العدد 2260 - الأربعاء 12 نوفمبر 2008م الموافق 13 ذي القعدة 1429هـ

مذكرات عبدالرحمن النعيمي...عدن وأحلام القرامطة الجدد... واقتراب ألسنة اللهب من مضيق النفط

وصلت بيروت في الثامن من أبريل/ نيسان 1970، بعد أن تقرر ابعادي من المنطقة برمتها، حيث لم يعد ممكنا العودة الى البحرين او اي بلد خليجي، بحسب ما قال لي ضابط المخابرات البريطاني في إمارة ابوظبي (هنسن)، وكانت المحطة الاولى في بيروت هي فندق مشرق، (ابوليرتين لبنانيتين) في تلك الفترة، حيث تعود الكثير من ابناء البحرين على السكن فيه لقربه من الجامعة الاميركية، وبكونه في منطقة الحمراء، القلب الثقافي للعاصمة اللبنانية في تلك الفترة، وحيث الذكريات التي لا يمكن لطلاب الجامعة الاميركية ان ينسوها، حيث مطعم فيصل ملتقى القيادات البعثية، وقهوة انكل سام التي تعودنا، ايام الدراسة، ان تكون محطة اللقاء المستمرة، وشارع جان دارك والنادي الثقافي العربي، معقل القوميين العرب، قبل ان تندلع الحرب الاهلية في منتصف السبعينات.

ومن تلك المحطة كان من الطبيعي التوجه الى الجامعة الاميركية، والى مكتبتها العامرة بالكتب التي يصعب الحصول عليها في ايام مكتبة، ثم الى مقر رابطة طلبة البحرين في بيروت، تلك الرابطة التي تحتفظ بذكريات سنوات العمر الدراسي في تلك العاصمة، لكن المكان قد تغير، ومن الرابطة تعرفنا على العديد من الاخوة الطلبة الدارسين في الجامعتين الاميركية والعربية وعلى الرفاق الطلبة المرتبطين بالحركة الثورية الشعبية، وبحركة الكفاح المسلح في ظفار، بالاضافة الى مقر جريدة الحرية التي سيطر عليها يسار حركة القوميين العرب في لبنان (بقيادة محسن ابراهيم ومحسن كشلي ونايف حواتمه) الذي اعلن انشقاقه عن حركة القوميين العرب، في بيانه التاريخي في مطلع العام 1968، وكانت الحركة الثورية الشعبية في عمان والخليج العربي احد الروافد الاساسية لذلك التيار. اضافة الى ضرورة معرفة توجهات المكتب السياسي بالنسبة لاحد اعضائه الخارج للتوه من سجن ابوظبي، وماهي المهمات التي ستوكل اليه في الفترة المقبلة.

وخلال تلك الفترة القصيرة، كانت لنا جلسات مطولة وممتعة مع احد المناضلين الذين غيبهم الموت، المرحوم الدكتور علي تقي الذي كان قد تخرج لتوه من باريس في طريق عودته من باريس، والذي كان شعلة سياسية وفكرية لا يمل النقاش ويملك موهبة قيادية كبيرة في استقطاب الحاضرين، بالاضافة الى العديد من الشخصيات الطلابية السياسية البحرينية التي أطالت فترة وجودها في الوسط الطلابي، وخاصة في تلك الفترة التي شهدت الحركة القومية بفرعيها (الحركي والبعثي) انشقاقات حادة، برزت من بينها جبهة تحرير شرق الجزيرة العربية، وجبهة تحرير الخليج، والجبهة الديمقراطية الشعبية في البحرين، وكان هناك عدد من الطلبة القدماء الذين يروجون لافكار هذه المنظمات الماركسية، ويشكلون جزءا من المجاميع العربية من مختلف البلدان العربية التي وجدت في بيروت او سورية بعد استيلاء يسار البعث على السلطة افضل موقع للتفاعل مع حركة المقاومة الفلسطينية التي تمركزت في الاردن، لكنها كانت تتسلل الى لبنان، حيث مخيمات الفقر التي ازدهرت فيها كل منظمات العمل الفدائي في تلك الفترة.

في تلك الفترة، كان توجه الحركة الثورية الشعبية في الوسط الطلابي هو انشاء منظمة طلابية ثورية تشكل واجهة للحركة، وتم تشكيل منظمة الطلائع الثورية التي شكلت حلقة الوصل بين جسم الحركة في الخليج وعمان والعناصر الحزبية والصديقة في الوسط الطلابي في القاهرة وبيروت والكويت وبغداد ودمشق، والتي كانت منشغلة بدرجة كبيرة مع بقية الفصائل الطلابية (عبر الفروع الطلابية) بتوحيد الحركة الطلابية البحرينية واقامة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين.. و كان من الطبيعي ان يكون التوجه الى عدن، فقد كان غالبية الرفاق في المكتب السياسي في دبي، ولم يكن ممكنا الوصول اليهم، وكانت الحركة الثورية الشعبية قد شكلت لجنة للعلاقات الخارجية دخلت في حوارات مع التنظيم السياسي - الجبهة القومية ومع الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، وتم الاتفاق على التعاون بارسال كوادر من الحركة الثورية الشعبية الى كافة المواقع الاعلامية والسياسية وغيرها، وكان في مقدمة من سافر الى عدن الرفيق جهاد (عبدالمنعم الشيراوي)، والرفيق محمد غلوم والرفيقة هدى سالم.

في بداية مايو 1970 تم السفر الى عدن، وكان الاخوة في الجبهة القومية قد وضعوا معسكر جمال (وهو من المعسكرات البريطانية الاساسية في منطقة خور مكسر، حيث كانت ابرز وأهم القواعد البريطانية في مرحلة الاحتلال البريطاني للجنوب اليمني حتى اجلاء القوات البريطانية في 30 نوفمبر 1967، وبقيت الكثير من المساكن العسكرية في عموم القاعدة فارغة، تحولت لاحقا الى سكن للعديد من العائلات الفقيرة النازحة من مختلف مناطق الجنوب اليمني، اما البيوت الفارهة وسكن الضباط، فقد تم الاستيلاء عليها من قبل قيادات الحزب الحاكم) تحت تصرف الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، وتحول جزء منها الى محطة استقبال للقادمين من الخارج، سواء من الاحزاب العربية الصديقة او الكوادر الحزبية العمانية والبحرينية، وغيرها، وكان المعكسر مزودا بطاقم خدمات متكامل. وكان الرفاق من البحرين نموذجا للعناصر الحزبية التي تتمتع بانضباط حزبي كبير، وبالسلوك الاخلاقي المشهود له، والتفاني في العمل ونكران الذات، فقد تخلوا عن كل الامتيازات التي يمكن لهم الحصول عليها في بلدانهم او وسط عائلاتهم، وخاصة الرفيقة هدى سالم، التي كانت اول مناضلة من البحرين من عائلة مرموقة تغادر موقعها الطبقي والدراسي وتتوجه الى عدن، المحطة الاولى لظفار. فقد كانت احلام الثورة والتغيير تتملك جميع تلك العناصر الطلابية الثورية، بل يمكن القول إنهم كانوا سكارى بالاحلام الثورية، فمن هنا، من عدن وظفار، يمكن تحرير الخليج برمته، والتخلص من كل الاسر العشائرية المسيطرة عليه بقوة الحماية البريطانية. والنموذج اليمني الجنوبي واضح للعيان، فقد امكن للجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني من اسقاط اربعة وعشرين سلطنة وامارة يحكمها مشايخ وسلاطين، اضافة الى مستعمرة عدن، ووحدت جنوب اليمن في جمهورية شعبية ديمقراطية ألغت كافة الامتيازات القبلية والطائفية والمناطقية، وبات الناس سواسية امام القانون، واستنهضت قدرات فئات اجتماعية مسحوقة، من بقايا عبيد السلاطين الى الفلاحين الفقراء الى السماكين وفئات مهمشة اجتماعيا ومسحوقة طبقيا، وتوجهت الى المرأة لاستنهاض قدراتها لتحتل مواقع متقدمة في الحزب والدولة.

لايمكن المزايدة على العمانيين في القتال (خاصة ابناء ظفار الذين يولدون والبنادق بايديهم)، ولا يحتاجون الى متطوعين من مناطق الخليج، فقد كانوا مدرسة قتالية متميزة، لكنهم بحاجة الى كوادر سياسية، اعلامية، واطباء، ومدرسين، فنيين، ويمكن للعديد من ابناء الخليج الاخرى ان يتعلموا من العمانيين فنون حرب العصابات والعمل المسلح في هذه المنطقة الوعرة من جنوب الجزيرة العربية، بل يمكن القول ان ظفار، بعد مؤتمر حمرين (سبتمبر 1968) قد اعتبرت نفسها جزءا من الواقع الثوري العربي برمته في جنوب الجزيرة العربية، وساحة لقاء لكل الرافضين للواقع السياسي في عموم الجزيرة العربية، وهكذا وجدنا الحزب الديمقراطي الشعبي (المملكة العربية) يرسل عددا كبيرا من كوادره بعد حملة الاعتقالات في نهاية الستينات الى ظفار للتدرب على حرب العصابات كمرحلة تمهيدية للعمل المسلح في الجزيرة العربية، لتودع ظفار اول شهيد من الجزيرة العربية (نايف) في نهاية العام 1969. ولم يقتصر الامر على ابناء الجزيرة العربية، وخاصة اليمنين، بل نسجت الجبهة الشعبية والحركة الثورية الشعبية علاقات متينة مع اليسار القومي الذي خرج من رحم حركة القوميين العرب بالدرجة الاساسية، ولم تتمكن من نسج علاقات مع يسار البعث، وخاصة بعد ان قامت حكومة البعث (في مرحلة صلاح جديد، عام 1969) بشن حملة اعتقالات طالت الكثير من العناصر العمانية من ظفار، واجبرتهم على مغادرة سورية، حيث شكلوا نواة اساسية للعمل الحزبي في تلك الفترة.

في عدن، من يمنيين وعمانيين وغيرهم، الانظار متجهة الى عمان الداخل، وماهي قدرات الحركة الثورية الشعبية على العمل العسكري، وما علاقة العمل العسكري القادم بالجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، وهل تم الاتفاق مع حزب العمل العربي في عمان، وماهو موقف التجار المؤيدين للحركة... الخ من تساؤلات. وكان من الطبيعي ان تنهال الاسئلة على عضو المكتب السياسي القادم من لبنان، ولم يكن ممكنا الاجابة عليها في ظل الانقطاع بين اعضاء المكتب السياسي الذين تفرقوا (فقد تعرض اثنان منهم للاعتقال في ابوظبي، ونظرا للخلافات مع الشخصية البارزة في دبي فقد تم الابتعاد عنه، اما البقية فقد قرروا الدخول الى عمان الداخل في الشهر الرابع من 1970، بعد ان طلبت قيادة عمان الداخل منهم ذلك، لاستكمال الحوار بين الحركة الثورية الشعبية وحزب العمل العربي من جهة، وللحاجة اليهم ككوادر سياسية، وهكذا وجد احمد حميدان واحمد الربعي انفسهما في مدينة مطرح منذ نهاية الشهر الخامس وقبل اندلاع العمليات العسكرية في 12 يونيو 1970 في عدد من مراكز الجيش في عمان الداخل، ليتم اعتقالهما مع عدد من الكوادر الحزبية العمانية في الثامن عشر من الشهر نفسه.

ماهي المهمات التي يمكن القيام بها مع الرفاق العمانيين في عدن او غيرها، وخاصة ان الانسان لا يملك الكفاءات العسكرية، اضافة الى وجود حاجة ماسة الى تطوير وتعزيز قدرات الرفاق في مكتب عدن واللجنة السياسية للجبهة. وامام التطور الكبير في العمل العسكري والانتصارات التي حققها جيش التحرير والسمعة العربية والدولية التي احتلتها الثورة، برزت الحاجة الى سياسة اعلامية وخطط اعلامية تكمل وتقدم صورة عما يجري في ساحة المعارك في ظفار، وكان ذلك من المهمات التي يمكن القيام بها في عدن.

قبل انتصار الجبهة القومية في اليمن الجنوبي، كان النشاط الاعلامي للمقاتلين في ظفار قد تمركز في القاهرة، ابان فترة جبهة تحرير ظفار، وكانت الشخصية الابرز في الجبهة الاعلامية والسياسية هو السيد يوسف علوي (وزير الخارجية العماني الحالي) الذي افترق عن الجبهة بعد مؤتمر حمرين مع عدد من القيادات القبلية والسياسية التي رفضت التحول الفكري والسياسي للجبهة واعتبرت ان الشيوعيين قد سيطروا على الجبهة، ولم تتخذ القاهرة الناصرية موقفا مضادا من الجبهة بعد التحولات الفكرية والسياسية لها، حتى جاءت مبادرة روجرز وقبول عبدالناصر لها، واتخذت الجبهة موقف اليسار الفلسطيني من تلك المبادرة مما دفع الحكومة المصرية الى اعتقال مندوب الجبهة، واغلاق مكتبها في القاهرة.

العدد 2260 - الأربعاء 12 نوفمبر 2008م الموافق 13 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً