العدد 1734 - الثلثاء 05 يونيو 2007م الموافق 19 جمادى الأولى 1428هـ

الفقر والفقراء... قنبلة تحت أقدامنا

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

«إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله»... (هود:88).

ما بين ظاهرة الملايين من أطفال الشوارع، وتجارة تصدير الخادمات، تنام قنبلة الفقر، جاهزة للانفجار في أي وقت...

وما بين إغارة الغلاء الفاحش، وإمارة التطرف والإرهاب التي تتوسع، تلتهب قنبلة الفقر وتتحفز...

وما بين تقييد الحريات وتعميق مظاهر الكبت، تنفجر قنبلة الفقر...

هذا تلخيص متعجل لأحوال اجتماعية اقتصادية تجري إلى الوراء، بينما المفروض أنها تجري إلى الأمام، وتتغير نحو الأفضل، كما تؤكد الحكومة التي تتحدث يوميا عن الإنجازات والنمو والإصلاح... ونحن أحيانا ما نصدقها ولكن...

أما تلخيص التخليص، فيكمن في خبرين نشرتهما الصحف خلال الأيام القليلة الماضية، يعكسان حقيقة الواقع، الخبر الأول يقول إن عاملا فقيرا قتل طفلته ذات العامين والنصف لأنه لم يعد قادرا على إعاشتها وعلاجها... أما الخبر الثاني فيقول إن أحد الأثرياء الجدد أنفق نحو عشرين مليون جنيه على زفاف ابنته.

وفي الفارق الرهيب بين الوالدين والابنتين، يكمن الخلل الاجتماعي الاقتصادي الذي شوّه وجه المحروسة خلال العقود الأخيرة، فدفع الفقراء إلى القبور ورفع الأثرياء إلى عنان السماء، داقا جميع أجراس الخطر، وهو أمر يشعر به الجميع، من دون تزويق أو رياء أو إلهاء!

أمامي كومة من البحوث والدراسات، تضم أكثر من ثلاثين بحثا عن الفقر والفقراء في بلادنا، انكفأت على قراءتها طوال الأيام الماضية، اهتماما وعناية، وربما هروبا من الحوادث الدامية التي تحيط بنا من كل جانب، فليس في اعتقادي ما هو أخطر علينا وعلى أي أمة من الفقر، حين يتصاعد بوحشية، مصحوبا بالغضب والتمرد والرفض.

تحت عنوان «قضايا الفقر والفقراء في مصر» عقد المركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة، مؤتمره السنوي هذا العام، سيرا على نهج علمي رفيع، ولم تسعفني ظروف ضاغطة للاشتراك على غير عادتي، وهو عنوان جلب اهتمام قليل من المهتمين والمهمومين بحاضر ومستقبل الوطن، لكنه كالعادة لم يجلب أضواء الكاميرات وتلميع الصحف، لأنها مشغولة بما هو أقل اهتماما وأكثر بريقا وإثارة، ولأنه موضوع ثقيل الدم يعكر المزاج الصافي.

ولا أدري كيف وعلى أي نحو استقبل المسئولون وصناع السياسة وواضعو القرار، هذه المطحنة البحثية العميقة التي تغوص في قلب الوطن، والتي لايزال يتميز بها هذا المركز الجاد، منذ أن أسسه الرائد الاجتماعي البارز أحمد خليفة ـ رحمة الله، فسحر بعمقه العقول الجادة، منذ نهاية الخمسينات وطوال الستينات والسبعينات، مركزا بدأب محترم على متابعة التطور الاجتماعي ومتغيراته ومخاطره.

ولأن الأبحاث كثيرة عميقة متداخلة، فإني أقترح على مديرة المركز نجوى الفوال، تلخيصها في وريقات قليلة (إن أمكن) وإرسالها إلى كل مسئول، لعله يجد وقتا لقراءتها على عجل، ولعلها تثير الاهتمام وتشير إلى خطورة ما نجري نحوه من تدهور، يعرقل أي إصلاح أو تقدم حقيقي، ولعلها تدفع مخططي السياسات إلى إدراك الواقع، والتعرف على زوايا أخرى ومفاهيم جديدة، تختلف عما تطبقه الآن باسم الإصلاح الاقتصادي وسياساته!

والقراءة المتعمقة للواقع تقول إن المجتمع المصري، الأكبر عربيا، قد تغير كثيرا، خصوصا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، منتقلا من «مجتمع رعاية الفقراء والمهمشين بحثا عن العدالة الاجتماعية» ونزع هيمنة النصف في المئة على الثروة والسلطة، لصالح الغالبية من الفقراء ومتوسطي الحال، إلى مجتمع جديد، نكاد نقول معاكسا لسابقه، إذ عادت نسبة أقل من نصف في المئة، تهيمن وتحتكر وتقتني الثروات الفلكية، وتتغلغل في مفاصل السلطة ومسام الحياة السياسية، على حساب الفقراء المتزايدين عددا وفقرا وتخلفا.

منذ تسعينات القرن الماضي، بدأ برنامج الإصلاح الاقتصادي «الموجه من البنك الدولي وصندوق النقد ودول غربية كثيرة» يزأر في وجه الفقراء، تحت شعار اقتصاد السوق وتحرير الاقتصاد والخصخصة وبيع القطاع العام بأبخس الأسعار، وزيادة عبء الضرائب على الشرائح الأضعف وتخفيفها عن تلك الأقوى، وترك الأسعار لآليات السوق وقواعد العرض والطلب، وتخلي الدولة عن كثير من مسئولياتها درجة بعد درجة، خصوصا في مجالات الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية، بحجة أن هذا هو الأسلوب الأمثل للإصلاح والنمو، والأسلوب الأسرع للاندماج في الاقتصاد الدولي واللحاق بقطار العولمة، وعلى المتضررين وهم بالملايين ألا يقلقوا فالازدهار قادم بسرعة، فقط التضحية الآن والصبر، والعمر الطويل لمن يعش حتى يرى!

غير أن المحصلة لم تكن كذلك، وليست مبشرة باقتراب موعد الازدهار الموعود، على رغم إقرارنا أن مشروعات كثيرة واستثمارات محلية وأجنبية متزايدة، وإصلاحات كثيرة في الخدمات وبعض المرافق، وزيادة واضحة في مداخيل السياحة وقناة السويس قد تحققت، في ظل سياسة إعادة هيكلة الاقتصاد، لكن هذه الهيكلة لم يتحمل عبئها سوى الفقراء، بينما استثمرها بشراسة أغنى الأغنياء، وباتت المسافة تتسع وتتعمق بين أولئك وهؤلاء، ما أخل بالتوازن الاجتماعي وهزه بعنف فانعكس بقوة أشرس على الواقع الثقافي والتطور السياسي... سلباَ طبعا! ألتقط من بعض البحوث المشار إليها، أرقاما مزعجة مقلقة لكل ضمير، مسئولا كان أو غير مسئول، تقول إن نسبة الفقر في مصر ارتفعت حتى وصلت الآن إلى ما بين 50 و55 في المئة من مجموع السكان، متصاعدة من 6 .42 في المئة العام 1990 إلى 43.9 في المئة العام 2000، وتقول الأرقام أيضا إن الصعيد لايزال يضم مخزون الفقر الرئيسي، إذ تحتل محافظة أسيوط مثلا المرتبة الأولى بنسبة 61 في المئة، تليها سوهاج بنسبة 45.7 في المئة وبني سويف 43.6 في المئة، بينما تقل النسب كثيرا في محافظات الدلتا لأسباب معروفة، أهمها الميراث الحكومي التاريخي لإهمال الصعيد عمدا أو غفلة!

الفقر المتزايد ونسبة البطالة التي بلغت 20 في المئة، وتضخم عدد المتأرجحين عند وتحت خط الفقر «أقل من دولارين في اليوم طبقا للمقاييس الدولية»، دفعهم إلى الاستعانة بأطفالهم في الأعمال الرثة العشوائية والتسول والسرقة، بنسبة وصلت إلى 75 في المئة في الأرياف، طبعا هروبا من التعليم وبلا غطاء تأميني أو رعاية صحية، ولكن تحملا لعبء الفقر الذي يعصف بالغالبية، والذي لم ينتج سوى استمرار معدلات الأمية وزيادة العشوائية «أحزمة الفقر» المأوى الطبيعي للجريمة والانحراف والبطالة والتطرف وصولا للإرهاب المسلح! ذا في السفح الغائر للمجتمع، أما القمة، فقد اعتلتها، احتلالا وعنوة، شريحة صغيرة رفيعة هشة، من الأثرياء والأثرياء الجدد، الذين استغلوا التحولات والتقلبات الاقتصادية الاجتماعية الطارئة، لكي يقفزوا غالبا من الطبقة المتوسطة المتداعية، إلى القمة، ويكتنزوا ثروات فلكية الأرقام، بعضها غير معلوم المصدر، وبعضها الآخر من عمليات السمسرة والتجارة والتوكيلات الأجنبية والمضاربة في البورصات وممارسة الاحتكار، من احتكار استيراد السلع الغذائية، إلى احتكار شراء مصانع ومؤسسات القطاع العام بأبخس الأسعار، إلى التسابق على الاستيلاء على الأراضي النيلية والصحراوية على السواء، انتهاء بالتورط أحيانا فيما يعرف بالاقتصاد الأسود، الذي يضم تجارة السلاح والمخدرات والتهريب والدعارة، ناهيك طبعا عن سرقة أموال المصارف في صفقات مجهولة وبتيسيرات مريبة!

والنتيجة أن المجتمع المصري بملايينه الخمسة والسبعين، قد ضربه الخلل ففقد التوازن الوسطي الذي كان عنوانا تاريخيا له، وعرف الصراع على لقمة العيش الذي يستدعي رفع السلاح، وغزاه التطرف والعصبية، مع الإحباط وفقدان الأمل في غد أفضل، بينما الملايين تتزايد وتتزاحم على كعكة صغيرة، من الموارد الطبيعية المحدودة.

مصر بملايينها، سواء كانوا بالأمس عشرين مليونا، أو أصبحوا سبعين مليونا، لم تكن أبدا دولة غنية الموارد بالمعنى السائد في العصر النفطي، ولكن مواردها الرئيسية كانت ومازالت تكمن في العنصر البشري، وهو ما كانت تتميز به، من الفلاح المجتهد والعامل الماهر والصنايعي الشاطر، إلى علماء الطب والذرة، ورواد الفكر والفن، وعظماء الصحافة والثقافة وخبراء القانون والسياسة... بشرط إعدادهم وتأهيلهم على أعلى مستوى.

عبر التاريخ، لم يبنِ مصر الأثرياء والمتاجرون والسماسرة وناهبو الأموال، ولكن بنتها الطبقة المتوسطة مع الفلاحين والعمال المهرة، فإن تدهورت أحوال هؤلاء جميعا إلى درجة أن نصف المجتمع أصبح تحت خط الفقر، فماذا يبقى لهذا المجتمع، وماذا يبقى منه إلا معارك الهوامش على الهوامش؟!

ولنا عودة بإذن الله...

خير الكلام:

قال عمر بن الخطاب: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها!

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1734 - الثلثاء 05 يونيو 2007م الموافق 19 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً