الدول الحديثة فإن المأزق ازداد حدة وخصوصا في الدول الحديثة ذات التعددية الثقافية الكبيرة. ويطرح جون جراي مفتاحا لحلّ هذه المعضلة من خلال ما يسميه «الحكومة ذات الوظائف المحدودة أو المقيّدة»، وذلك من خلال اضطلاع الحكومة بمهماتها الضرورية فقط وهي حفظ الأمن وتأمين السلام الأهلي، على أن «يُترك فيها ممارسو التقاليد المختلفة أحرارا في تعديل أشكال حياتهم وتطويرها ماداموا لا يعكّرون صفو السلم العام» (ما بعد الليبرالية، ص 415). وبتعبير آخر، إن دور «الحكومة الأول والأخير» في المجتمعات التعددية يصبح مقتصرا على الحفاظ على السلام العام، وحماية التنوع الثقافي لا من خلال دعم تقليد أو أسلوب حياة على حساب الآخرين، بل من خلال «الحفاظ على حرية الارتباط الاجتماعي» التي تسمح «للأفراد، إن هم أرادوا ذلك، (بـ) حرية استكشاف شكل الحياة الموروث والاختيار بينه وبين الهجرة عبر التراث إلى أسلوب حياة يفضلونه» (ص 409)، أي أن تترك الحرية للأفراد أنفسهم في اختيار نوع الهوية الثقافية التي يفضلونها من دون تدخل من الدولة.

أما يورغن هابرماس فيذهب إلى أن مفتاح الحل يكمن في تجاوز الصيغ الكلاسيكية لبناء الهوية الوطنية، وذلك من خلال الاعتراف بصيغة ولاء مستحدثة هي الأنسب للمجتمعات التعددية، ويسميها «الوطنية الدستورية» وهي صيغة من صيغ «ما بعد القومية»، وهي صيغة يتركز فيها «الولاء الوطني»patriotic loyalty، كما أوضحنا في مقال سابق، على «مبادئ الدستور» التي هي مرجِعية الولاء بدلا من المقولات الخلافية التقليدية من قبيل القومية والطائفة والتراث والثقافة والتاريخ المشترك وغيرها. وبحسب هابرماس، فإن هذه الوطنية هي الأكثر توافقا مع متطلبات مجتمع متعدد الثقافات، وهي أساس نافع ومفيد لبناء التوافق الوطني. ويظهر هذا الولاء في صورة انتفاع رشيد بالحقوق الدستورية في مقابل التزام واضح بالواجبات الدستورية، ومن بينها واجب الدولة في حماية مواطنيها وتوفير الأمن لهم، وهذا هو أصل معنى المواطنة بوصفها تعاقدا بين الفرد والدولة. على أن تصنّف مسألة الانتماءات القومية والدينية والطائفية والايديولوجية - حتى لو كانت عابرة لحدود الوطن - حقا من حقوق المواطن الدستورية. ولا يحدّ هذا الحق إلا في حال تعدى حدوده الطبيعية والدستورية وانقلب إلى تآمر على الدولة فعندئذ يصنف في خانة «الخيانة العظمى». ويكون من الدستوري عندئذٍ أن يُحرم المرء من حقوقه الدستورية لإخلاله بواجب دستوري؛ لأن الالتزام بالواجبات الدستورية وعدم الإفراط في استخدام الحقوق الدستورية هما - وحدهما - عنوان «الولاء الدستوري». وهذا قريب من طرح جون جراي؛ لأنه يفترض أساسا وجود حكومة ذات وظائف محدودة ومقيدة بمهمات حفظ السلام والأمن العام، ولهذا تكون مهيّأة لتقبل الخيار الذي يقوم على ضمان حياد الدولة تجاه انتماءات المواطنين، ويترتب على هذا الحياد أن تترك الدولة «ممارسي التقاليد المختلفة أحرارا في تعديل أشكال حياتهم وتطويرها».

وما سأطرحه هنا ليس جديدا، فالحديث عن الفشل العام للتوافق داخل الدولة في البحرين حديث قد تطرق إليه الكثيرون من منظورات ومنطلقات مختلفة، إلا أن معظم هؤلاء قد حصروا عوامل الفشل في موقع واحد يشغله فاعل واحد من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وهذا الفاعل هو نظام الحكم الذي جعل من عملية بناء الدولة وتأسيس الهوية الوطنية «عملية متعثرة» و «مهمة غير منجزة» بحسب عبدالهادي خلف. وهو الذي يصرّ «على حقه الطبيعي في الحكم المطلق» ما يحول دون «تفويض الشعب المزيد من السلطة» من خلال مجلس وطني يتم انتخابه ديمقراطيا بحسب محمد الرميحي (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص 421، ص 424). وهو الذي يرفض «التحديث السياسي كالتمثيل الشعبي والقانون المدني الموحّد» كما يذهب فؤاد خوري (القبيلة والدولة في البحرين، ص 21، وص 360). أما سعيد الشهابي فيُرجع فشل كل المحاولات الحديثة التي كانت تستهدف «إقامة نظام سياسي يتميز بشيء من العصرنة والتمدّن» إلى استمرار «النظام على أساس العقلية القبلية» (البحرين 1921-1970، ص299). ومن وجهة نظر إميل نخلة، فإن الأزمة في البحرين ترتبط بـ «مسألة دمقرطة النظام»، و «التوتر بين القبيلة التقليدية المستندة على حكم العائلة والمشاركة الشعبية المعتمدة على التمثيل والكفاءة وشفافية الحكومة» (البحرين: التطور السياسي في مجتمع متحدِّث، ص 275). ليس هناك من إضافة مهمة على هذا الصعيد، ولكني أتصور أن فشل الموقع السابق قد حكم على جميع المواقع الأخرى بالفشل المزمن في محاولاتها المتصلة لتحقيق التوافق العام داخل الدولة؛ ما يعني أننا صرنا نتعامل مع فشل مركّب ومتداخل ومتعدد الأطراف. وفي سياق هذا الفشل المرّكب جرى تحويل جماعات سنية (دينية وقبلية محافظة) إلى جماعات وظيفية طفيلية، وجرى اختزال دورها فيما تبيعه من ولاء نتيجة ما تتحصل عليه من منافعَ وامتيازاتٍ خاصةٍ. هذا بعد أن كان السنة المدينيون هم أكثر فئات المجتمع البحريني نشاطا وحيوية، وقد كانوا في طليعة التحرّكات الطلابية والعمالية والوطنية منذ عشرينات القرن الماضي حتى حلّ المجلس الوطني في العام 1975. وهو الحدث الذي تزامن مع صعود التيار الديني الشيعي بقوة. وفي هذا السياق الأخير جرى قلب الأدوار والموازين بحيث صار السنة محافظين سياسيا ومصنّفين في خانة «الموالاة»، في حين أخذ التيار الديني الشيعي القادم من القرى والأرياف المبادرة للمطالبة بالتغيير والإصلاح السياسي. ثم قامت الثورة الإسلامية في إيران، فاهتزّت «بنية الحقل السياسي» في البلاد اهتزازا عميقا، وإثر هذا الاهتزاز انفتح المجال واسعا أمام التشكيك في ولاء شيعة البحرين الوطني.

و «الولاء الوطني» في البحرين مقولة سياسية مستحدثة، وقد تزامن ظهورها مع ظهور الدولة الحديثة، وتبلور مفهوم «الوطن» و «الوطنية» بالمعنى السياسي الحديث. إلا أن التشكيك في الولاء الوطني قد بدأ متأخرا قليلا بحكم انعدام الانتماءات السياسية لدى المواطنين تجاه أي موقع سياسي خارجي، وذلك بحكم حقيقة واضحة وهي غياب «الدولة القومية الأم» التي تخلق حالا من التنازع الذي يشطر ولاء المواطنين إلى شطرين: ولاء للدولة الوطنية من جهة، وولاء للدولة القومية الأم من جهة أخرى. وفي العشرينات كان الشيعة البحارنة والعرب السنة هما الجماعتان الوحيدتان المصنفتان في خانة «الأهالي» أو «الوطنيين»، وبتعبير آخر كان هؤلاء هم وحدهم المصنفون على أنهم مواطنون، في حين كان الباقون بمن فيهم العجم (الإيرانيون) والنجادة (النجديون) مصنفين على أنهم رعايا أجانب. وكان من الطبيعي وغير المستنكر أن يكون لهؤلاء ارتباطات قوية بدولهم القومية الأم: العجم وارتباطهم القومي والسياسي بإيران، والنجادة وارتباطهم القبلي والسياسي بالمملكة العربية السعودية، إلا أن هذا الارتباط لم يكن موضع تشكيك لكون هؤلاء مصنفين على أنهم أجانب، ومن ثم فهم غير مطالبين بولاء سياسي مستحدث لوطن سياسي جديد اسمه: مشيخة البحرين.

ويبدو أن سيرة التشكيك في الولاء الوطني قد بدأت مع ظهور التوترات السياسية في البلاد، وخصوصا تلك التوترات التي كان تحدث بفعل تحرّكات الأهالي الذين صاروا بقوة قانون الجنسية للعام 1937 مواطنين يتمتعون بعلاقة تعاقد قانونية مع دولة حديثة النشأة وبحاجة إلى ولاء سياسي من نوع جديد.

وللحديث صلة في الأسبوع المقبل للحفر في سيرة التشكيك في الولاء الوطني.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1712 - الإثنين 14 مايو 2007م الموافق 26 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً